سلسلة من 14 مقالا نشرت في صحيفة الصباح المغربية سنة 2011
1- تقي الدين الهلالي… مغربي تجاوز علمه الحدود
04 يوليو 2011
درس في الأزهر وحاضر في الهند وأوربا وعين مذيعا في ألمانيا
بعد ستة وسبعون سنة من التنقل بين دول أوربية وآسيوية وعربية وإسلامية اختار في آخر عمره العودة بشكل نهائي إلى المغرب واستقر بالدار البيضاء، حيث توفي سنة 1987 وشيع في جنازة مهيبة.
قليلا ما سلط الضوء على سيرته، رغم أن لهذا الشيخ المغربي عشرات المؤلفات كما كتب عنه علماء مشارقة ومستشرقون أوربيون، وما تزال عدة جامعات ألمانية وبريطانية وسويسرية وفرنسية وسعودية ومصرية تحتفظ بأرشيف محاضراته خلال تدريسه لطلبتها على مدى أربعة عقود.
ارتبط اسمه بعلماء عرب ومسلمين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، بل ربطته علاقة متميزة بالعالم السعودي الشيخ عبد العزيز ابن باز، إلى درجة أنه خصص له جزءا في مفكرته “تحفة الإخوان”.
ولد الشيخ والعلامة المغربي محمد تقي الدين الهلالي بتافيلالت سنة 1891، ودرس في الكتاتيب القرآنية على يد مشايخ مغاربة في منطقة سجلماسة، قبل أن تقرر عائلته إرساله إلى مدارس عتيقة بمدن قريبة من مسقط رأسه لدراسة علوم القرآن والحديث، والتي تنبأ له فيها مشايخه بأنه سيكون من كبار العلماء في المغرب والعالم الإسلامي.
ويحكي الشيخ ابن باز في مفكرته “تحفة الإخوان” أن العالم الجليل تقي الدين الهلالي أخبره في أول لقاء به أن مولده كان في شهر محرم من عام 1311 هجرية (يوافق سنة 1891 ميلادية)، وأنه بذلك يكون قد عاش، سبعة وتسعين عاما، إلا شهرين وأياما.
وأشار الشيخ ابن باز في مفكرته إلى أن العالم المغربي تقي الدين الهلالي كان عالما فاضلا، باذلا وسعه في الدعوة، أينما كان، وقد طوف في كثير من البلاد، وقام بالدعوة إلى الله سبحانه في أوربا مدة من الزمن، وفي الهند وفي الجزيرة العربية…
عندما بلغ تقي الدين الهلالي من العمر 26 سنة وكان حينها من الطلاب المتفوقين على الصعيد الوطني في علوم الحديث، قرر السفر إلى المشرق واختار طلب العلم في مصر، وذلك بعد رحلة قصيرة قادته إلى الجزائر.
في سنة 1922 سافر تقي الدين الهلالي إلى مصر وبالضبط قصد الأزهر الشريف، حيث درس لبضع سنوات، فانقطع عنه بعد أن لم يجد بغيته فيه.
وخلال إقامته في مصر حضر مجالس علماء مصريين كبار وكان على رأسهم الشيخ رشيد رضا، الذي كان يداوم على مجالسه إلى أن توثقت صلته به وبتلامذته.
وحقق الطالب تقي الدين الهلالي النضج الفكري من خلال المناقشات الحادة التي كانت تعرفها مجالس الشيخ رشيد رضا، والتي كانت تختلف كليا عما كان عليه الأمر في المجالس العلمية بالمغرب.
حرص الشاب تقي الدين الهلالي وكان عمره حينها لا يتجاوز 26 سنة ونيفا على التحصيل والمشاركة في النقاش في الحلقات العلمية في مجالس الشيوخ والعلماء المصريين سواء الأزهريين أو غيرهم.
وبمداومته على حضور مجالس العلماء المصريين وكان أغلبهم حنابلة وحنفيين تحول عن مبدأ التقليد إلى استعمال الفكر وطلب الأدلة العقلية، وعن التقديس إلى البحث الاستقلالي والترجيح، والاعتماد على الأدلة الأصولية والرجوع إلى الكتاب والسنة.
