إن كثيراً من دعاة الإسلام يستثقل السفر والارتحال من أجل الدعوة إلى الله وبث الخير، ويبادرك إذا دعوته لشيء من هذا بقوله : أنا لا أحب السفر!!
والمترجم له في هذه الحلقة ضرب المثل بكثرة الأسفار دعوةً إلى الله تعالى وتعلماً وتعليماً في مشارق الأرض ومغاربها.
ولد رحمه الله تعالى في قرية الفيضة من بوادي يفلي بسجلماسة “تافيلالت” بالمغرب سنة 1311/1892، وكان أبوه وجده من الفقهاء ، وهو من أسرة ينتهي نسبها إلى الحسين بن علي -رضي الله عنهما- وسماه والده محمداً التقي لرؤيا رآها لكنه اشتهر بلقب تقي الدين لأن أهل الهند لقبوه بذلك فصار علماً عليه.
قرأ القرآن على أبيه وجده، وحفظه وهو ابن اثنتي عشرة سنة ، ثم سافر إلى الجزائر سنة 1333/1915 لطلب الرزق لكنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رؤيا مقتضاها أنه صلى الله عليه وسلم وجهه لطلب العلم فدرس على الشيخ محمد سيدي بن حبيب الله الشنقيطي مختصر سيدي خليل وعلوم اللغة حوالي خمس سنوات إلى وفاة الشيخ سنة 1338/1920 في إحدى عمالات وهران من الجزائر، وكان الشيخ إذا سافر ينيب الهلالي في إلقاء دروسه ويقول للطلبة : كل ما عندي من العلم فهو عند هذا الفتى.
ثم عاد إلى المغرب ووصل إلى فاس سنة 1340/1922 وحضر دروس بعض العلماء في جامعة القرويـين وحصل منها على شهادة عادلها بعد ذلك بالشهادة الثانوية في جامعة بون بألمانيا التي درس بها.
ثم في آخر سنة 1340/1922سافر إلى مصر واجتمع بمشايخ منهم الأستاذ رشيد رضا وعبدالظاهر أبو السمح، إمام المسجد الحرام.
وحدثت له بمصر حوادث كثيرة بسبب تمسكه بالكتاب والسنة وقوة حجته وشدته على خصومه.
وحضر دروس القسم العالي من الأزهر فنصحه الشيخ الزنكلوني بألا يطلب علم الحديث في مصر لقلة العناية به آنذاك، ورأى الهلالي كتاب “عون المعبود شرح سنن أبي داود” وعلم أنه طبع في الهند فعزم على السفر إلى هنالك، وشد الرحال بعد عدة أشهر قضاها في الصعيد للدعوة والوعظ ثم حج وسافر، فأقام هنالك خمسة عشر شهراً واجتمع بأهل الحديث وقرأ شيئاً من الحديث ولقي الشيخ عبدالرحمن المباركفوري صاحب “تحفة الأحوذي في شرح جامع الترمذي” ووصفه بأنه صالح عالم زاهد بكّاء، من أولياء الله الصالحين.
ودرّس ديوان المتنبي لمدة ستة أشهر في مدرسة علي خان في دهلي.
ثم توجه إلى البصرة سنة 1343/1924 ولقي العالم الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – الذي ترجمت له من قبل- وتزوج ابنته، وأقام بالبصرة ثلاث سنوات.
ثم سافر إلى المملكة ومعه توصية من الشيخ رشيد رضا إلى الملك عبدالعزيز قال له فيها :
“إن محمداً تقي الدين الهلالي المغربي أفضل من جاءكم من علماء الآفاق، فأرجو أن تستفيدوا منه”.
فأقام في ضيافته بضعة أشهر، ثم عين مراقباً للمدرسين في المسجد النبوي الشريف لمدة سنتين ، وأراد الملك عبدالعزيز أن يجعله إماماً في المسجد النبوي فرضي بشرط أن يسبح في الركوع والسجود عشر تسبيحات فطلب منه الملك أن يقولها ثلاثاً فقط خشية الفتنة، فرفض ولم يقبل الإمامة!!
