مقدمة في شعراء الإصلاح بالمغرب في العصر الحديث(1):
شعر الإصلاح باب واسع في الأدب العربي، تناوله الأدباء إلى جانب الفقهاء والدعاة والعلماء، ولما كان هذا اللون هو من الشعر الوطني والشعر القومي؛ فقد كان من الطبيعي أن تكون قاعدته نضالية ثورية توجيهية، وأن يكون منظاره واقعيا ملتزما ذا غاية تعبيرية تحررية، “فإذا كان الشعر ديوان العرب في القديم فإن هذا اللون منه أحرى أن يكون اليوم ديوان الحركات التحررية التي نشأت في العالم العربي منذ النهضة الحديثة”(2).
إن شعر الإصلاح شعر إسلامي الرؤية، شمولي التصور، واسع الق، فهو من جهة امتداد لشعر صدر الإسلام وللشعر الإسلامي القديم عموما، وتجاوز لهما من جهة أخرى من حيث كونه جامعا لحقيقة الكون، وحقيقة الحياة، وحقيقة الإنسان، ومنفتحا على كافة المدارس الشكلية وسائر الاتجاهات الفنية.
إن أعلام هذا اللون من الشعر بالمغرب في الفترة الحديثة أكثر من أن يأتي عليهم عد أو حصر، ولكن أبرزهم على الإطلاق هو علال الفاسي، ومحمد المختار السوسي، ومحمد تقي الدين الهلالي، ومحمد المهدي الحجوي، ومحمد الحزولي.
لم ينحصر هذا الشعر في فترة الحماية، بل ظل حاضرا باستمرار، مواكبا للتطورات التاريخية والتغيرات الاجتماعية والتحولات السياسية والمذهبية، ويمثل هذا الاتجاه في الوقت الحاضر نخبة من الرواد نذكر من جملتهم حسن الأمراني، ومحمد علي الرباوي، ومحمد بنعمارة، ومحمد المنتصر الريسوني.
لقد كانت الحركة الإصلاحية في عهد الحجر والحماية تحارب في واجهتين: أجانب والطرقيين فأصبحت في الوقت الحالي تناضل في الجبهات كافة.
على أن هناك شعراء المذهبيات المعاكسة لشعر الإصلاح والمقاومة، الممالئين للاستعمار، الموالين للأنظمة الجائرة، المناصرين للطرقية، وأغلب هؤلاء كانوا إما كتبة للإقامة العامة، أو نظارا للأحباس، أو قضاة بالمحاكم، أو باشاوات، أو طرقيين، أو شعراء متكسبين.
كما كانت جريدة السعادة منبرا حافلا لهؤلاء، وفي طليعتهم محمد بوجندار، وعبدالله القباج، ومحمد الشنقيطي البيضاوي، ومحمد بن إبراهيم شاعر الحمراء، ومحمد الصبيحي، وأحمد بلبشيري، وأحمد بن المواز قاضي القضاة، وإدريس البوكيلي، وهلم جرا..
هذا؛ ويمكن حصر مجالات شعر الإصلاح وآفاقه فيما يأتي:
1- الدعوة إلى محاربة الشرك، وبدع الطرقية والتقليد، والرجوع على سيرة السلف الصالح.
2- الدعوة إلى التعلم والتعليم.
3- الدعوة إلى الوحدة ( وحدة العقيدة، ووحدة اللغة، ووحدة الصف..).
4- الدعوة إلى الجهاد والمقاومة.
5- الشعر السياسي.
وبعد؛ فإن شعر شيخنا الدكتور محمد تقي الدين الهلالي الذي نسعى إلى قراءته، مرجئين وصف ديوانه الكامل: فضل الكبير المتعالي، إلى مقام آخر.؛ أنموذج حي ومعبر عن هذا اللون من الشعر.