2- الرحلة إلى الجزائر والتحصيل على يد الشيخ الشنقيطي
06 يوليو 2011
في مقال للدكتور محمد بن موسى الشريف كتب أن تقي الدين الهلالي ولد في قرية الغيضة وهي بادية تقع بمنطقة تافيلالت، وكان والده فقيها، واختار له اسم محمد التقي لرؤيا رآها في منامه.
ويختلف كثير من مؤلفي الكتب عن الشيخ المغربي تقي الدين الهلالي حول نسب أسرته، فهناك من يقول إنه من بني هلال المنتهي نسبهم إلى الحسين بن علي رضي الله عنه، وهناك من أشار إلى أنه ينتسب إلى أسرة الهلاليين ذات الأصول الأمازيغية الإفريقية، غير أن أغلب الباحثين أكدوا الطرح الأول.
واشتهر محمد التقي بلقب تقي الدين الهلالي، الذي أطلق عليه خلال رحلته ومقامه في الهند ليتجاوز لقبه حدود هذا البلد ليصل إلى المملكة العربية السعودية وحتى إلى الدول الأوربية التي كان يدرس فيها اللغة العربية وعلوم الحديث والقرآن الكريم.
تشير كثير من الأبحاث حول تقي الدين الهلالي إلى أنه قرأ القرآن على أبيه وجده، وحفظه وهو ابن اثنتي عشرة سنة، قبل أن يسافر إلى الجزائر سنة 1915، عكس رواية أخرى تفيد أنه سافر في البداية إلى مصر وعمره لا يتجاوز 22 سنة.
ودرس تقي الدين أو محمد التقي علوم اللغة والحديث في مدينة وهران الجزائرية على يد الشيخ محمد سيدي بن حبيب الله الشنقيطي وذلك لمدة خمس سنوات، إلى أن وافت المنية الشيخ المعلم وذلك في سنة 1920.
ومن المقولات الشهيرة التي كان يرددها الشيخ الشنقيطي على تلامذته قبل وفاته مقولة «كل ما عندي من العلم فهو عند هذا الفتى»، والمقصود محمد التقي، إذ كان ينيبه في إلقاء الدروس عند غيابه.
بعد وفاة الشيخ الشنقيطي عاد محمد التقي إلى المغرب وذلك سنة 1922 واستقر في مدينة فاس، وبدأ حضور دروس علماء المغرب في جامع القرويين بفاس.
وبعد سنوات من التحصيل العلمي في جامع القرويين، حصل على شهادة العالمية، ليسافر إلى مصر لاستكمال دراسته بجامع الأزهر الشريف قبل أن ينقطع ويقرر معادلة شهادته عن جامع القرويين بالشهادة الثانوية ويسجل نفسه للدراسة في جامعة بون بألمانيا.بعد الدراسة في جامعة بون لمدة سنة عاد محمد التقي إلى مصر وهناك التقى بعدد من المشايخ أمثال عبد الظاهر أبو السمح وكان حينها في سنة 1923 إماما للمسجد الحرام.
3- لقاء الملك عبد العزيز بتوصية شيخ مصري
07 يوليو 2011
لم يكن مقام محمد التقي أو تقي الدين الهلالي في مصر بدون حوادث، إذ دخل في صراع مع السلفيين وكان له خصوم كثر، لكنه قرر رغم كل هذا التسجيل لمتابعة الدراسة في القسم العالي في الأزهر الشريف، وكان من مشايخه الشيخ الزنكلوني، الذي نصحه بعد أن تبين له أنه لم يندمج مع الأزهريين، أن يسافر إلى الهند وسلمه كتابا تحت عنوان “عون المعبود شرح سنن أبي داوود”، والذي كان تأليفه وطباعته في الديار الهندية.
وسافر الهلالي إلى الهند التي كانت تشهد ميلاد حركة “الدعوة والتبليغ إلى الله”، فالتقى هناك بمشايخ عرب وهنود وبنغال وأفغان وباكستانيين وشارك معهم في الدعوة والوعظ.
وقضى الهلالي في الهند أزيد من 16 شهرا وكان من مشايخه هناك الشيخ عبد الرحمن المباركفوري مؤلف كتابة “تحفة الأحوذي في شرح جامع الترمذي”.
