لا يخفى على طلبة العلم أن من أشهر رواد الحركة السلفية في العصر الحديث، ومجددي الدعوة التوحيدية ليس في المغرب فقط، بل في أقطار مختلفة: الشيخ العلامة الدكتور محمداً تقي الدين الهلالي- رحمه الله- فقد كان سلفي المعتقد، سني المذهب في الفروع والأصول، عالمي الثقافة والفكر والمعرفة، جمع إلى التقدم في العلوم الشرعية من التفسير والفقه والحديث والعقائد والأصول، البراعة في علوم العربية من نحو وصرف وبلاغة وعروض، والموسوعية في الاطلاع على ثقافات الأمم والشعوب، كالثقافات السامية، والبربرية، والهندية، والفارسية، والغربية، والإجادة لكثير من اللغات، ويندر أن يجتمع في رجل واحد ما اجتمع في هذا النابغة العبقري، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، مما جعله في الصفوف الأولى لكبار العلماء، والمفكرين، والكتاب والشعراء، حيثما حل في الشرق والغرب، في العراق، ومصر، والسعودية، والهند، وألمانيا، وفرنسا، والمغرب، وغيرها من الأقطار، وكان العلمُ نفسَه الذي يتنفسه، والدعوةُ إلى التوحيد، واتباع الكتاب والسنة روحَه التي يحيى بها، ، فحيثما حل حلت الدعوة، ونزل العلم، وخيم الفكر، واخضرت ربوع اللغة، وأزهرت دوحة الأدب والشعر، ولم يثنه عن ذلك- والله- فقدان للبصر، ولا ضعف في البدن، ولا وهن في العظم، ولا مرض ملازم، ولا تضييق دائم، فقد عرفته- رحمه الله- عام 1977 م وأنا ابن خمس عشرة سنة، وكان قد ناهز التسعين من عمره، ولازمته سنتين في حله وترحاله، أخذت عنه ما قسمه الله لي من علمه- رحمه الله- فرأيت- والله- من علو الهمة، وماضي العزيمة، وقوة الإرادة، والصلابة في قول الحق، واستفراغ الوسع في الدعوة إلى الله، ومنتهى الجد في طلب العلم، وغاية الحرص على نشر المعرفة ما لم يكن يخطر على بالي من قبل.
ولو ظفر غير أهل السنة بنصف هذا الداعية العظيم لطاروا به فرحا، ولأقاموا له الندوات والمؤتمرات، ونشروا له الرسائل والمؤلفات، وأنشدوا قول الفرزدق: أولئك آبائي فجئني بمثلهم.
لكنه- رحمه الله- من معشر لا يرى بعضهم وسيلة للظهور، إلا بالصعود على سلم من عظام الأسلاف، والارتقاء فوق أنقاض بناء الأشياخ، وأخلق بمنهج- هذه صفة بعض أبنائه- أن لا يبلغ الكمال:
متى يبلغ البنيان يوما تمامه *** إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
وهذه العقلية العلمية الفريدة جعلت البعض- عمدا أو تقليدا- لا يذكر الشيخ العلامة- رحمه الله- إلا في معرض العناية بالجانب العلمي، والتقعيد العقلي، والمناقشات، والمناظرات، مع التصريح أو التلميح إلى أنه لم يعتن في دعوته التوحيدية بالجانب الروحي، والتربية السلوكية، والأخلاقية- شنشة أعرفها من أخزم- فإن بعض الطوائف لما أعجزهم أن ينالوا من أهل السنة في الجانب العلمي رموهم بالتقصير في الجانب العملي، والخلقي، والسلوكي، وتلك شكاة ظاهر عنهم عارها.
وإن تعجب فعجب أن يردد بعض المنتمين إلى أهل السنة تلك المزاعم، وهو لا يدري أنه يفل سيفه الذي به يصول، ويفت من عضده الذي به يجول، فليس المقصود- أيها السني- هو ذات الشيخ تقي الدين الهلالي، بل المقصود وصف منهج السلفيين بذلك، وهذا مصرح به قديما وحديثا.
وقد أحببت أن أبين في هذا المقال الموجز أن جوهر دعوة الشيخ- رحمه الله- إنما هي دعوة إلى إصلاح القلب، وتهذيب النفوس، وتقوية الروح- وفق المنهج الشرعي الثابت في الكتاب والسنة- وقد التزمت أن يكون ما أورده من كلام الشيخ- رحمه الله- مأخوذا من مقالاته؛ لأنه مصوغ بأسلوب صحفي قريب المتناول، فذلك أليق بالمقام من النقل من كتبه العلمية، ولأن هذه المقالات ليست في متناول الجميع، فالعزو إليها كالإرشاد إلى مكانها، والإغراء بقراءتها.