محمد تقي الدين الهلالي شاعرا:
شخصية الدكتور محمد تقي الدين بن عبد القادر الهلالي الحسيني(3) شخصية موسوعية عالمية، وعبقرية نابغة، شخصية متعددة الاهتمام، واسعة الاطلاع، قوية التكوين، غزيرة الإنتاج، جيدة العطاء، مما أكسبها تميزا وتفردا واعتلاء، جمعت بين التأليف والتحقيق والترجمة، وبين الدعوة والخطابة، فهو محدث ومفسر وفقيه ومفت، ومفكر لغوي وكاتب، وشاعر مشارك(4)، لكنه للأسف شاعر مغمور من زمرة الشعراء المظاليم، أو شعراء الظل الذين لم يؤتوا حقهم من الإنصاف والإجلال والإكرام، فضلا عن التعريف والتحليل والتقويم في جميع نواحي عمله المعرفي.
لقد اشتهر شيخنا الدكتور الهلالي حقا عالما فذا، وداعية مبرزا، ولكنه لم يعرف أديبا لغويا، ربما لغلبة جانب الفقه لديه على جانب الأدب، أو إغفال شعره، لا لشيء سوى كونه فقيها ومصلحا!.
إن العلامة الهلالي أنموذج للأدباء الفقهاء(5)، السلفيين، وواحد من الشعراء الدعاة(6)، المصلحين بالمغرب في العصر الحديث، أمثال علال الفاسي وعبد الله كنون ومحمد المختار السوسي، وغيرهم كثير.
يعود أول عهد الهلالي بقرض الشعر على طور الشباب قبل أن يهجره، للاشتغال بعلوم الدين، والدعوة إلى الله، ولولا ذلك لبلغ فيه مبلغا عظيما، وأقدم محاولة له وقفنا عليها يعود تاريخها إلى بضع وثلاثين وثلاثمئة وألف هجرية، وقد نظمها الشاعر بمدينة المشرية الجزائرية، لما منع الفرنسيون العرب من شراء الخبز، وبعث بها إلى الشيخ محمد بن عبد الكبير، وهي من بحر البسيط، يقول فيها:
لهفي على جابر فمذ فقدنا
قد صار أسفل هذا الناس أعلاه
والعكس بالعكس والفؤاد ذاب طوى
لا أوحش الله مما كان يملاه
فيا ابن حبة لا فجعت فيك فما
أعز وقعك في جوفي وأحلاه
إن كان عندك شيء فابعثن به
لوجه ربك لا إله إلا هو
( الديوان 166)
ولعل أحدث نص شعري خلفه الهلالي قصيدته المؤرخة في 28 محرم 1400هـ، هذا مطلعها:
قفا نبك من ذكرى حديث وقرآن
ودين عفت آياته منذ أزمان
قلته شعوب كان في الناس أهلها
حماة له من كل بغي وعدوان
فأضحى غريبا بعدما كان قائما
يصول بحد السيف في كل ميدان
(ملحق الديوان، حرف النون)
هذا؛ وغالبا ما كان يشير رحمه الله، إلى تاريخ النظم، مذكرا بمناسبته ومقامه، وقد ضاع الكثير من إنتاجه الشعري من كثرة الأسفار، ومداهمة الاستعمار، إلا ما بقي منشورا في ثنايا الصحف والمجلات والمؤلفات، أو مطبوعا طبعة مستقلة، أو مقيدا في كراسات، أو محفوظا عند أصدقائه، أو عالقا بالذاكرة.
غير بعيد أن يكون الهلالي قد بدأ تجربته شاعرا مصلحا، واستمر على هذا المنوال، وربما وجدنا تفاوتا في الشاعرية والأسلوب، أو اختلافا في الأغراض والمعاني من نص إلى آخر، ولكنها تسير عموما في المنحى نفسه، وتخدم الغرض ذاته.
إن تجربة الهلالي تجربة طويلة متجذرة تزيد على نصف قرن من الزمن، غنية متدفقة، ومتنوعة في مناسباتها وسياقاتها، في موضوعاتها ومضامينها، وفي أشكالها ومبانيها. فقد اشتمل شعره على أغراض أساسية، يجمعها قاسم مشترك، أو تيمة رئيسة بالتعبير المعاصر هي الإصلاح، تندرج في هذه الأغراض عدة مضامين ومعان، هذا إلى ما احتوى عليه شعره من أنماط البناء، وما ركب عليه من ضروب اللغة وصيغها وتراكيبها، وما دبج عليه من أفنان البلاغة وأساليبها، وما نظم عليه من أنواع البحور وأوزانها..