ومن المدن الهندية التي أقام فيها تقي الدين الهلالي مدينة دلهي، حيث درس ديوان المتنبي لمدة ستة أشهر في مدرسة علي خان، وفيها تعلم عددا من اللغات المحلية الهندية وكذلك اللغة الأردية.
بعد رحلته إلى الهند اختار تقي الدين الهلالي السفر إلى مدينة البصرة وذلك سنة 1924، والتقى هناك بعدد من مشايخ العراق من السنة والشيعة مثل الشيخ محمد الأمين، الذي تزوج ابنته.
وأقام الشيخ المغربي بالبصرة ثلاث سنوات، ليقرر السفر إلى المملكة العربية السعودية بتوصية من الشيخ رشيد رضا، وكان من كبار المشايخ في مصر حينها.
وسلم الشيخ رشيد رضا إلى تقي الدين الهلالي رسالة عبارة عن توصية إلى الملك عبد العزيز، وجاء فيها: “إن محمدا تقي الدين الهلالي المغربي أفضل من جاءكم من علماء الآفاق، فأرجو أن تستفيدوا منه”.
وكان لهذه الرسالة وقع على الملك عبد العزيز حين قراءتها لدى استقباله تقي الدين الهلالي، فضايفه لمدة ثلاثة أشهر، قبل أن يقرر تعيينه مراقبا للمدرسين في المسجد النبوي الشريف.
وبرزت الخلافات بينه وبين كبار مشايخ السعودية حين اشترطت عليه السلطات هناك مقابل أن يعين إماما في المسجد النبوي أن يسبح في الركوع والسجود ثلاث تسبيحات عوض عشر، فرفض الإمامة بهذا الشرط.
وبعد رفضه الإمامة في المسجد النبوي انتقل تقي الدين الهلالي إلى مكة المكرمة، فدخل المعهد السعودي وكان يحضر حلقات التحصيل في المسجد الحرام.
4- التدريس بألمانيا والإشراف على الإذاعة العربية ببرلين
08 يوليو 2011
غادر تقي الدين الهلالي السعودية مكرها، وفر إلى الهند، ليعين في منصب رئيس أساتذة الأدب العربي في مدينة دلهي، ومن خلال توليه هذا المنصب أنشأ مجلة تصدر باللغة العربية أسماها “الضياء”.
قضى الشيخ الهلالي أربع سنوات في الهند وتعلم اللغة الإنجليزية، وأصبح بعد إتقانها مترجما في الندوات والملتقيات، قبل أن يختص في ترجمة أهم المؤلفات في الهند إلى اللغة العربية، وإلى اللغات الحية مثل الانجليزية والفرنسية.
بعد ست سنوات قضاها في التدريس في الهند رجع تقي الدين إلى البصرة حيث تقيم أسرته الصغيرة، وفيها أصبح مدرسا في مدرسة النجاة.
قضى الشيخ المغربي في البصرة ثلاث سنوات قبل أن يقرر السفر إلى جنيف ليدرس هناك علوم الإعلام. والمثير في قصة تقي الدين أنه التقى في هذه المدينة الساحرة بالأمير المشرقي الشامي شكيب أرسلان، وتعززت علاقتهما ليكون له بالغ التأثير على مساره.
وأقام الهلالي في جنيف ستة أشهر وكان على اتصال دائم بالأمير شكيب أرسلان الذي اقترح عليه سنة 1936 السفر إلى ألمانيا وبالضبط إلى مدينة بون ليدرس الأدب العربي في جامعتها.
وسلم الأمير أرسلان لتقي الدين الهلالي رسالة توصية سلمها بدوره إلى مسؤول في الخارجية الألمانية كان من أصدقاء الأمير الشامي وجاء فيها: “عندي شاب مغربي أديب ما دخل ألمانيا مثله، وهو يريد أن يُدرس في إحدى الجامعات، فعسى أن تجدوا له مكانا لتدريس الأدب العربي براتب يستعين به على الدراسة”.
وسعيا منه إلى الاندماج في المجتمع الألماني سجل تقي الدين الهلالي نفسه في أحد معاهد تعليم اللغة الألمانية، ليلتحق بعد إتقانه لها بجامعة بون طالبا ومدرسا.
وتوفق الهلالي خلال مقامه في ألمانيا في ترجمة عدد من المؤلفات وبينها كتابان عربيان قديمان إلى الألمانية، والمشاركة في تأطير عديد من المحاضرات التي أقيمت في مدينة بون، حتى صار يلقب بالنابغة العربي.