******
مدار دعوة الشيخ على بيان أن الإنسان فقير محتاج- قبل وجوده- إلى من يوجده من العدم، وهذا الفقر والاحتياج ملازمان له في حال وجوده؛ لأنه محتاج إلى من يحفظ عليه وجوده، ويرزقه، ويغيثه، ويلجأ إليه، إلى غير ذلك، فثبت بذلك- قطعا ويقينا- أن الإنسان ناقص، وأنه لا غنى له عن طلب الكمال، فممن يطلب الكمال؟ أيطلبه من مخلوق فقير محتاج ناقص مثله، أم يطلبه من المتصف بالكمال المطلق؟ يقول الشيخ العلامة- رحمه الله- في مقال له بعنوان (الأخلاق الإسلامية والأخلاق الإنسانية)، نشر في المجلة الإسلامية العدد الثاني 1395هـ: (أما توحيد العبادة فهو توحيد التوجه والقصد والخضوع والطلب، فلا يقصد في قضاء الحاجات وتفريج الكربات، ولا يطلب العون وسائر النعم وأنواع الكمال إلا منه وحده لا شريك له ؛ لأن الخلق كلهم عاجزون عن تكميل أنفسهم فضلا عن تكميل غيرهم، فالمخلوق الذي يطلب الكمال واللطف من مخلوق آخر قد ضل ضلالا بعيدا، وظن السراب شرابا؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه. والخلق كلهم ناقصون- طبعا- وكما أنهم كانوا في حاجة إلى من يوجدهم، فهم في حاجة إلى من يحفظ عليهم ذلك الوجود، ويكمل نقصهم، فتوجه المخلوق إلى المخلوق بالرغبة، والرهبة جهل وكفر بنعمة الخالق المبدع. وهذا معنى قولي: أن توحد الله بأفعالك، فلا تتوجه إلى غيره. وتوحيده بأفعاله: أن تعتقد أن ما يفعله هو من الإيجاد، والإمداد لا يفعله غيره.) اهـ. وهنا نلحظ التلازم التام بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية بما لا يحتاج إلى مزيد بيان، كما نلحظ أن الشيخ- رحمه الله- عندما مثل لبعض أفراد توحيد الألوهية اقتصر على المعاني القلبية الباطنية، كالتوجه، والقصد، والخضوع، والرغبة، والرهبة، واللطف، والعون، ويفهم من كلامه- كما نص عليه في مواطن كثيرة- أن من أعظم ذلك حب العبد لخالقه المنعم المتفضل؛ فإن الإنسان في أظهر صور ضعفه صبيا يكون أشد حبا، وولها، وتعلقا بوالديه؛ لما يراه من إحسانهما، ورعايتهما، ورحمتهما به، فأين ذلك من فضل الله عليه، وآلائه، وإحسانه، ورحمته، ورأفته، ونعمه التي لا تحصى؟ بل إن وجود والديه، وما رآه منهما هو من فضل الله، ورحمته، وإحسانه، فكيف ينبغي أن يكون حبه، وتعلق قلبه، وإجلاله، وتعظيمه للخالق- عز وجل-؟؟
لكن ما الكمال الذي يجب ألا يطلبه الإنسان إلا من خالقه؟ يقرر الشيخ- رحمه الله- أن الإنسان مركب من روح عاقلة واعية، وجسم مادي يشترك فيه مع سائر الحيوانات، وأن الله- تعالى- فضل الإنسان، وكرمه بالشق الذي يمايز فيه الحيوان، وهو الروح العاقلة الواعية، وكلما اعتنى الإنسان بهذه الروح، وغذاها، وقواها، وسعى في كمالها، كان أكمل، وأبعد عن الشق المادي الذي يشاركه فيه الحيوان، وأشبه بالملائكة، وأقرب إلى الله- تعالى- وهذا الكمال المطلوب درجات لا نهاية لها، فكلما بلغ الإنسان درجة في قربه إلى الله احتاج إلى مزيد من الغذاء؛ لبلوغ درجة أعلى، وأقرب إلى الله، وهكذا إلى أن يأتيه اليقين، فما هذا الزاد الروحي، والغذاء الوجداني اللذان يحتاجهما العبد في سيره إلى الله؟ يقول الشيخ تقي الدين الهلالي- رحمه الله- في مقاله المشار إليه آنفا: (وأما العبادة فهي الشعور بالنقص وطلب الكمال من الله- تعالى- وهي غذاء روحي للإنسان المركب من روح عاقلة واعية، وجسم مادي يشاركه فيه سائر الحيوان، ولما فضل الإنسان على الحيوان الأعجم بالعقل، فصار بذلك سيدا متصرفا في سائر الحيوان والنبات والجماد، كان محتاجا إلى طلب المعونة من الخالق الأعلى، وإلى التواضع والخضوع ليعرف نفسه، ومن عرف نفسه عرف ربه، ومن جهل نفسه جهل ربه، فطلب الكمال ضروري للإنسان، ولا يطلب الكمال حتى يعترف بالنقص؛ لأن الكامل لا يحتاج إلى من يكمله، وكلما درس نفسه وبحث فيها اطلع على نقص جديد، فطلب تكميله من الكامل القدير) اهـ، فتأمل كيف عدل عن التعريفات العقلية، والحدود المنطقية- في هذا المقام- إلى التعبير بأمر وجداني، وهو الشعور بالنقص، أي الحاجة، والافتقار إلى خالقه؛ لأن العاقل يسعى دائما إلى ما في كماله، ولأن لفظ الشعور يوحي بحصول اللذة بالظفر بالمراد، ونيل المقصود، فكلما بلغ العبد درجة، وقطع مرحلة في سيره إلى الله فرح بها فرحا عظيما، وناله من الغبطة والحبور ما يضاعف شعوره وإحساسه بالنقص، فيزيد من سرعة سيره لقطع مرحلة أخرى، ونيل درجة أسمى؛ ولذلك ربط هذا بمعرفة العبد ربه، وهو الأصل الأول الذي يجب على كل مكلف أن يعرفه- وهذه إعادة ربط بديعة لتوحيد الألوهية بتوحيد الربوبية- ؛ لأن الإنسان كلما كان أعرف بربه كان أكثر إجلالا، وتعظيما، وخوفا، ورغبة، ورهبة، ومحبة لله- تعالى- وكلما كان العبد كذلك كان أكثر إقبالا على محبوبه، وأسرع سيرا إليه بالليل والنهار، لكن معرفة الله- تعالى- تحتاج إلى معرف، وأقرب معرف للعبد بربه نفسه، كما قال- تعالى- : {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات:21] فينظر العبد إلى فقره، وضعفه، وحاجته، وفاقته؛ ليعلم أنه لا غنى له طرفة عين عن خالقه، وينظر إلى ما أودعه الله فيه من أسرار الخلق الباهرة، والآيات المعجزة؛ ليعلم أن خالقه، وبارئه على كل شيء قدير، بكل شيء عليم، حكيم خبير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
ثم لا يزال العبد يطلب الكمال، ويتزود بالعبادة إلى أن يصل إلى درجة أن تكون نفسه التي بين جنبيه رقيبة عليه في كل أحواله، يقول- رحمه الله-: (ثم إن العبادة التي هي طلب الكمال تجعل على الإنسان رقيبا من نفسه يمنعه من الوقوع في المهاوي، والتجاوز للحدود الفاصلة بين الحق والباطل، والمحمود والمذموم، وما يليق بالكمال الإنساني. ولا يمكن أن يحل القانون الوضـــعي- وإن كان في أكثر الدول تقدما- محل هذا الرقيب النفسي؛ لأن المراقبة إذا كانت من الداخل لا تفارق الإنسان في أي حال من الأحوال، سواء أكان في أعلى مقام من الرئاسة أم في أحط مقام من المرؤوسية، سواء أكان في الخلوة أم في الجلوة، في السر أم في العلانية) اهـ. وأنت خبير بأن هذه أعلى درجات الدين، وهي درجة الإحسان الذي عرفه الرسول- صلى الله عليه وسلم- بقوله: [أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك] (متفق عليه من حديث أبي هريرة).
فتبين بهذا أن للعبادات أثرا عظيما في ترويض النفس، وتقوية الروح، يؤكد هذا قول الشيخ تقي الدين الهلالي في مقال آخر بعنوان- مباحث في الكتاب والسنة- نشر في مجلة دار الحديث الحسنية، العدد الأول سنة 1399 هـ: (وفائدته -يعني الصيام- ترويض النفس على تحمل المشقة، وإضعاف الشهوة الجامحة، والسعي في تغلب القوة الروحية التي بغلبتها يبلغ الإنسان مراتب تنكشف له فيها علوم وأسرار، وتتحلى نفسه بأخلاق عالية، إذا جرى في صومه على السنن المشروع) اهـ. ولا تظنن أن هذا كلام أحد أقطاب الصوفية، أو من كلام الشيخ حين كان طرقيا صوفيا، بل هذا كلامه في أواخر حياته- رحمه الله- لكن الفرق والفيصل هو في قوله: (على السنن المشروع )، فقف عنده، وتأمله مليا، فهو سبب معاداة كثير من الطوائف والأفراد للشيخ الهلالي.