ثم انتقل إلى مكة فأقام فيها سنة يُدرّس في المعهد السعودي والمسجد الحرام.
ثم سافر إلى الهند -على إثر وشاية من أعدائه عند الملك- وصار رئيس أساتذة الأدب العربي في “ندوة العلماء” وبقي فيها أربع سنوات تقريباً تعلم فيها الإنجليزية، وكان يدرب الطلبة على الخطابة، وأنشأ بمساعدة تلميذه الشيخ مسعود الندوي مجلة “الضياء” التي تعلم الطلبة الكتابة والإنشاء.
ثم رجع إلى البصرة فأقام فيها ثلاث سنوات تقريباً معلماً في مدرسة النجاة.
ثم سافر إلى جنيف بطلب من الأمير شكيب أرسلان، وقد سقت ترجمته من قبل، ومن هنالك سافر إلى بون سنة 1355/1936 بتوصية من الأمير ليدرّس الأدب العربي محاضراً في جامعتها وقال الأمير في توصيته به إلى أحد أصدقائه في الخارجية الألمانية :
“عندي شاب مغربي أديب ما دخل ألمانيا مثله، وهو يريد أن يدرس في إحدى الجامعات، فعسى أن تجدوا له مكاناً لتدريس الأدب العربي براتب يستعين به على الدراسة”، وشرع في تعلم اللغة الألمانية، ثم صار طالباً في الجامعة ليجمع بين الدراسة والتدريس!!
وبقي في بون ثلاث سنوات ترجم فيها كتابين عربيين قديمين إلى الألمانية.
ثم طلبت وزارة الدعاية الألمانية من وزارة التعليم ورئاسة الجامعة إعارة خدماته إلى جامعة برلين ليشرف على الإذاعة العربية التي أسست في بداية الحرب العالمية الثانية ، فصار مرجعاً لغوياً للإذاعة إضافة إلى قيامه بمهام التدريس في جامعة برلين، ولم ينس أن يكون طالباً فيها أيضاً!!
ثم قدم في صيف سنة 1359/1940 رسالة الدكتوراه لجامعة برلين وهي ترجمة لكتاب “الجماهر في الجواهر” مع تعليقات عليها فَنَّد فيها آراء بروكلمان وغيره من المستشرقين الألمان، ورد عليهم رداً قوياً دافع فيه عن البيروني الذي ادعوا أنه كان زنديقاً شعوبياً، وذلك الدفاع استقاه من كتب البيروني نفسها، وناقشه في الرسالة عشرة من العلماء الألمان ووافقوه جميعاً على ما ذهب إليه، ونشر الرسالة ناشر ألماني لنفاستها.
وفي أثناء الحرب العالمية الثانية بعثه الحاج أمين الحسيني إلى شمال المغرب في مهمة سياسية وكان جواز سفره عراقياً إذ كان قد تجنس بالجنسية العراقية أثناء إقامته هنالك فرفضت السفارة العراقية تجديده لدسيسة انجليزية، فبعث إليه السفير المغربي جوازاً مغربياً على أنه من تطوان فساومه الإسبان على الدخول إلى تطوان بأن يكتب مقالاً يوضح فيه أنه لا حق لألمانيا في المغرب وكان الإسبان أعداء لألمانيا آنذاك، وكان لألمانيا مطامع في المغرب، فكتب المقال وذكر فيه أن المغرب لأهله وأنه لا حق لأحد من المحتلين فيه، ففرح بالمقال الاسبان ونشروه، وطلبوا منه ألا يكتب أي شيء بعد ذلك إلا بإذنهم وبقي عندهم 5 سنوات، خبيراً في معهد الباحثين، ودعا إلى ترك البدع واتباع الكتاب والسنة.
وفي أثناء إقامته ورد عليه خطاب من الأستاذ البنا رحمه الله تعالى يطلب منه مراسلاً لجريدة “الإخوان المسلمون” وإن استطاع الهلالي أن يكون هو المراسل فليفعل، فأرسل الهلالي عدة مقالات فاكتشف أمره لتواطئ ساعي البريد المغربي مع الإسبان فسُجن ثلاثة أيام في شفشاون مكان إقامته ثم أُفرج عنه بعد تذمر أهل المدينة وشكواهم إلى السفير الإسباني في طنجة، واجتمع بالبنا بعد ذلك سنة 1366/1947 في مركز الإخوان العام في القاهرة.