وفي تلك الفترة كانت ألمانيا تعد لدخول الحرب العالمية الثانية وطلبت السلطات الألمانية من جامعة بون إعارة تقي الدين الهلالي إلى جامعة برلين ليصبح مشرفا على الإذاعة العربية التي أسست في بداية الحرب.
ولم يكن صعبا على تقي الدين الهلالي المزاوجة بين تدريسه في جامعة برلين والإشراف على تسيير الإذاعة العربية، بل إنه تفوق في المجال الإذاعي صوتا ولغة حتى صار مرجعا لغويا للإذاعات الألمانية في تلك الفترة.
5- حصل على الدكتوراه بألمانيا واختاره “البنا” مراسلا لجريدة “الإخوان المسلمين”
11 يوليو 2011
جمع تقي الدين الهلالي على مدى خمسة عقود بين العلوم الدينية والبحث في اللغات والترجمة والإعلام، وهو ما يبرز في رسالة الدكتوراه التي تقدم بها في سنة 1940 وكانت عبارة عن أطروحة ترجمة لمؤلف “الجماهر في الجواهر”.
وتطرق الهلالي في رسالة الدكتوراه أمام جامعة برلين لآراء بروكلمان ومجموعة من المستشرقين الألمان. وأخذ في تعليقه على آرائهم مواقف فند فيها بعض مزاعمهم.
وبين ما ورد في موقفه حول آراء بروكلمان دفاعه عن “البيروني”، الذي ادعى بعض المستشرقين أنه كان شعوبيا.
ومنحت الدكتوراه لتقي الدين الهلالي من طرف جامعة برلين، وأوصت اللجنة المشرفة المكونة من عشرة علماء ألمان بنشرها وتكلف ناشر ألماني ونشرت فعلا في مؤلف وزع على العشرات من المكتبات الألمانية.والمثير في حكاية تقي الدين الهلالي، حسب ما ورد في مؤلفات ووثائق نشرها موقع “التاريخ” أنه قام بزيارة سرية إلى شمال المغرب بتكليف من أحد المشارقة، ودخل التراب الوطني بواسطة جواز سفر عراقي.وعن هذه الحكاية يقول أحد المقربين منه “إنه اختار الدخول بجواز سفره العراقي، لتفادي المراقبة من طرف السلطات حينها، على اعتبار أنه كان حصل على الجنسية العراقية بحكم زواجه من امرأة من مدينة البصرة”.
وبخلاف هذه الرواية جاء في الموقع الرسمي للشيخ تقي الدين الهلالي أن السفارة العراقية في ألمانيا رفضت تجديد جواز سفره العراقي بناء على تعليمات من سياسيين انجليز في تلك الفترة، وهو ما دفع السفير المغربي في برلين إلى إصدار جواز سفر مغربي له وإرساله إليه، على أساس أنه صادر عن تطوان ويمكن له التنقل به بشرط أن يحرر مقالا في إحدى المجلات الألمانية يشير فيه إلى أن “ألمانيا لا حق لها في المغرب”، على اعتبار أن ألمانيا كانت عدوا للإسبان.
وبالفعل حرر تقي الدين الهلالي المقال استجابة لطلب السفير المغربي ونشره في إحدى المجلات الألمانية، وسافر إلى المغرب وكانت أول محطة مدينة تطوان.
وطالت الإقامة بالهلالي في شمال المغرب واستمرت خمس سنوات وكلف بمهمة في معهد الباحثين الإسبان.
وبحكم أن تقي الدين كان على اتصال دائم بعدد من المشايخ المصريين وقع الاختيار عليه من طرف جماعة الإخوان المسلمين، وتوصل في هذا الإطار برسالة من “حسن البنا” طلب فيها منه أن يكون مراسلا لجريدة الجماعة.
واستجابة لطلب مؤسس جماعة الإخوان المسلمين وسعيا منه إلى نشر فكره على نطاق واسع في الوطن العربي، ونشرت له عدة مقالات في جريدة الجماعة، قبل أن يكشف أمره للإسبان ويعتقل ويسجن في معتقل تابع للجيش الإسباني بمدينة شفشاون.
