يعتبر العالم المغربي العلامة اللغوي الشيخ الدكتور محمد تقي الدين بن عبدالقادر الهلالي، وكنيته «أبو شكيب»، من بين أبرز الشخصيات الي بصمت الحياة العلمية والأدبية والدينية بالمغرب، لما كان له من فضل في نشر العلم والمعارف الأدبية والدينية في بلاد المغرب والعالم العربي والاسلامي.
ولد الهلالي في قرية «الفرخ» من قرية سجلماسة قديما وتافيلالت الحديثة، عام 1311هـ، وذلك بعد أن هاجر إليها أجداده من «القيروان» في تونس في القرن التاسع الهجري، وسط أسرة علمية بامتياز، حيث كان والده وجده من العلماء الفقهاء المعروفين.
تتلمذ على يد والده، وحفظ القرآن الكريم وهو ابن اثنتي عشرة سنة، ثم سافر إلى الجزائر لطلب الرزق عام 1333هـ، فقصد الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي وبقي يتعلم في مدرسته سبع سنين.
وفي عام 1340هـ عاد الهلالي إلى المغرب حيث حضر بعض الدروس على العلماء في مدينة «فاس»، وعلى يد أبرز شيوخها آنذاك إلى أن حصل على شهادة من جامع القرويين، ثم شد الرحال صوب عاصمة بلاد الكنانة القاهرة ،حيث التقى بمشايخ أم الدنيا، وحضر دروس القسم العالي بالأزهر الشريف، ومن مصر توجه إلى الحج، ثم إلى الهند، حيث اجتمع بعلماء أهل الحديث وأخذ العلم عن الشيخ عبدالرحمن بن عبدالرحيم المباركفوري، وهو أفضل علماء الهند في ذلك الزمان.
ومن الهند توجه إلى «الزبير» في العراق، حيث التقى العالم الموريتاني الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، مؤسس مدرسة النجاة الأهلية بالزبير، وتزوج ابنته، ومن الزبير سافر إلى مصر، ثم إلى المملكة العربية السعودية، حيث أعطاه السيد محمد رشيد رضا توصية وتعريفاً إلى الملك عبدالعزيز آل سعود قال فيها: (إن محمد تقي الدين الهلالي المغربي أفضل من جاءكم من علماء الآفاق، فأرجو أن تستفيدوا من علمه).
في ضيافة الملك عبد العزيز
أقام الهلالي في ضيافة الملك عبدالعزيز آل سعود بضعة أشهر، ثم عُين مراقباً للتدريس في المسجد النبوي، وبعد سنتين نقل إلى المسجد الحرام والمعهد السعودي بمكة المكرمة لمدة سنة، ثم جاءته رسائل من إندونيسيا ومن الهند، وكلها تطلبه للتدريس في مدارسها، فاستجاب لدعوة السيد سليمان الندوي بالهند، وصار رئيس أساتذة الأدب العربي في كلية ندوة العلماء في مدينة لكنهو بالهند، حيث بقي ثلاث سنوات تعلم فيها الإنجليزية، وأصدر باقتراح من الشيخ سليمان الندوي وبمساعدة تلميذه الطالب مسعود عالم الندوي مجلة «الضياء»، ثم عاد إلى الزبير حيث عمل مدرساً بمدرسة النجاة الأهلية التي أسسها الشيخ الشنقيطي والد زوجته.
مكث مدة غير يسيرة بمسقط رأس زوجته، ثم سافر إلى مدينة جنيف في سويسرا، ونزل عند الأمير شكيب أرسلان الذي كتب له توصية إلى أحد أصدقائه في وزارة الخارجية الألمانية في برلين قال فيها:
“عندي شاب مغربي أديب ما دخل ألمانيا مثله، وهو يريد أن يدرِّس في إحدى الجامعات، فعسى أن تجدوا له مكاناً لتدريس الأدب العربي براتب يستعين به على الدراسة”، وسرعان ما جاء الجواب بالقبول، حيث سافر الهلالي إلى ألمانيا وعُين محاضراً في جامعة «بون» وصار طالباً بالجامعة مع كونه محاضراً فيها، وفي تلك الفترة ترجم الكثير من الألمانية وإليها، ثم انتقل إلى جامعة برلين طالباً ومحاضراً ومشرفاً على الإذاعة العربية 1939.
خلال 1940م قدَّم رسالة الدكتوراه، حيث فنَّد فيها مزاعم المستشرقين أمثال: مارتن هارثمن، وكارل بروكلمان، وكان موضوع رسالة الدكتوراه «ترجمة مقدمة كتاب الجماهر من الجواهر مع تعليقات عليها»، ليستحق بذلك العلامة الكاملة في شهادة الدكتوراه، التي أشرفت عليها لجنة من عشرة من كبار العلماء.