ثم سافر إلى العراق سنة 1366/1947 وعين مدرساً للكتاب والسنة وللأدب العربي في كلية الملكة عالية في جامعة بغداد، لكن صالح جبر رئيس الوزراء – وكان من الشيعة – منعه من العمل بحجة أنه عاد إلى العراق بجواز أجنبي وأنه تنازل عن الجنسية العراقية، وهذا لم يحدث إنما اضطر إليه الهلالي لأن السفارة العراقية في روما لم تجدد جوازه كما ذكرت من قبل، وفحص الهلالي عن السبب الحقيقي لهذا العداء فإذا هو بسبب تشيع صالح جبر، واطلع على ملفه في دائرة التحقيقات الجنائية بمساعدة بعض أصدقائه فوجد فيه أنه معاد للشيعة فمكث سبعة أشهر على ذلك حتى وقعت اضطرابات في العراق فرّ على إثرها صالح جبر ونوري السعيد وتولى محمد الصدر رئاسة الوزارة وأمر بإعادة الاعتبار للهلالي وإعادة تجنيسه، واستطاع بذلك أن يزاول عمله في الجامعة.
ثم بعد أربع سنوات رُقي إلى درجة أستاذ مساعد ثم أستاذ.
ولما حدثت ثورة الشيوعيين في العراق سنة 1377/1958 اضطربت الأوضاع جداً، وقُتل كثير من المسلمين ظلماً وعدواناً ، فخاف الهلالي على نفسه فخرج من العراق إلى المغرب وعين أستاذاً في كلية الآداب بجامعة محمد الخامس وبقي فيها إلى سنة 1388/1968.
ثم حج في تلك السنة فدعاه الشيخ عبدالعزيز بن باز ليكون أستاذاً في الجامعة الإسلامية في المدينة النبوية المنورة وبقي فيها إلى سنة 1394/1974.
ثم عاد إلى المغرب وأقام في مدينة مكناس للدعوة والوعظ وإلقاء الدروس في المساجد، وتجول في أنحاء المغرب للدعوة.
همته:
ـ والناظر إلى هذه السيرة العجيبة يعلم أن صاحبها كان ذا همة عالية جداً، فقد هان عليه السفر في زمن كان السفر فيه صعباً شاقاً، وهان عليه تحمل المشاق الكثيرة في سبيل الدعوة إلى الله والوعظ والإرشاد، حتى أنه كان يسافر ماشياً في بعض الأحيان.
وتعرض للأخطار الكثيرة فلم يأبه بها حتى أنه هُدد بالقتل فلم يرجع عما يعتقده ويؤمن به، رحمه الله تعالى.
ـ ومن الدلائل على علو همته ما قاله أحد تلاميذه وهو أحمد هارون التطواني :
“لم يكن شيخنا ليضيع وقته مهما كان، يقرأ ويكتب الأشعار وهو في السيارة، يقضي يومه من الصباح إلى المساء في علم وتعليم وذكر وتأليف”.
وقال أيضاً :
“يتميز أستاذنا باتصاله بالشعب، فأي شخص صغير أو كبير يستطيع أن يوقفه في الشارع ويتحدث معه، كما كان بيته مفتوحاً دائماً فتجد الأفواج تأتي إلى منـزله وهو لا يمل من الترحاب والإكرام، وكان يقوم بنفسه قبيل صلاة الصبح يسخن لنا الماء لنتوضاً به”.
مؤلفاته :
للهلالي كتب كثيرة تناهز الأربعين، وترجم صحيح البخاري إلى الانجليزية، وكان يكتب في مجلة “الفتح” لمحب الدين الخطيب، ومجلة “المنار” لرشيد رضا ، ومجلة “الهدي النبوي” لجماعة أنصار السنة.