6- الانتقال من جامعة محمد الخامس للتدريس بالمدينة المنورة
12 يوليو 2011
لم يكن تقي الدين الهلالي يعلم أن ساعي بريد مغربي، سيكون وراء الوشاية به إلى الإسبان، ليسجن لمدة ثلاثة أيام في سجن الجيش الإسباني في شفشاون.
وثار سكان شفشاون وقبائلها بعد سماعهم خبر اعتقال الشيخ تقي الدين الهلالي، ووجهوا رسالة احتجاج إلى السفير الإسباني في مدينة طنجة، طالبوه فيها بالإفراج الفوري عنه، واستجاب لمطلبهم.
وبعد الإفراج عنه سافر تقي الدين أو محمد التقي إلى مصر والتقى في عاصمتها بمؤسس جماعة الإخوان المسلمين “حسن البنا”، وكان ذلك سنة 1947.
وعبر الهلالي خلال زيارته لمركز الإرشاد العام لجماعة الإخوان المسلمين بالقاهرة عن إعجابه بتنظيم الجماعة وأنشطتها الدعوية في ظل الاحتلال الانجليزي.
ولم يطل بالشيخ المغربي المقام في مصر، إذ سافر في السنة نفسها إلى العراق، ليعين أستاذا جامعيا في شعبة الأدب العربي في كلية الملكة عالية في جامعة بغداد.
وكما كان في المرات السابقة تربص به الأعداء وكانوا في هذه المرة من الطائفة الشيعية، إذ وجهوا إليه اتهاما مفاده أنه تنازل عن الجنسية العراقية ودخل بلاد الرافدين بجواز سفر مغربي.
وفسر الهلالي دخوله العراق بجواز سفر مغربي بأن السفارة العراقية في روما لم تجدد له جواز سفره ما اضطره إلى استعمال وثائق السفر الممنوحة له من طرف سلطات بلده الأصلي.
وقضى الشيخ المغربي ستة أشهر في العراق تحت المراقبة الأمنية، إلى أن وقعت اضطرابات فر إثرها كبار المسؤولين الشيعة في النظام العراقي ليعين محمد الصدر رئيسا للوزراء، ليقرر رد الاعتبار إلى الهلالي وإعادة الجنسية إليه، ليتمكن بهذا من التدريس في جامعة بغداد.
وتدرج الهلالي في سلالم التدريس في جامعة بغداد حتى صار رئيسا لشعبة، وذلك في مدة لا تتجاوز خمس سنوات، قبل أن يقرر بعد حدوث انقلاب في سنة 1958 الفرار إلى المغرب، حيث عين أستاذا في كلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط.
وظل الهلالي في هذا المنصب إلى سنة 1968 أي أنه قضى في التدريس في جامعة الرباط مدة عشر سنوات، ليقرر بعد توصله بدعوة من الشيخ عبد العزيز بن باز الانتقال إلى السعودية للتدريس في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة.
وبقي تقي الدين يدرس في الجامعة الإسلامية إلى سنة 1974، ليقرر بعد ذلك العودة من جديد إلى المغرب، حيث أقام في مدينة مكناس واختار سبيل الدعوة والوعظ والإرشاد عبر مختلف أرجاء التراب الوطني.
7- ترجم صحيح البخاري إلى الانجليزية ونظم الشعر
14 يوليو 2011
تحمل تقي الدين الهلالي كثيرا من المشاق في سبيل الدعوة إلى الله والوعظ والإرشاد في عدد من الدول الإسلامية سواء في إفريقيا أو آسيا، إلى درجة أنه قطع مسافات وحدودا بين دول في آسيا الوسطى مشيا على الأقدام، وهو ما أشار إليه الشيخ عبد العزيز ابن باز في مفكرته “تحفة الإخوان”.
ولم تثن كل هذه الصعاب الشيخ الهلالي عن السفر إلى دول كانت تشهد حروبا واقتتالا طائفيا، إذ زار دولا صغيرة في آسيا ونشر الإسلام بين سكانها، بل إنه أقام فيها رغم الأوضاع الصعبة التي كانت تعيشها في تلك الفترة.
