معارضة قصيدة ابن زيدون التي مطلعها:
أضحى التنائي بديلا من تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
عَنَّ لي وأنا بغرناطة من بلاد الأندلس، عام أول أن أعارض تلك القصيدة، وأنى يبلغ الظالع شأو الضليع؟
ولكن كما قيل:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالكرام فلاح
وقبل أن أشرع في نشر قصيدتي أهيب بشعرائنا أن ينظموا قصائد في معارضة القصيدة المذكورة إحياء لذكرى الأدب الأندلسي الذي هو زينة الأدب العربي وفريدة عقده. وقد عارضها شوقي بقصيدة في الحنين إلى الوطن، حين كان منفيا بالأندلس، غير أنه ملأ تلك القصيدة بالفخر والحماسة الوطنية، فاختلفت بذلك وجهة القصیدتین: الزيدونية والشوقية، وذلك مخل بالمعارضة. على أن قصيدة شوقي هذه ليست من أجود شعره، فلذلك بدت معارضته ناقصة، مع أنه أقدر أهل عصره، أو من أقدرهم على معارضة ابن زيدون. ونحن لا مطمع لنا في أن نأتي بمثل شعر شوقي فضلا عن شعر ابن زيدون (ولكن فان لم يصبها وابل فطل). وهذه هي القصيدة:
هل بعد عشر مضت بالبين تكوينا
يغير الدهر يوما حكمه فينا
وهل ظلام الأسى الغاشي لأنفسنا
يجلوه نور ابتهاج من تلاقينا
متنا وإن لم نكن في القبر بعدكم
من لوعة وأسى قد كاد يفنينا
وما لنا باعث إلا لقاؤكم
فالبين يقتلنا والوصل يحيینا
فالشمس ليست بشمس بعد بينكم
والبدر ليس ببدر في نواحينا
عم الظلام فلا نور يلوح لنا
إلا سنا أمل يبدو أحايینا
***
يا من لقلب غدا بالشوق محترقا
يذيقه الوجد آلاما أفانينا
یا جنة كان فيها عيشنا رغدا
ولدانها من رحيق الأنس تسقينا
رضوانها بالرضى والبشر يلحظنا
وماء أنهارها المسكوب يروينا
وريح أزهارها بالعطر تبهجنا
وظل أشجارها الألفاف يؤوينا
وخمرها دون غول السكر يثملنا
والطير فوق أفانين تغنينا
كأنها خطباء في منابرها
ترتل الوعظ تذكيرا وتبیینا
والدهر في سنة والسعد منتبه
حال بها شرقت غيظا أعادينا
حتى أتانا مريد البين يخدعنا
بالأكل من دوحة الآمال يغرينا
لما أكلنا من المحظور بان لنا
أنا اقتطفنا رزايانا بأيدينا
فأصبح الوصل بينًا، والصفا كدرا
والأنس حزنا، وكأس الراح غسلينا
وقد هبطنا وأمر الله ليس له
رد إلى الأرض أشتاتا مثاوينا
فالشمل مفترق، والهم مجتمع
والشوق يبسطنا، واليأس يطوينا
وإن عتبنا على الأيام جفوتها
أو اشتكينا إليها ما يُعَنِّينا
فقد عتبنا على من ليس يعتبنا
وقد شكونا إلى من ليس يُشْكينا
متى رأينا أخا وجد نرق له
ونسكب الدمع فيما ليس يعنينا
إن المصائب فيما بيننا سبب
مؤلف جامع بين المصابينا
حتى الحمائم في الأغصان تسمعها
تبكي هديلا فتشجينا وتبكينا
نام الخلي وبتنا من تذكرنا
نرعى النجوم سهادا في ليالينا
أجفاننا قد جفاها النوم مذ زمن
وهل يذوق الكرى من بات محزونا
لا يأس من رحمة الوهاب إن له
لطفا بعاصفة البأساء مقرونا
عل الذي قد شفا يعقوب من حزن
ورد ملك سليمان سيشفينا
****
يا نازحين وهم في القلب قد سكنوا
غائبين وهم في الذكر ثاوينا
إنا نحييكم مع كل شارقة
وكل غاربة دوما فحيونا
وطالما هب من أرجائكم أرج
مع الصبا فملا طيبا مغانینا
ما سرنا بعدكم شي نلذ به
إلا وذكراكم نأتي فتشجينا
ولا غفونا غرارا في مضاجعنا
إلا وطيفكم باد يناجينا
نعلل النفس بالآمال نبسطها
حينا وتغلبنا أشجاننا حينا
فالقلب منفطر، والدمع منهمر،
والصبر منعدم، والشوق يبرينا
لو كان شوق يقل الدهر صاحبه
لكان عن طائرات الجو يغنينا
(إنا قرأنا الأسى يوم النوى سورًا)
لكننا لم نلق الصبر تلقينا
بان الحبيب فلا شيء يصبرنا
عنه ولا شيء في الدنيا يسلينا
من كانت الراح والأوتار تشغله
عن حبه لم يزل في الحب مسكينا
والحب ذو درجات لا تعد وقد
نلنا أعاليها بين المحبينا
خلع العذار غدا في الحب مذهبنا
بحنا استرحنا ولم نعبأ بواشینا
حتى لقد عدل العذال عن عذل
لما رأوا قولهم بالحب يغرينا
فليس يشفي وصال بات مختلسا
والقلب يخفق خوفا من مراعينا
والحب دون عفاف لا بقاء له
فليس غير الهوى العذري يرضينا
***
أحبابنا ما شككنا في وفائكم
ولا نرى أنكم فينا تشكونا
ونحن نعلم لا ريب يخامرنا
بأنكم مثل ما نلقي تلاقونا
وإن يكن حال بعد دون وصلكم
فأنتم عن وداد لا تحولونا
والغدر في الحب ذنب ليس يغفره
إلا الذي حاد عن نهج المحقینا
لا خير في مقة ليست مبادلة
بين المحبين اخلاصا وتمكينا
عليكم من سلام الله أطيبه
ما غنت الورق في الأغصان تلحينا
وفاح مسك وما هب النسيم على
روض يضاحك فيه الورد نسرينا
وما تحرك قلب من صبابته
فعاد تحريكه بالوصل تسكينا
مجلة لسان الدين: الجزء 10 السنة 1 – جمادى الأولى 1366 – 1 أبريل 1947 – ص: 36-42