له ديوان شعر منه قصيدة قالها في انتقاد أخلاق الموظفين في العراق أيام الحكم الملكي ، ومنها:
نحن في بلدة غدا الحكم فيها
-يا رحيماً رحماك- للبواب
إن يكن راضياً دخلتَ وإلا
تبقى في الواقفين دون الباب
بلدة أصبح الموظف فيها
جالساً في السماء فوق السحاب
مَن يُرِدْ أن يلقى الموظف يُبصرْ
قبل أن يلقاه صنوف العذاب
ومنها يتحدث عن لقاء المدير:
وإذا ما سألت عنه فلا تسمع
منهم سوى اختلاق الجواب
هو عند الوزير بل في اجتماع
عنده زائر من الأصحاب
لم يجئ بعد فانتظر أو تأخر
لغد أو فاغرب لغير إياب
وإذا فزت باللقاء فحاذر
رفع صوت أمامه في الخطاب
وتجنب ذكر الحقوق وبالغ
في خضوع وذلة وانتحاب
ثم قل في تملق وانكسار
وثناء منمق مستطاب
ليت كل الموظفين كمثل البيك
في رقة ولين جناب
إلى آخر ما قاله رحمه الله تعالى.
ـ توفي رحمه الله تعالى سنة 1407/1987 بمنـزله في الدار البيضاء فيكون بذلك قد عاش قرابة 97 سنة، وكانت خاتمته حسنة -إن شاء الله- فقد توضأ وصلى ركعتين وقرئ عليه سورة ياسين ثم طلب من القارئ الإعادة من قوله تعالى: “أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة” فلما وصل إلى قوله تعالى “وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيى العظام وهي رميم” فرفع الشيخ إصبعه إلى السماء وفاضت روحه رحمه الله تعالى.
قال عنه العلامة حماد الأنصاري :
“كان في اللغة العربية إماماً، وكان على مذهب ظاهري، وهو شيخي استفدت منه كثيراً، وكان سلفي العقيدة؛ لو قرأتَ كتابه في التوحيد لعلمتَ أنه لا يعرف التوحيدَ الذي في القرآن مثله”.
وقال أيضاً : وقد مضت علي الآن خمس وأربعون سنة لم أر مثله.
والعجيب أن الشيخ عبدالحميد بن باديس مدحه سنة 1356/1938، أي قبل موت الهلالي بإحدى وخمسين سنة!! فقال عنه:
“والأستاذ العلامة محمد تقي الدين الهلالي -صاحب الفصول الممتعة، والبحوث الجليلة في صحيفـة “الفتح”- من أفاضلنا اللذين أجمع على الاعتراف بفضلهم الشرق والغرب، والعرب والعجم، والمسلمون وغير المسلمين، فهو في الحجاز نار على علم شهرة وفضلاً، وفي الهند تبوأ منصة التدريس في أرقى جامعاتها، وفي العراق معروف بدأبه على خدمة هذه الأمة وحرصه على خيرها، وهو الآن في ألمانيا موضع الحرمة من أركان جامعة بون التي يتولى التدريس فيها؛ فالأستاذ الهلالي رجل علمي واسع النظر واقف على أحوال الشرق والغرب لذلك كان ما يقرره في بحوثه من حقائق يأتي ناضجاً مفيداً ممتعاً…”.
فانظروا إلى هذه الشمائل والخلال التي كان يتحلى بها قبل 51 سنة من وفاته!!.
قوته في الحق:
كان الشيخ قوياً في الحق لا يعرف اللين فيه ولا المحاباة، وجرى له بسبب ذلك أحداث عديدة منها أنه لما سافر إلى مصر – كما بينت من قبل- قصد الإسكندرية ، وفي الطريق أدركته صلاة الظهر في إحدى القرى فصلى في مسجد فرأى فيه قبراً والناس تتمسح به ويطلبون منه المدد والحوائج، فأنكر عليهم بشدة فضربوه حتى أغمي عليه، وأنقذه الله بمن رش على وجهه الماء وأخذه إلى بيته يمرضه شهراً كاملاً، ونصحه بعد أن عاتبه على قلة مداراته بالذهاب إلى الملك عبدالعزيز فسيجد عنده بغيته.
