أما هذا الشيخ العارف باللاهي لا بالله فقد أفتى فتويين متناقضتين غريبتين عجيبتين:
وقعت خصومة على مال بين تاجرين مغربيين أحدهما يهودي والأخر مسلم، فانطلق اليهودي إلى الشيخ المفتي فعامله بالمعاملة التي تقدم ذكرها وأخذ منه آلافا من الدراهم وأصدر له فتوى تحتم على القاضي أن يحكم له، فقال القاضي للتاجر المسلم: هات ما ينفعك من الحجج، فذهبت زوجته وكانت إسبانية إلى المفتي نفسه الشيخ المتصوف العارف وسلمت له ستة آلاف درهم فأصدر لها فتوى تحتم على القاضي أن يحكم لزوجها على خصمه اليهودي.
وكانت المحاكمات في زمان الاستعمار كلها تترجم باللغة الإسبانية ويطلع عليها الحكام الإسبانيون قبل إصدار الحكم، فترجمت الفتويان المتناقضتان ورفعتا من حاكم إلى حاكم حتى بلغتا إلى المقيم العام وهو الحاكم الأعلى فغضب غضبا شديدا، وكتب إلى خليفة السلطان مولاي الحسن بن المهدي يقول: نحن لم نرد أن نتدخل في شريعتكم فتركناكم أحرارا تحكمون في محاكمكم بشريعتكم، وأنتم تزعمون أن هذه الشريعة وضعها لكم محمد، وهو أخذها من القرآن الذي هو كلام الله حسب اعتقادكم، فانظر إلى هاتين الفتويين المتناقضتين الصادرتين من مفت واحد يقول: إن الشريعة الإسلامية تجعل الحق لليهودي ولخصمه في قضية واحدة؛ فإما أن تكون شريعتكم في أصلها فاسدة باطلة، وإما أن تكونوا قد كذبتم على الله وعلى محمد. هذا معنى ما كتب به المقيم العام إلى خليفة السلطان في شمال المغرب.
فلما قرأ الخليفة كتاب المقيم العام أصابه من الغم والحزن ما كاد يقتله، فدعا الوزراء والمستشارين وغضب عليهم غضبا شديدا وقال: ألا ترون إلى هذا المجرم كيف فضحنا عند الأجانب وألصق بشريعتنا كذبا وزورا وطمعا هذا الخزي، فماذا يستحق من العقاب؟ فقالوا كلهم الرأي لسيدنا فقال: اتقوا الله وقولوا ما أوجب الله عليكم فأعادوا جوابهم. فقال: أنا أحكم عليه بالعزل من جميع المناصب الدينية والعلمية والدنيوية، ولو قدرت على أكثر من هذا لحكمت عليه به، فعزل من الإمامة والخطابة والوعظ والشهادة ولم يبق له شيء إلا منصبا واحدا وهو رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى، لأن هذه لم تكن بيد الخليفة بل كانت بيد المستعمرين الإسبانيين ولكن الإسبانيين لما رأوا الخليفة قد عزله من جميع المناصب التي في يده عزلوه هم أيضا من رئاسة المجلس الإسلامي فبقي لا يجد ما ينفق.
وقد رأيت من المستحسن أن أذكر هنا نخبة من القصيدة الموسومة (فاو (3)) وهذا لفظ ألماني وترجمته القنبلة الموسومة برقم (3) وفرق بين هذه القنبلة الحنيفية وبين القنبلة الهتلرية، فإن العدو الذي كان يحارب بالقنبلة الهتلرية استرجع قوته وانتصر على هتلر، أما عدو الحنيفية فكانت تلك القنبلة قاضية عليه ولم تقم له بعدها قائمة وهذه نخبة من القصيدة المشار إليها:
أتشتمني يا ابن اللئام بلا سبب
وأنت- يمين الله- قرد بلا ذنب
فلا أنت ذو علم ولا أنت ذو حجى
ولا أنت ذو تقوى، ولا أنت ذو حسب
ولا أنت ذو عرض مصون موقر
ولا أنت ذو حلم ولا أنت ذو نسب
شوى الحسد الممقوت قلبك في لظى
فأصبح يبدو اليوم من فمك اللهب
رأيت صنيع الله بي وهباته
فنالك منها كالجنون وكالكلب
تريد بقول الهجر تطفئ نوره
ومن رام يطفي نوره مسه العطب
وذلك فضل الله يوتيه من يشا
فمن ذا الذي يستطيع منعا لما وهب
تحارب رب الناس في أوليائه
ومن حارب الجبار أودت به الحرب
وقد وعد الرحمن بالنصر حزبه
بأن لهم دوما على المعتدي الغلب
ومن يقف سنات الرسول وهديه
وينصره يصبح ظافرا عالي الرتب
ومن يخلص التوحيد لله وحده
يكن ممسكا في دينه أيما سبب
فلا نزغات الشرك توهن عزمه
ولا نفثات البطل تثنيه إن وثب
ولا هجر دجال مهين يضيره
متى كان نبح الكلب يستوقف الشهب؟!
وذلك ولي الله جل جلاله
يدافع عنه ربه حيثما انقلب
ففي يونس فانظر كريم صفاته
ودع عنك قول المسرفين ذوي الشغب
فإيماننا بالله ثم تقاته
ولايتنا لله كل بها اقترب
سلام على أهل الحديث فإنهم
هم الأولياء حقا وغيرهم كذب
هم حكموا قول الرسول وقد قفوا
منهاجه في السر والجهر بالأدب
وكل نزاع يرجعون لقوله
ويرضون حكم المصطفى حيثما وجب
فما اتخذوا من دونه من وليجة
ولا مذهب زيد وعمرو له ذهب
يدينون بالتوحيد في كل مسلك
نبي ورب ثم دين له انتسب
فلا رب إلا الله، ثم محمد
إمام وأهل العلم في قفوه سبب
له دعوة الحق التي يستجيبها
ومن يدع غير الله قد خاب في الطلب
وما كان من أهل الحديث منافق
عليم لسان للفضائل ما انتدب
ومن يتركن يوما حديثا مصححا
فما له من علم الحديث سوى النصب
دعوا كل قول غير قول محمد
أتستبدل الأحشاف يا قوم بالرطب؟!
ومن يعدلن قول الرسول بغيره
فقد عدل الهندي والند بالحطب
انتهى المراد نقله منها.
من كتاب الدعوة إلى الله في أقطار مختلفة، ص: 57