ولا يخفى على المتأمل ما في قوله السابق من لطيف الربط بين صحيح العبادة المبنية على صحيح الاعتقاد، وصلاح السلوك واستقامة الأخلاق، فبقدر تحقيق التوحيد وإصلاح الباطن تصح العبادات، وتستقيم الأخلاق، وهذا الجانب السلوكي الخلقي من الجوانب الجليلة التي أولاها الشيخ اهتماما عظيما في دعوته، ونالت حظا وافرا في خطبه، ودروسه، ومواعظه، ومقالاته، وكتبه، يقول- رحمه الله- في مقاله المتقدم- الأخلاق الإسلامية والأخلاق الإنسانية-: (فنعرض عدة أحاديث تكشف لنا معاني الأخلاق التي تصح بها العقيدة والعبادة، وهي الباعثة على العمل بالشريعة، بل هي ثمرة الدين والمقصود بالذات من وسائله المختلفة، نفهم ذلك من قوله- تعالى- في سورة العنكبوت[45]: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون} أمر الله نبيه- وهو أمر لجميع المؤمنين تبعا له- بتلاوة الكتاب المبين، والعمل بما فيه، والتأدب بأدبه، وبالأخص إقامة الصلاة، وأخبر أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر… ) ثم ساق نصوصا لبيان بعض أفراد الأخلاق، وكونها مقصودة بالذات. وليس كلامه هذا عارضا اقتضته منا سبة، أو دعت إليه حاجة، بل إن الأخلاق كانت أصلا أصيلا في دعوته، وركنا متينا في سيرته ومنهجه، يقول في مقال له بعنوان: أخلاق الشباب المسلم، نشر في مجلة الجامعة الإسلامية، العدد الثاني عام 1388هـ في بيان قوله- تعالى-: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا} [مريم:54-55]: (وصف الله- سبحانه- إسماعيل بن إبراهيم- عليهما السلام- بصفات كريمة، أولاها: صدق الوعد، وثانيتها: أنه كان رسولا نبيا أنزل الله عليه وحيه، وأرسله لهداية خلقه، وثالثتها: أنه كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، وأخيرا أنه كان عند ربه مرضيا. فلماذا قدم صفة صدق الوعد على ذكر الرسالة والنبوة، وأمره أهله بالصلاة والزكاة؟ الجواب: لأن صدق الوعد دليل على الإخلاص، فمن لم يكن صادق الوعد لم يقبل الله منه صلاة ولا زكاة، ولنا على ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، وبيان ذلك أن العبادات كلها من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وعمرة، وتعلم، وتعليم، وجهاد النفس، وجهاد للعدو، وغير ذلك، إنما هي وسائل لتهذيب النفس، وليست في أنفسها غايات، فإذا لم يحصل بها التهذيب المطلوب فهي لغو لا قيمة لها، يزاد على ذلك أنها تدل على عدم إخلاص فاعلها، وريائه، ومخادعته لله، ولعباده المؤمنين، وقد وصف الله المنافقين بقوله- في سورة النساء [142-143]: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد سبيلا}، فصلاة هؤلاء المنافقين لم تغن عنهم شيئا، وهم في الدنيا مجللون بالخزي، وفي الآخرة في الدرك الأسفل من النار، وقال- تعالى-: {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون} [الماعون:4-7] أي: يقصدون بعبادتهم أن يراهم الناس فيمدحوهم، وقلوبهم خربة ليس فيها خير) اهـ. ويتضح مغزى كلامه بأن يعلم أن أعظم الأخلاق وأجلها: التأدب مع الله- عز وجل- بتوحيده، وإخلاص العبودية والوجه له، كما أن أحط الأخلاق وأسوأ الآداب: عدم التأدب مع الله- تعالى- بالكفر والشرك. فالباعث على العمل بالشريعة، وامتثال الأوامر، واجتناب النواهي: أمر خلقي، وهو معرفة العبد ربه- تبارك وتعالى- بأسمائه وصفاته، أي توحيد الربوبية والأسماء والصفات، وهذا العمل بالشريعة- العبادات- وسيلة إلى غاية خلقية أيضا، وهي إرادة وجه الله- تعالى- وابتغاء مرضاته، والإخلاص له، أي توحيد الألوهية، كما أنها وسيلة إلى تقوية الروح، وزيادة ما وقر في القلب من الإيمان، وآية الصدق في ذلك وعلامته أن تظهر آثار العبادات على سائر شعب الأخلاق، فإذا لم تثمر العبادات ثمارها، ولم تظهر آثارها من صدق الحديث والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وغيرها، وحلت محلها أضدادها، فقد يكون ذلك لعدم صحة أصل الأخلاق، وهو التوحيد والإيمان، وقد يكون لضعف ذلك الأصل، روى الشيخان عبد الله بن عمرو أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: [أربع خلال من كن فيه كان منافقا خالصا: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر. ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها]، قال ابن القيم- رحمه الله-: (فهذا نفاق عمل قد يجتمع مع أصل الإيمان، ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم؛ فإن الإيمان ينهى المؤمن عن هذه الخلال، فإذا كملت في العبد، ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها فهذا لا يكون إلا منافقا خالصا ).