الموضوعات:
صنفنا الموضوعات تصنيفا إجرائيا، بمعنى أن النص الشعري قد يشمل موضوعات عديدة، وقد يقتصر على واحد منها، كما أنها مرتبة ترتيبا كميا وكيفيا، وتأتي في طليعتها:
1- الدعوة على محاربة الشرك، وبدع الطرقية، والتقليد، والرجوع إلى سيرة السلف الصالح:
تناول الشاعر الهلالي في هذا المحور وصف رحلاته في تبليغ رسالة الإسلام في البوادي والحواضر، وذكر معاناته وصبره على الشدائد والهول، قصده في ذلك وجه الله، وهداية الناس إلى صراطه المستقيم، وقد ضمنها مذكراته (الدعوة إلى الله في أقطار مختلفة)، من ذلك قوله بالمدينة المنورة في 21شوال1347 هـ، من بحر الطويل:
خرجت بحمد الله للبدو داعيا
إلى الله حسبي ناصرا، وكفانيا
على جمل صعب بطيء مسيره
وقر شديد في الشتاء عرانيا
بأرض قفار لا أنيس بها سوى
أبي جعدة يعوي على الحزن عاليا
وإلا قليلا من أعيرابها وهم
كمثل وحوش في الفلاة رواعيا
تحملت في ذاك المسير شدائدا
أريد به وجه الذي برانيا
تركت وثير الفرش من لذة الغذا
وراحة جسم في المقام بداريا
فواله لا مالا أريد به ولا
لرفعة جاه كنت إذ ذاك ساعيا
ولكن مقصودي هداية معشر
غدوا في قفار ما رأوا قط هاديا
(الديوان، ص 159-160)
وينتقل الشاعر رحمه الله، إلى هجو الطرقيين والمتصوفة الغلاة، إذ لا يقلون شركا وضلالة عن المبتدعين والمشعوذين (في نظره)، من ذلك قوله في الهند سنة 1342هـ، في معرضة قصيدة أحد غلاة متصوفة الزمان، وهي من بحر البسيط:
أما ذوو الطرق من للصوف قد نسبوا
فلا تسل عنهم فهم مشائيم
لم ترضهم شرعة المختار فانتحلوا
شرائعا كلها إفك وتأثيم
واستعبدوا الناس باستتباعهم سفها
فالحر مستخدم والعبد مخدوم
قالوا عن الله أخذنا الشرائع بل
من الشياطين شرع القوم مفهوم
هل في شريعة خير الخلق عربدة
مثل السكارى ورقص ثم هينوم
هل في شريعة خير الخلق تصدية
مع المكا وتجنان وتهويم
هل للخلائق أرباب تقسمها
كل له جزء في الناس مقسوم
(الديوان، ص123)
ويمكن أن يلحق بهذا المحور شعر التوسل إلى الله، والرجاء في عفوه وفضله، وقد خصه الشاعر بمطولة هي قصيدة أسماء الله الحسنى، التي نظمها في 10ذي القعدة 1397هـ، وطبعت مستقلة سنة 1405هـ، والتزم فيها اسما واحدا في كل بيت، وبقيتها دعاء واقتضاء واستعطاف، هذا؛ إضافة إلى شعر المديح النبوي الشريف وشعر الزهد وشعر الزهد والوعظ والحماسة الدينية.