ـ ومن مواقفه أنه كان إماماً لمسجد بناه الوجيه مصطفى إبراهيم في منطقة الدورة بالبصرة، وفي مرة من المرات حانت صلاة المغرب فتأخر صاحب المسجد عن الحضور في موعد الصلاة فأقام الهلالي الصلاة وصلى ولم ينتظره، وبعد الصلاة عاتبه لأنه لم ينتظره، فقال له: إن وقت المغرب قصير ولا يصح التأخير، فقال: ألا تعلم يا شيخ تقي الدين أنني أملك نصف منطقة الدورة؟!!
فقال: وأنا أملك النصف الآخر!! وأنا إمام المسجد.
ثم غادر المنطقة ولم يَعُد إليها.
مروءة الشيخ:
كان الشيخ رحمه الله تعالى صاحب مروءة وشهامة، يساعد الناس ويقضي حوائجهم، وإليكم هذه القصة المعبرة التي تدل على ذلك، فقد تحدث الشيخ عن تلميذة درست عنده اسمها نـزهة فقال:
صارت “نزهة كويز” من تلميذاتي قبل ثلاث سنين، ولما عرفت ما أوجب الله عليها من ستر العورة والتمسك بالعفاف عزمت على أن تعصي والديها ولا تعود إلى المدرسة، فلما حان ابتداء السنة الدراسية أخبرت أهلها بذلك، فقالا لها: أجننت؟ كيف تتركين الدراسة بعد ما نجحت في السنة الخامسة من الثانوي وتضيعيننا وتضيعين نفسك؟
فقالت لهم: إني قد علمت من دروس الدكتور محمد تقي الدين ابن عبدالقادر الهلالي الحسيني أن ما ترتكبه المدارس الثانوية من إجبار الفتيات على التجرد من ثيابهن بحيث لا تبقي إلا خرقة رقيقة تستر القبل ستراً كالعدم، وأخرى مثلها تستر الدبر ويكون ذلك أمام رجال المدرسة من معلمين وطلاب، ومن يمر بجانب المدرسة من عابري السبيل، حرام شرعاً، وهي بذلك تشير إلى ما تلبسه الطالبات إذا نزلن المسبح.
وجاءتني باكية فذهبت إلى طبيب مشهور في مكناس، والتمست منه أن يكتب لها شهادة بأنها مريضة، وأن الرياضة البدنية التي يتستر بها المجرمون في تعرية الفتيات وهن ما بين السادسة عشرة والثانية والعشرين لا تتفق مع صحتها، فلما قدمت الشهادة إلى مدير المدرسة بعثها إلى طبيب فرنسي ففحصها ووجدها صحيحة لا مانع لها من الرياضة البدنية بل التعرية الشيطانية، فرجعت إليَّ باكية أيضاً وكان عندي سبعة من المعلمين في المدارس الثانوية يتلقون دروساً من كتابي “تقويم اللسانين” فعرضت عليهم المشكلة، فقالوا: إن مدير المدرسة التي تدرس فيها نزهة متدين وقد حج بيت الله، فنحن نتوجه إليه ونسأله إعفاءها من درس الرياضة البدنية الذي يتسترون به على كشف عورات النساء وتعويدهن على الوقاحة وقلة الحياء بل عدمه فيصلن بذلك إلى الفجور.
فذهبوا إليه وإلى الحارس العام الذي يشاركه في التصرف فاعتذر المدير بأنه يخاف المفتش خصوصاً، وقد ثبت أنها تستطيع أن تلعب الرياضة، فقال الحارس العام: إذا وافقني المدير فنحن نعفيها من ذلك، فأُعفيت من تلك السنة، وكانت تحافظ على صلاة العصر في وقتها فيجتمع عليها سفهاء المدرسة من الرجال والنساء، ويقولون: هذه الجدة جاءت!! هذه الحاجة جاءت!! تقبل الله!! استهزاء بها، فلا تبالي بهم، وتؤدي صلاتها بغاية الاطمئنان، لا تألوا جهداً أن تصلي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واتفق أني في تلك السنة اتصلتُ بصاحب الفضيلة رئيس تعليم البنات الشيخ ناصر بن حمد آل راشد، فبعث إليّ مدير التعليم سعادة الأستاذ الشيخ عبدالله العقيل وقدم عليّ في مدينة الدار البيضاء، وأقام أياماً تكرر اجتماعنا فيها، وأخبرني: بأن سماحة رئيس تعليم البنات الشيخ ناصر بن حمد آل راشد يقبل خمس طالبات كل سنة يكملن تعليمهن في دائرة تعليم البنات بالمملكة العربية السعودية، وكان في ذلك فرج ومخرج لنـزهة كويز، فكانت أولى الطالبات الخمس، وفرحت بذلك فرحاً عظيماً، وقد استجاب الله دعاءها، فأخرجها من الظلمات إلى النور.