والمقام لا يتسع لأكثر من هذا، لكن المقام يقتضي التنصيص على خلقين اثنين:
أحدهما: العدل: يقول الشيخ- رحمه الله- في مقاله السابق- الأخلاق الإسلامية والأخلاق الإنسانية-: (أما الشريعة فهي مبنية على إقامة العدل بين جميع البشر بقطع النظر عن عقائدهم، وأجناسهم، وألوانهم، وأوطانهم، قال- تعالى- في سورة ا لنحل[90]: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون}، وقال – تعالى- في سورة المائدة، في العدل مع غير المسلمين: {ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب) اهـ. فإذا كان العدل واجبا مع غير المسلمين، فهو مع المسلم أوجب، وإن كان مخالفا في بعض المسائل والقضايا، فلا يهتضم حقه، وينبذ ما أصاب فيه لخطأ أو زلل، بل يبين خطؤه ويترك، ويؤخذ بصوابه، وهو ما كان عليه الشيخ- رحمه الله- ففي التفسير- مثلا- كان المعتمد من التفاسير عنده تفسير ابن جرير، وابن كثير، وبهما كان ينصح، لكن لم يمنعه أبدا- وهو سلفي الاعتقاد- أن يرجع إلى كشاف الزمخشري، أو غيره، ويبدي إعجابه به في بعض المسائل البلاغية، واللغوية، مع التحذير مما دسه في تفسيره من معتقدات المعتزلة. ومعلوم أن الشيخ- رحمه الله- يعد من العلماء الرواد الذين نشروا كتب الشيخ ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمهم الله- في جميع أنحاء المغرب، بل كان أكثرهم نشاطا وجدا في ذلك، في وقت كان المتفقهة يحذرون من هذه الكتب أشد التحذير، وينفرون من اقتنائها ومطالعتها، ويصمون مؤلفيها بعظائم الأمور، ولما جهر الشيخ بمدح تلك الكتب على المنابر، وأثنى على مؤلفيها، ودعا إلى قراءتها لاقى معارضة شديدة، وشن عليه العلماء غارات شعواء، وكادوا له كيدا عظيما، فدعاهم جهارا، وأسر لهم إسرارا، وبعث لهم نسخا من كتاب التوحيد، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وشرحه فتح المجيد، للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ- رحمهم الله- وطلب إليهم أن يقرؤوا الكتابين قراءة محايد يبتغي الحق، ويطلب الحكمة، فإن وجدوهما مخالفين للقرآن الكريم والسنة المطهرة فإنه على استعداد تام للتعاون معهم في الرد على الكتابين، ونقضهما، وبيان ما فيهما من مخالفة للحق، وإن وجدوهما موافقين للقرآن والسنة فإن الديانة توجب عليهم أن يذعنوا للحق، ويتبعوه، فإن لم يكن ذلك فلا أقل من تكفوا عن مهاجمة السلفيين، والافتيات على الكتابين. وهذا- لعمر الله- من أبهى صور الإنصاف، وأجمل أمثلة العدل، فلما لم ينكفف بعضهم عن مهاجمة الدعوة، ولم يرعو من الصد عن اتباع الكتاب والسنة، كان لزما على الشيخ أن يدافع عما يدعو إليه:
صفحنا عن بني ذهل وقلنا القوم إخوان
فلمــا صـرح الشـر وأمسى وهو عريـــان
ولم يبـق سوى العدوان دناهم كما دانوا
ومن جلي مظاهر الإنصاف أن الشيخ- رحمه الله- كثيرا ما كان ينصف غير المسلمين، ويثني عليهم بما أصابوا فيه الحق، ففي مقال له بعنوان: دسائس بعض اليسوعيين يدسونها حتى في اللغة، نشر في مجلة الفتح، السنة الخامسة (218) يقول: (سمعت وقرأت كثيرا عن دسائس المرتزقين من دعاة النصرانية، وتحريفهم للكتب التي يطبعونها تحريفا يفسد معناها، ويحط من الدين الحق الذي يريدون محاربته:
كناطح صخرة يوما ليوهنها *** فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