2- الدعوة إلى التعلم والتعليم:
التزم الهلالي ضمن هذا المحور وصف رحلاته وتنقلاته في طلب العلم والمعرفة، والتعبير عن شوقه إلى مجالس الذكر، وحنينه إلى ملاقاة العلماء لاستفسارهم واستجازتهم ومدح شيوخ العلم، وتقريظ أمهات الكتب، وهجو أدعياء علوم الدين والمقلدين، نحو قوله بمسجد علي جان بدلهي سنة 1342هـ، من بحر الطويل، في حديث سفره من المغرب إلى الهند لطلب العلم الحديث، أحب العلوم إليه:
خليلي عوجا بي إلى كل ندوة
بها قول خير الرسل يروى بقوة
ولا تقربا مجلس الرأي إنه
ضلال يحط التابعيه بهوة
على مجمع فيه كتاب إلهنا
يفسر تفسيرا بعلم وحكمة
لدى ثلة قد نور الله قلبهم
وخصم بالهدى أفضل نعمة
(الديوان، ص28)
هكذا يمضي الشاعر داعيا إلى التمسك بمذهب السنة والجماعة والعمل بالشريعة، محذرا من الفلسفات الأرضية والمذاهب الوضعية في أمور الدين، ناهيا عن الابتداع واتباع الهوى والجدل والتأويل مع وجود النص نحو قوله في أواخر صفر سنة 1341هـ، من مقصورة طويلة من بحر المتقارب:
ومن يزعم العلم غير الكتاب
وغير الحديث الصحيح افترى
ولا فضل في ديننا لأرسطو
ولا لابن رشد ومن قد قفا
فتوحيد ربي بمنزله
عني عن المنطق المرتأى
(الديوان، ص165)
3- الشعر السياسي:
الشعر السياسي عند الهلالي شعر إصلاحي توجيهي لا يرضى بالفساد والطغيان، ولا يقبل الترقيع، نضالي لا يساوم ولا يسالم، واقعي يهتم بقضايا الأمة، ومشاكل البلاد، تحكمه ضوابط شرعية، وتقوده رؤية شمولية وطنيا، أو يشيد بحزب سياسي مناضل، أو يهجو عميلا للاستعمار؛ لا يفعل ذلك من منطلقة عاطفي أو مصلحي، وإنما يصدر عن موقف مبدئي، وتصور موضوعي لفعل تحرري، أو قضية عادلة، أو حدث فدائي بطولي، أو روح جهادية، أو شعور وحدوي تضامني..
من أمثلة المديح السياسي قول الشاعر في مدح جلالة الملك محمد الخامس -رحمه الله- بسبب ثورته العظيمة على الاستعمار الفرنسي سنة 1953م، وكان قد حظي بزيارته والجلوس معه بالقصر الملكي سنة 1957م، ونالت قصيدته الجائزة الأولى في عيد العرش سنة 1959م، وطبعت ضمن كتابه (قرة العين في مدح الملكين)، وهي من بحر الطويل، وهذه مقدمتها:
ألا إن الاستعمار هاو وبائر
ومن مطلع الأقمار لاحت بشائر
أبى الضيم في أرض المغارب ضيغم
فأقبل من عرينه وهو زائر
وقال للاستعمار: زل عن بلادنا
فإني عليك اليوم قاض وقابر
سأسقيك سما لا بقا لك بعده
وشعبي من خلفي أسود هواصر
عوى ذئب الاستعمار إذ ذاك عوة
وأقبل يدعو، ويله وهو حائر!
تهدده بالخلع فالنفي فالفنا
وأوعد ليثا أنجبته غضافر
فأبرق في جبن وأرعد طائشا
وصار لجمع الخائنين يكاثر
(الديوان.. ص76، وقرة العين في مدح الملكين.. ص6)
ويمضي الشاعر في تعداد مناقب الممدوح من إباء وشجاعة وإقدام وصبر، وذكر مواقفه البطولية، وملامحه الخالدة، ودعوة الشعب إلى الالتئام والكفاح والتشييد، وتذكيره بأمجاده ومقدساته..