ولما حان وقت سفرها مع سائر الطالبات ذهبت إلى المدرسة التي كانت فيها لتأخذ كتاباً أعارته طالبة أخرى، فرآها المجرم المكلف بتعرية الطالبات يوم الثلاثاءمن كل أسبوع بذريعة ممارسة الرياضة البدنية فنظر إليها شَزْراً -أي من طرف عينه احتقاراً- وأوسعها هُجْراً، أي سباً مُقْذِعاً، وقال لها: لماذا غطيت رأسك أمريضة أنت؟
فأجابته : إن الإسلام أمرني بتغطية رأسي.
فقال لها بالفرنسية ما معناه “في نظري واعتقادي لا وجود للإسلام”.
ولما أخبرتني بذلك استشطت غضباً، وقلت لها: هلا قلت له: وفي اعتقادي أنا: أنت لست موجوداً، وأنت تعلمين أنه لم يبق له عليك سلطان، ولكن الفتاة المسلمة غلبها الحياء، وقد درست هذه الطالبة السنة الماضية في مدارس تعليم البنات بالرياض ونجحت، وهي الآن تدرس في هذه السنة هناك.
والفتيات المسلمات الطاهرات إذا سافرن للتعلم في مدارس السعودية يتلقين تغطية الوجه مع التستر التام بغاية السرور والفرح، وقد كتبت إلي إحداهن وهي آمنة الهاشمي ممن بُعثن في هذه السنة بعدما وصلت إلى الرياض، ورأت في الطريق كيف يعامل الناس الطالبات المسلمات بغاية الاحترام والتكريم، افتتحت الكتاب بهذه العبارة: “الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور”.
من عجائبه:
كان يعرف خمس لغات معرفة متقنة إضافة إلى إمامته في الفصحى وهي الألمانية والإنجليزية والفرنسية والعبرية والإسبانية، ويعرف البربرية، ويشارك في الأردو والسُرْيانية.
ـ وكان كثير الزواج، فقد تزوج في المملكة وله ابنتان فيها.
وتزوج في العراق وله أولاد هنالك اتصل أحدهم بالشيخ ابن باز رحمه الله تعالى أيام حرب الخليج الأولى وكان في مخيم رفحا للاجئين، فاهتم الشيخ ابن باز كعادته به وطلب من المسؤولين أن يحضر إلى الرياض هو وأولاده وأكرم وفادتهم حتى عادوا إلى العراق.
وتزوج في المغرب لكنه لم يرزق بأولاد من تلك المرأة.
وتزوج قبلها بأم شكيب وهي مغربية وله منها ابن وبنت.
وتزوج في ألمانيا بامرأة مسلمة وله ولد منها.
ملحظ : ذكر الدكتور محمد بن لطفي الصباغ أن الهلالي قدم عليهم في دمشق سنة 1373/1953 وكان كفيف البصر، ويستعمل في القراءة طريقة بريل، وهذا عجيب فإني لم أقرأ لأحد أن الهلالي كان كفيفاً فلعله كان عمى مؤقتاً، والله أعلم (1).
الدكتور محمد بن موسى الشريف
المصدر : موقع التاريخ
——————————–
(1) الدكتور الهلالي رحمه الله فقد فعلا بصره في آخر حياته، وذكر ذلك في أكثر من مصدر وكان يستعين بلغة برايل ويتخذ مساعدا يكتب ويقرأ له. (إدارة موقع الهلالي)