ولم يمنعني ذلك من اقتناء مطبوعاتهم، بل مؤلفاتهم أيضا؛ لأنه لا يخفى علي- بحمد الله- ما عسى أن يفعلوا فيها من خيانة)، وفي هذا المقال نقل عبارة عن معجم اسمه: المعتمد، لجرجي شاهين عطية، وهو- كما يبدو من اسمه- نصراني، يقول الشيخ: (ونظرت في مختار الصحاح، فإذا فيه العبارة بالحرف، فأكبرت جرجي شاهين، وشكرته على الأمانة في النقل، والمسلم منصف، لا يبخس أحدا حقه)، وأي تعليق مني على عبارته الأخيرة قد يخدش من رونقها، وبهائها، فلندعها، ولننظر إلى قوله: لأنه لا يخفى علي…الخ، فإن فيه بيان منهج الشيخ في قراءة كتب المبتدعة من الصوفية وغيرهم، وكتب المنطق والفلسفة وعلم الكلام، فمن كان من أهل العلم وطلبته قادرا على التمييز بين الصحيح والسقيم، والفرق بين الغث والسمين فليستفد من صحيح علمها، إن لم يجد غيرها في بابها، أما من كان دون ذلك فقد كان يحذره من قراءتها. وقد غلط على الشيخ في هذا الباب- عمدا، أو جهلا- صنفان من الناس: صنف نسب إليه التساهل في قراءة كتب المبتدعة، وكتب غير المسلمين، وصنف عزا إليه التشدد والنهي المطلق عن مطالعتها، والحق ما علمت، وقرأت بنفسك.
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به *** في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل
والآخر: الرحمة: من أكثر الأخلاق ورودا في كلام الشيخ- رحمه الله- خلق الرحمة، وبيان أن الإسلام دين الرحمة والإحسان، يقول- رحمه الله- في مقال له بعنوان: التقدم والرجعية، نشر في مجلة الجامعة الإسلامية العدد الثاني، شوال 1389 هـ: (وليس قصدي غمط حقوق الجماعات العربية التي لا تدين بالإسلام؛ فإن ذلك ظلم، والله لا يحب الظالمين، بل نعامل المواطنين من العرب غير المسلمين بالعدل والإحسان إلى أن يطمئنوا على حقوقهم، ويثقوا بمواطنيهم المسلمين كل الثقة، ويأمنوا بآرائهم؛ لأن الإسلام دين الرحمة، والمحبة، والعدل، قال- تعالى- في سورة الأنبياء [107]: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، وبحكم الاقتداء بالنبي- صلى الله عليه وسلم- يجب على أمته أن يكونوا رحمة للعالمين) اهـ.
وهذا المعنى مكرر في مواضع كثيرة من كلام الشيخ- رحمه الله- وكتاباته، ولم نفهم من مصاحبته ودعوته إلى التوحيد إلا أنه يريد إخراج الناس من ظلمات الخرافات، وأدران الشركيات، وكسر قيود التعلق بغير الله، وتحرير العقول والأفئدة من خوف الجن والشياطين، ورهبة الأضرحة، ورغبة القباب، ويدعوهم إلى ألا يلجؤوا إلا إلى الله- تعالى- وألا يرهبوا إلا إياه، وألا يرغبوا إلا إليه، وألا يستعينوا أو يستغيثوا إلا به، ولو لم يكن من رحمة التوحيد، وروحه، وفضله في الدنيا إلا هذا لكفى، فكيف وهو حق الله على العباد الذي من حققه كان حقا على الله ألا يعذبه، وأن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله، وأن العبد لو أتى الله بقراب الأرض خطايا، ثم لقيه لا يشرك به شيئا، لأتاه بقرابها مغفرة، إلى غير ذلك مما صحت به الأخبار عن سيد الأبرار من عظيم فضائل التوحيد، وسحائب الرحمة فيه، هذا ما تعلمناه منه، ودرسناه على يديه في شرحه الأبواب الأولى من كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله- وكان يحثنا على أن نبين هذه الفضائل وغيرها لأهلينا، ويقول: إن أعظم البر بآبائكم أن يهديهم الله على أيديكم، وينالوا هذه الفضائل العظيمة بسببكم.
فيا لله للعجب، من أين فهم البعض أن غاية التوحيد عند الشيخ كانت هي خوض المعارك مع الأهل والعشيرة، ومحاربة أهل البدع والضلالات، وأنه اقتدى بالشيخ في ذلك، وحارب المبتدعة، مع لحظه أنهم أفضل منه حفظا للصلاة وأوقاتها؟؟.