بينما الشاعر في السجن بشفشاون المغربية إذ بلغه خبر وفاة صديقه الأمير شكيب أرسلان، فهب لرثائه، ولما لم يكن معه قرطاس ولا قلم جعل ينظم ويحفظ نظم، فلما أطلق سراحه ألقى قصيدته في احتفال تأبيني ببيت الزعيم عبد الخالق الطريس وفاء لروح الأمير الراحل، يشيد فيها بجهاده المستميت، وقلمه السيال، وبلاغته النادرة. ثم نشرها بمجلته (لسان الدين)، وهي من بحر الطويل، هذه مقدمتها:
ألا بكر الناعي بخير الأكارم
أبي غالب الغطريف بحر المكارم
له اهتزت السلاك في كل بلدة
وعم الأسى في عربها والأعاجم
فلا قلب إلا وهو بالحزن مفعم
ولا عين إلا قد بكت بالسواجم
فقد للإسلام والعرب حجة
يدافع عنهم كل باغ وظالم
(الديوان.. ص128)
تلكم كانت أهم الموضوعات والمضامين التي شغلت فكر الهلالي وإحساسه، وترجمها شعره، وعبرت عنها قريحته، على أن لديه ألوانا أخرى من الشعر، وضروبا مغايرة من المعاني كالشعر التمثيلي، والشعر الذاتي الغنائي، ومن معانيه عند الشاعر الحنين إلى الوطن، والشوق إلى الأحبة، والغزل العذري العفيف المجرد من أثر الوقوف على الديار، أو ذكر الأطلال والدمن على عادة القدامى، وسنقف على نماذج منه في محلها.
الشكل الفني في شعر الهلالي:
بنية القصيدة الهلالية أنماط متعددة، وهي:
النظام التقليدي: هو الغالب على شعره، سبب ذلك موقفه من الشعر الحر، والقصيدة عنده أنواع منها المطولة كقصيدة أسماء الله الحسنى (112 بيتا)، ومنها القطعة، والنتفة، والبيت المفرد اليتيم.
التشطير: مثل تشطيره لقصيدة احمد شوقي التي مطلعها:
خدعوها بقولهم: حسناء والغواني يغرهن الثناء
فقال:
(خدعوها بقولهم: حسناء)
وامتداح الكواعب استهواء
فرنت للوصول بعد نفور
(والغواني يغرهن الثناء)
(ما تراها تناست اسمي لما)
أن تفانت في حبها العظماء
(الديوان..ص4)
التخميس: نحو تخميسه قصيدة أبي بكر حميد القرطبي في فضل علم الحديث وأهله، مطلعها:
إن كنت تطلب علما جد ملتمس
وحرت إذا غم عنك الرطب باليبس
فاسمع لنصح لبيب أي محترس
بقوله:
نور الحديث مبين فادن واقتبس
واحد الركاب له نحو الرضى الندس
(الديوان.. ص92)
التذييل: نحو تذييله قصيدة الشيخ عمران اللنجي التي مطلعها:
إن كان تابع أحمد متوهبا
فأنا المقر بأنني وهابي
بقوله:
نسبوا إلى الوهاب خير عباده
يا حبذا نسبي إلى الوهاب!
الله أنطقهم بحق واضح
وهم أهالي فرية وكذاب
أكرم بها من فرية سلفية!
سلفت محجة سنة وكتاب
(الديوان.. ص8)
المعارضة: نحو معرضته لنونية ابن زيدون التي مطلعها:
أضحى التنائي بديلا من تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
بقوله:
هل بعد عشر مضت بالبين تكوينا
يغير الدهر يوما حكمه فينا!؟
وهل ظلام الأسى الغاشي لأنفسنا
يجلوه نور ابتهاج من تلاقينا!؟
متنا وإن لم نكن في القبر بعدكم
من لوعة وأسى قد كاد يفنينا
(الديوان.. ص147)
الهلالي وفنون الشعر الأخرى:
أما فيما يتعلق بفنون الشعر؛ فإلى جانب القصيدة الموزونة الفصيحة استمل الهلالي فن (المواليا) ضمنه ألفاظا عامية مغربية وأعجمية، وهذا أنموذج منه:
مدارس العصر صارت في الورى مسرح
فارقص وغن (وزغرط) وانبسط وامرح
فيها الصغر من الجنسين قد عزموا
هذا يصيح، وذا يجري، وذا (يشطح)
فيها التماثيل والتمثيل يدرسه
ولدانها والذي يتقِنْهما ينجح
(الديوان..ص40)
ووضع الهلالي أراجيز ومنظومات علمية في علوم العروض والصرف والحديث، منها هذه المنظومة التي نظم بها كتاب صحيح البخاري، أولها قوله:
بدء وحي، آمن، تعلم وضوءا
واغتسل، وأذى المحيض توقى
وتيمم، وصل، في الوقت أذن
جمعة، لا تخف، بفطر وأضحى
ثم أوتر، واستسق، واحذر كسوفا
وسجود القرآن، والقصر يلفى
وتهجد، وصل في المسجدين
اعمل بها صالحا، ولا تك تنسى
(الديوان.. ص168)
وفيما يرجع لبناء القصيدة لا نعثر في شعر الهلالي على مقدمات طللية أو غزلية، بل إنه غالبا ما يلج مباشرة إلى الغرض الأساسي ليختم بالتوسل إلى الله تعالى، والصلاة والتسليم على نبيه وآله وصحبه والتابعين؛ جريا على عادة الفقهاء، وناظمي المتون العلمية.