مراسل صحفي
نباهة العلالي وشغفه بتحصيل العلم ونشره، قادته إلى شغل مراسل لصحيفة الاخوان المسلمين بطلب من مرشدها العام الحسن البنا، وذلك بعد مغادرته ألمانيا إبان الحرب العالمية الثانية، حيث دخل المغرب سافر إلى المغرب في مهمة سياسية، حيث زوّده السفير المغربي عبدالخالق الطريس بجواز سفر على أنه من سكان مدينة «تطوان» التي تقع تحت الحماية الإسبانية حيث أقام بها خمس سنوات.
يقول د.الهلالي الذي كان يراسل صحيفة الإخوان المسلمين سرا عبر البريد الانجليزي: “بدأت أراسل صحيفة الإخوان المسلمين سراً بواسطة البريد الإنجليزي في تطوان، ولكن الإسبانيين كانوا قد اتفقوا مع أحد الموظفين المغاربة في البريد الإنجليزي أنه متى رأى رسالة أو مقالاً لا يذكرهم بخير، ينسخ لهم نسخة منه، ويعطونه مكافأة عظيمة على كل رسالة أو مقال، فأطلعهم هذا الموظف على جميع المقالات التي أرسلتها إلى صحيفة الإخوان المسلمين، فقبضوا عليَّ وزجوني في السجن، ولم يوجهوا إليَّ أي اتهام، وبقيت ثلاثة أيام، فاحتج أهل المدينة وأذاعت محطة لندن باللهجة المغربية هذه الحادثة والاحتجاج فأطلقوا سراحي”.
خلال 1947م سافر الشيخ الهلالي إلى العراق، حيث قام بالتدريس في كلية الملكة عالية ببغداد، إلى أن غادرها بعد الانقلاب العسكري في العراق عام 1959، عائدا إلى المغرب حيث عمل أستاذاً في كلية الآداب بجامعة محمد الخامس، وفي 1968، ثم توجه نحو المدينة المنورة للعمل أستاذاً زائرا بالجامعة الإسلامية، واشتغل بها إلى حدود 1974م حيث ترك الجامعة وتفرغ للدعوة بالمغرب.
عرف عنه النضال الدائم ضد الاستعمار الفرنسي والاسباني للمغرب، فواجهه بالعلم والأدب، وإن ما يدل نضاله وكفاحه المستميت في سبيل تحرر وطنه والوطن العربي من ويلات الحماية الاوروبية الغاشمة، القصيدة العصماء التي ندد فيها بالاستعمار الفرنسي، والتي لخص مطلعها كل شيء حيث يقول:
أعادي فرنسا ما حييتُ وإن أمت
فأوصي أحبائي يعادونها بعدي
التزم الشيخ الهلالي بالمنهج السلفي وصار من دعاته النشيطين، و كان متفتحاً غير متزمت ومجتهداً غير مقلد، وقد أكسبته الأسفار الكثيرة إلى البلاد العربية والهند وسويسرا وألمانيا، ولقاؤه العلماء في العالم العربي والإسلامي، صفات العالم العامل والداعية الواعي، والمصلح الحكيم والمجاهد الصادق، وكان منهجه في التعليم والتربية، الحرص على غرس التوحيد، والالتزام بالأركان والعمل بالأصول، والبعد عن مواطن الخلاف في الفروع، والاستفادة مما لدى الغرب من تقدم علمي، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.
لقد عاش بجبة العالم الداعي الى سبيل الفلاح، والمعلم الذي يربي الأجيال على القيم السمحة والمعتدلة، ودليل ذلك جمهور العلماء الذين تتلمذوا على يديه، واغترفوا من فيض علمه ومعارفه، وتوجيهاته التي كانت تصب في سبيل النهوض بأوضاع المسلمين.
يعتبر العلامة تقي الدين الهلالي من أهم العلماء المغاربة والعرب الذي أثروا الخزانة والمكتبة العربية بمؤلفات كثيرة جدا، غير أن جمعها ليس بالأمر الهين لأنها ألفت في أزمنة مختلفة و بقاع شتى ، و منها : الزند الواري والبدر الساري في شرح صحيح البخاري، الإلهام والإنعام في تفسير الأنعام، مختصر هدي الخليل في العقائد وعبادة الجليل، الهدية الهادية للطائفة التيجانية، الحسام الماحق لكل مشرك ومنافق.. إلى غير ذلك من المؤلفات والمقالات والمخطوطات التي تستدعي وقتا لجمعها وترتيبها.
توفي الشيخ تقي الدين الهلالي في منزله بمدينة الدار البيضاء يوم الاثنين 25 شوال 1407هـ الموافق 22 يونيو 1987م وشيع جنازته جمهور كبير من العلماء والمفكرين والمثقفين والسياسيين، وبذلك تكون الأمة العربية والاسلامية قد فقدت علما من أعلام الإسلام، ومجاهدا من المجاهدين العظام، الذين كان لهم آثار في كل مكان وزمان.