أما التوحيد فقد علمت حقيقة غاية الشيخ من وقف حياته على الدعوة إليه، ومن شاء المزيد فليرجع إلى أكبره كتبه، وأقربها إلى نفسه، وهو(سبيل الرشاد، في توحيد رب العباد)، وهو كتاب مطبوع، عظيم النفع، جليل القدر، يقع في ستة أجزاء.
أما الصلاة فما رأيت أعظم إجلالا لمكانتها، ولا أكثر تعظيما لقدرها منه- رحمه الله- وكانت الدعوة إلى أدائها على الوجه المشروع بأركانها، وشروطها، وسننها، والمحافظة عليها في أوقاتها، تأتي في المرتبة الثانية بعد التوحيد، من حيث العناية والاهتمام، فألف في توضيح أوقاتها، وفي بيان كيفية أدائها، كما صلاها الرسول- صلى الله عليه وسلم- وفي أحكام أخرى من أحكامها، وكان مذهبه في تركها أشد المذاهب، وهو كفر من ترك صلاة واحدة حتى خرج وقتها من دون عذر شرعي، وكان لا يجيز للمعلمين، والموظفين، والطلبة، أن يؤخروا الصلاة عن وقتها، ولو أدى ذلك إلى فصلهم، وطردهم من أعمالهم، ففي مقاله المتقدم- أخلاق الشباب المسلم- يعلق على حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: [إن الله- جل وعلا- يقول: يا بن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإن لا تفعل ملأت يدك شغلا، ولم أسد فقرك] (رواه ابن ماجه، والترمذي، وحسنه، وصححه ابن حبان والحاكم)، فيقول: (في هذا الحديث جواب للذين يسألون عن أوقات الصلاة إذا فرض فيها شغل دنيوي، كالمعلمين، وتلامذة المدرسة، والموظفين، وفي سائر الأعمال إذا دخل وقت العصر، هل يتفرغون لعبادة الله مدة خمس دقائق، ويؤدون فريضتهم، ويدعون شغلهم جانبا؟ فإن فعلوا ذلك ملأ الله صدورهم وأيديهم غنى، وأزال فقرهم الحسي والمعنوي، فالمعنوي هو فقر القلب وجزعه، وشغله بالتفكير في الرزق، أو في الوسيلة التي يظن أن الرزق يأتي بسببها.
وإن هم لم يستجيبوا لدعوة الله، وتمادوا في شغلهم، وأعرضوا عن صلاة العصر وحدها؛ لأنها التي تجيء عادة في وسط الأشغال، وبها يمتحن المؤمن، فإن كان صادق العزم ثابت اليقين، وقف الشغل الدنيوي من بيع، وشراء، وعمل في مزرعة، أو مصنع، أو مدرسة، أو مختبر، أو غير ذلك، وتفرغ لعبادة الله، واستجاب لدعوته، فيزيده الله قوة إلى قوة، ويملأ صدره غنى وثقة به، وذلك هو الظفر والنصر المبين. وإن كان خائر العزم، ضعيف الإرادة، كبر عليه ترك شغله، وخيل له أن في تركه خسارة لا تعوض، فيستمر في شغله عاصيا ربه، خائنا دينه، خائسا بعهده، فحينئذ يمتلئ صدره غما وشغلا يلازمانه أبدا ).
فهل يكون مقتديا بمن هذا مذهبه في الصلاة من كان ينشغل عن الصلاة بسفاسف الأمور، أو كان مبتدع أفضل منه محافظة على الصلاة؟؟
*****
وكل ما تقدم من شأن العبادة، والأعمال، والأخلاق مشروط بأن يكون موافقا للكتاب والسنة، أما العبادة فيقول فيها- في المقال الذي سبقت الإشارة إليه: الأخلاق الإسلامية والأخلاق الإنسانية-: (ثم إن العبادة في الإسلام محدودة الجوهر والصفات، أما أعيانها- وهي التي أقصد بالجوهر- فمنصوص عليها في الكتاب والسنة، كالصلاة، والحج، والعمرة، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاء وسائر أنواع ذكر الله، والأحكام الاجتماعية كالزواج، والطلاق، والسلام ورده، وكفالة اليتيم، وبر الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام الضيف، وأحكام البيع والشراء، والأخذ والعطاء، وحقوق الجار، وإعانة المسكين والأرملة، وسائر أنواع فعل الخير وكف الأذى من كل مسلم، أو معاهد من غير المسلمين. فلا يجوز أن يعبد الله بما لم يشرعه، كالرقص، والغناء، وضرب الدف، والنفخ في الأبواق والمزامير….