ويلاحظ غياب المطلع في قصائد كثيرة، وحذف أبيات من نصوص عديدة، إما لإقذاعها أو لنسيانها! وهو ما أشار إليه الشاعر في مواضع مختلفة، نحو قوله: “… وقد ضاع مني الدفتر الذي كتبتها فيه، لذلك أكتب ما بقي عالقا بحفظي” (الديوان.. ص3).
وقوله: “وقد حذفت من هذه القصيدة ومن غيرها ما قلته قبل سنة 1340هـ، كل بيت فيه شرك أو غلو تصوفي يتنافى مع عقيدة السلف الصالح”. (الديوان.. ص56)
يغلب على شعر الهلالي القاموس الديني، واللغة المعجمية الحرفية التقليدية الفصيحة، ولكنها لغة قصدية هادفة فعالة، فهو يكثر من استعمال صيغتي الفعل المضارع والأمر، وأفعال الحركة والسجايا، وعباراته عموما سهلة واضحة، فيها شيء من الابتكار والانتقاء، نحو عبارتي (الملك والاستعمار)، عليها مسحة من الجرأة والصراحة تارة، والسخرية والتهكم تارة أخرى، ومعانيه ظاهرة دقيقة محللة ومنسجمة.
لقد كان الهلالي متمكنا من ناصية اللغة العربية، بل إنه كان قادرا على النظم باللهجات المحلية كالبربرية أيضا.
هذا عن المعجم؛ أما التركيب فهو نوعان: نحوي، وبلاغي أسلوبي. فمن جهة أتت لغته سهلة المبنى، سلسة التركيب، مأنوسة النسخ، متينة الصياغة، ليس فيها تعقيد أو لف أو غموض، تتحكم فيها صيغتان للخطاب هما: صيغتا المتكلم والمخاطب. متسلسلة الجمل،في تعبيرها تلقائية وقصد، وفي تصويرها سهولة ووضوح.
ومن جهة أخرى نجد أحيانا تحللا من النظم والسجع إلى الإنشاء والترسل، ومن الشاعرية والتخييل إلى السرد والتقرير، وحضورا للأسلوبين الخطابي والحكائي. على أن شعر الهلالي لا يخلو من بعض المحسنات البديعية، والومضات البلاغية، والصور البيانية، نذكر منها:
التضمين: نحو قوله:
(أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا) اجتمعنا في المجالس للفخر
(الديوان..ص18)
ضمنه بيت الفرزدق المشهور:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
الاقتباس: نحو قوله:
لله أسماؤه الحسنى فسائله
بها بصدق يكون الخير فيه جلي
(الديوان.. قصيدة أسماء الله الحسنى ص4)
مقتبس من قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) (الأعراف180)
التكرار: يتخذ عنده حينا طابع الاطراد، وتارة شكل الترادف، ومرة صيغة التوكيد اللفظي كاللازمة في الموشح، سواء على مستوى عبارة بعينها، أو جملة بكاملها، والغرض منه التقرير أو التوكيد. وتكثر هذه الظاهرة في قصيدته الميمية في ذم الطرقية، وقد سبقت الإشارة غليها، وهي تائيته الطويلة المذكورة، وفي قصائد أخرى نحو قوله في مدح الزعيم عبد الخالق الطريس:
دعا للبعث والإنقاذ قوما
نياما جرعوا الظلم الصراحا
دعا للبعث والإنقاذ قوما
حماهم قد غدا نهبا مباحا
دعا للبعث والإنقاذ قوما
رأى العدوان أثخنهم جراحا
(الديوان.. ص38)
وفيما يخص الإيقاع استعمل الهلالي عدة بحور وأوزان، منها البحور المركبة الممزوجة، من جزء خماسي، وآخر سباعي كالبسيط والطويل، وهي الغالبة على شعره. ومنها البحور السباعية أصلا كالوافر والكامل والرجز والمجتث والخفيف والمنسرح والسريع، ومنها الخماسية كالمتقارب.
أما جرس القصائد فهو تقليدي مفخم، نلمس ذلك من الأوزان والتفعيلات، ومن توالي الكلمات الرنانة، المجلجلة، ومن تكرار الحروف وتشاكلها وتجانسها، ومن حروف القافية وحركاتها، وغالبا ما يكون لهذه الأصوات دلالات معنوية ونفسية عميقة،
يكثر الشاعر من استعمال حروف الروي المتداولة عند العرب القدامى، متجنبا ما أمكن الحروف المقصورة والممدودة اللينة والمهجورة كالألف والياء.
ونبر القصائد يتراوح بين الطول والقصر، وبين السرعة والبطء، لتعدد الأوزان واختلاف البحور، إلا أن الغالب عليها هو بحر الطويل، وهو ذو إيقاع مديد بطيء طويل النفس.
وقد اخترع بحرا جديدا سماه (الملحق)، لأنه ألحق بشعر العرب والمولدين، وزنه: (مستفعلاتكم مستفعلن)، أجزاؤه أربعة، له عروض واحدة صحيحة، ولها ضربان، أولهما مذيل، والثاني عار عن التذييل، مثاله قصيدته التي نظمها بالأندلس سنة 1964م، هذا مطلعها:
لما بدا جمالكم
أضحت قلوبنا أسرى الغرام
(الديوان.. ص134)
تفعيله: مستفعلاتكم/ مفاعلن مستفعلاتكم/ مستفعلات
تقطيعه: لم ما بدا لنا/ جمالكم أضحت قلوبنا/ أسرلغرام
اسمه: سالم/ مخبون سالم/ مذيل
قيمة شعره:
إن قيمة شعر الهلالي ومنزلته تكمن في خصائصه المميزة، وسماته المتفردة، في صلته بناظمه وبعصره الذي نشأ فيه، وفي مقارنته بنظيره من شعر الإصلاح.
من خصائص شعره الأساسية روحه الدينية، وحميته الإسلامية المتدفقة الملتهبة المتمثلة في التركيز على تنقية العقيدة من البدع والضلالات والخرافات، والدعوة إلى التوحيد، والعودة على سنة السلف الصالح، وليس ذلك بغريب عن عالم فقيه مثل شيخنا الهلالي.
من سمات شعر الهلالي البارزة أيضا الواقعية، فالشاعر مرتبط أشد ما يكون الارتباط بقضايا الأمة والوطن، لا يفتأ يشاركه أفراحه وأتراحه، ويقاسمه آماله وآلامه، يدعوه إلى طلب العلم تارة، ويحضه على الجهاد والاستشهاد تارة أخرى، وهو متمسك جدا بمبادئه ومواقفه تصورا وسلوكا وتبليغا، كيف لا؛ وهو الداعية المصلح، والشاهد المبلغ والقدوة الحسنة!؟
يتميز شعر الهلالي من الناحية الفنية بالتعدد والتنوع والتكامل في الأغراض والمعاني، وفي الأساليب والمباني، وفي ألوزان والبحور، كما يتسم بأصالته للتيار العربي القديم، ومحافظته على مذهب الطبع.
يكفي شاعرنا فخرا أنه كثيرا ما كان ينشد شعره أمام كبار الأدباء والعلماء والنقاد أمثال المؤرخ عبد الرحمن بن زيدان، والقاضي أحمد سكيرج، والقاضي أحمد بن المأمون البلغيثي، والأمير الأديب شكيب أرسلان، وغيرهم؛ فيبدون تارة إعجابهم به، واستغرابهم منه تارة أخرى.