ولا يجوز أن تحدد العبادات المشروعة، وتقيد بعدد، أو وقت، أو هيئة إلا من قبل الشرع، أي من الكتاب والسنة، وهذا ما قصدته بالصفات). وتقدم قوله: (وفائدته- يعني الصيام- ترويض النفس على تحمل المشقة، وإضعاف الشهوة الجامحة، والسعي في تغلب القوة الروحية التي بغلبتها يبلغ الإنسان مراتب تنكشف له فيها علوم وأسرار، وتتحلى نفسه بأخلاق عالية، إذا جرى في صومه على السنن المشروع ).
فالشيخ- كما ترى- يقرر أن العبادة لا تقبل، ولا تصح، ولا تؤتي ثمارها المرجوة من تهذيب النفس، والتحلي بمعالي الأخلاق، وتقوية الإيمان إلا إذا كانت على الوجه المشروع. ولذلك أولى هذا الجانب عناية فائقة في مسيرته الدعوية، فبين للناس في دروسه العامة والخاصة، وفي كتاباته، كيفية أداء العبادات العملية على الوجه الشرعي، فألف في ذلك رسائل، وكتبا، منها كتاب (مختصر هدي الخليل في العقائد وعبادة الجليل)، وشرحه (مفتاح التفقه الأصيل).
أما الأخلاق فيقول فيها في مقاله- الأخلاق الإسلامية والأخلاق الإنسانية-: (وأما الأخلاق فإن أكثر المتكلمين من المسلمين في هذا الزمان يسيئون فهمها، ويحصرونها في عاداتهم، فيلتبس عليهم الأمر. والصواب أن ننظر إلى الأخلاق بالمنظار المحمدي، ونزنها بالقسطاس المستقيم الذي وزنها به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا بعاداتنا، ولا بعادات الأجانب ).
فمدار العقيدة والتوحيد، والعبادات، والمعاملات، والآداب، والأخلاق على اتباع الكتاب والسنة، والقدوة المثلى، والأسوة الأعلى- في ذلك كله- هي في رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلا عجب- إذاً- أن تكون سيرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الذروة من عنايته، واهتمامه، فلندعه يحدثنا عن ذلك بلسانه من الإذاعة العربية في برلين، بألمانيا، وقد نشرت كلمته كاملة في مجلة الفتح، السنة الرابعة عشرة (654) بعنوان- المحجة البيضاء- يقول- رحمه الله-:
(سيرة النبي- صلى الله عليه وسلم- كلها خير ويمن وبركة وآيات خالدات من العبقرية والعظمة التي لا نظير لها في تاريخ البشر، والمسلمون في أشد الحاجة في كل وقت وحين إلى مطالعة جمال السيرة الشريفة، والاقتباس من نورها؛ ليتخذوها مصباحا بين أيديهم يضئ لهم مدلهمات الحياة الدنيا، ويتجنبون به الوقوع في مهاوي الضلال والزلل في مز الق الخذلان….
وقد شهد الله لنبيه- صلى الله عليه وسلم- بالخلق الكامل، فقال- تعالى-: {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم:4]، فوصف خلقه الكريم- عليه الصلاة والسلام- بالعظمة، وأكده بـإن، واللام، والجملة الاسمية، وهذه أعلى طبقات التوكيد في اللغة العربية.
وسئلت عائشة- رضي الله عنها- عن خلق النبي، فقالت: [كان خلقه القرآن] (رواه بهذا اللفظ أحمد والطبراني في الأوسط، وعند مسلم بلفظ: فإن خلق نبي الله- صلى الله عليه وسلم- كان القرآن) يأتمر بأوامره وينتهي بنواهيه، فمن أراد أن يعرف خلق النبي- صلى الله عليه وسلم- فليدرس القرآن، ويتفقه في السنة؛ لأنها تفسير له.
قال الشافعي- رضي الله عنه-: كل حديث قاله النبي- صلى الله عليه وسلم- فهو مما فهمه من كتاب الله- عز وجل- وذلك واضح؛ لأن السنة الكريمة هي التي بينت الخاص والعام، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ، والمجمل والمفصل، وبينت كيف العمل في فرائض الله، كما قال الله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل:44]، وقد بين -صلى الله عليه وسلم- للناس ما نزل إليهم، وأوضح السبيل، وأقام الحجة، ولم يترك أمرا فيه رشاد وفلاح لأمته، أي أمة الدعوة -وهم أهل الأرض كافة- إلا أرشد إليه وبينه أفضل تبين، ولا غادر أمرا ضارا إلا حذر منه ونهى عنه، فالخير كله في اتباعه، والشقاء والوبال في مخالفة سنته).
رحم الله الشيخ الجليل، وجزاه عن جهاده في الدعوة إلى التوحيد، واتباع الكتاب والسنة، ونشر العلم، خير الجزاء، وجعله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
بقلم تلميذه : أحمد بن محمد الحمزاوي