اتجاهه الشعري:
يرتكز شعر الهلالي من ناحية على مبادئ الحركة السلفية، التي جعلت الدين قاعدة لكل إصلاح، ونادت بالتوفيق بينه وبين العلم، ودعت إلى الاجتهاد والتجديد، والتحدي الحضاري،
ويعتمد من ناحية أخرى على تعاليم حركة البعث الداعية إلى التوفيق بين الشكل القديم والمضمون الحديث، وهذا ما لمسناه من خلال ما قدمناه من نماذج شعرية.
وبناء على ذلك فإن الهلالي الشاعر ينتمي إلى المدرسة السلفية الإصلاحية التوفيقية الجديدة، شأنه في ذلك شأن باقي زملائه، كعلال الفاسي وعبد الله كنون، ومحمد المختار السوسي.
ومفهوم هذا الاتجاه للشعر أنه وسيلة للتعبير عن الذات وإحساسها، وعن الآخر وهمومه، وأداة للإبلاغ والتطهير، وليس تزجية للوقت أو تكميلا للثقافة، وفي هذا المعنى يقول الهلالي: في مقدمة تائيته:
يحركني للشعر من بعد تركه
سنين هموم أكثرت زفراتي
أرى كل يوم منكرات كثيرة
يقطع نفسي رأيها حسرات
(الديون.. ص31)
إن اهتمام الهلالي المستمر بعلوم الدين، واشتغاله الدؤوب بالإصلاح والدعوة إلى الله كانا يصرفانه أحيانا كثيرة عن قول الشعر، فإن عاد على نظمه فللتعبير عن زفرات النفس وحسراتها، وهموم الناس ومشاكلهم.
أما بعد:
فيبقى شعر الهلالي أنموذجا حقيقيا لشعر الإصلاح بالمغرب الحديث، بل سجلا واقعيا، وذاكرة حية لهذه الحقبة من تاريخ المغرب الأقصى، ويظل شاعرنا الهلالي أحد رواد هذا اللون من الشعر، وقطبا من أقطاب الأدب الإسلامي الحديث عموما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(*) أعد هذا البحث برسم الملتقى الدولي الرابع للأدب الإسلامي المنعقد بالمغرب، كلية آداب فاس، في المدة 18-20 مارس 2004م.
(1) لمزيد اطلاع راجع:
– الإبداع الشعري والتحولات الاجتماعية والفكرية بالمغرب، أحمد الطريسي أعراب، ص29، منشورات كلية الآداب، الرباط،
– أحاديث عن الأدب المغربي الحديث، عبد الله كنون، ص146 وما بعدها، دار الثقافة، ط3، 1981م.
– الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه، عباس الجراري، ج1، ص122-215، مكتبة المعارف، ط2، 1982م. وغيرها من المراجع.
(2) أحاديث عن الأدب المغربي الحديث، عبد الله كنون، ص149، مرجع سابق.
(3) لمزيد من الاطلاع راجع:
– رسائل الأعلام، أبو الحسن علي الحسني الندوي، إخراج وتقديم محمد الرابع الحسني الندوي، ص 16-17، دار العلوم ندوة العلماء بلكنو/ الهند، ط1، 1984م.
– الحركة العلمية والثقافية بتطوان من الحماية على الاستقلال (1912-1956م) ج2، ص 662-667، إدريس خليفة، وزارة الأوقاف، ط 1994م. وغيرهما.
(4) انظر لائحة لبعض مؤلفاته في سبيل الرشاد،ج1،ص16-17.
(5) راجع أدب الفقهاء، عبد الله كنور، دار الكتاب اللبناني، بيروت، بدون طبعة ولا تاريخ.
(6) راجع شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث، أحمد الجدع وحسني جرار، ط1، 1983م، دار الضياء، عمان، الأردن.
د.خالد بن الحبيب الدادسي
مجلة رابطة الأدب الإسلامي العالمي – العدد 18 – بتاريخ 21/09/2012