ويقول أحمد هارون التطواني، وهو أحد تلامذة الشيخ الهلالي، “لم يكن شيخنا ليضيع وقته مهما كان، يقرأ ويكتب الأشعار، يقضي يومه من الصباح إلى المساء في علم وتعليم وذكر وتأليف، يتميز أستاذنا باتصاله بالشعب، فأي شخص صغير أو كبير يستطيع أن يوقفه في الشارع ويتحدث معه، كما كان بيته مفتوحا دائما، فتجد الأفواج تأتي إلى منزله وهو لا يمل من الترحاب والإكرام، وكان يقوم بنفسه قبيل صلاة الصبح يسخن لنا الماء لنتوضأ به..”.
وتجاوزت مؤلفات تقي الدين الهلالي عدد الخمسين مؤلفا، بل إنه كان أول من ترجم صحيح البخاري إلى الانجليزية، وكان صحافيا متميزا سواء من خلال اشتغال في إذاعة برلين في ألمانيا أو في الكتابة في عدد من المجلات العربية والأوربية، إذ كتب في مجلة (الفتح) لمحب الدين الخطيب، ومجلة (المنار) لرشيد رضا ومجلة (الهدي النبوي) لجماعة أنصار السنة.
وكان الهلالي شاعرا متميزا وله ديوان شعر وكان من علماء الإسلام الذين يتقنون نظم البيوت الشعرية في انتقاد واقع أنظمة وشعوب العالم الإسلامي.
ومن الشهادات التي قيلت في حق تقي الدين الهلالي قبل وفاته شهادة للشيخ عبد الحميد بن باديس حين قال “الأستاذ العلامة محمد تقي الدين الهلالي «صاحب الفصول الممتعة، والبحوث الجليلة في صحيفة (الفتح)” من أفاضلنا الذين أجمع على الاعتراف بفضلهم الشرق والغرب، والعرب والعجم، والمسلمون وغير المسلمين، فهو في الحجاز نار على علم شهرة وفضلا، وفي الهند تبوأ منصة التدريس في أرقى جامعاتها، وفي العراق معروف بدأبه على خدمة هذه الأمة وحرصه على خيرها، وهو الآن في ألمانيا موضع الحرمة من أركان جامعة بون التي يتولى التدريس فيها، فالأستاذ الهلالي رجل علمي واسع النظر واقف على أحوال الشرق والغرب، لذلك كان ما يقرره في بحوثه من حقائق يأتي ناضجا مفيدا ممتعا…».
8- حاضر باللغات العبرية والأردية والسريانية
18 يوليو 2011
يقول العلامة المغربي حماد الأنصاري عن الشيخ تقي الدين الهلالي “كان في اللغة العربية إماما، وكان على مذهب ظاهري، وهو شيخي استفدت منه كثيرا، وكان سلفي العقيدة، لو قرأت كتابه في التوحيد لعلمت أنه لا يعرف التوحيد الذي في القرآن مثله”.
والمثير أن الأنصاري الذي كان من تلامذة الهلالي كتب في أحد مؤلفاته عبارة جاء فيها: “وقد مضت علي الآن خمس وأربعون سنة لم أر مثل الشيخ الهلالي”.
وكان الشيخ الهلالي ذا شخصية قوية تسببت له في كثير من المتاعب خلال مقاماته بعدد من الدول، ومنها الحكاية التي وقعت له خلال زيارته إلى مدينة الإسكندرية، إذ صلى في مسجد وعندما أكمل الصلاة لاحظ وجود قبر يحيط به مجموعة من المصلين، ما جعله ينتقد الأمر ويعتبره غريبا عن الإسلام، ما جعل هؤلاء الناس يضربونه ضربا مبرحا.
ومن مواقف الشيخ الهلالي أنه كان إماما لمسجد في منطقة الدورة بمدينة بالبصرة، وفي مرة من المرات حانت صلاة المغرب فتأخر صاحب المسجد عن الحضور في موعد الصلاة فأقام الهلالي الصلاة وصلى ولم ينتظره، وبعد الصلاة عاتبه لأنه لم ينتظره، فقال له: إن وقت المغرب قصير ولا يصح التأخير، فقال: ألا تعلم يا شيخ تقي الدين أنني أملك نصف منطقة الدورة”، فرد عليه: “وأنا أملك النصف الآخر.. وأنا إمام المسجد”. ثم غادر ولم يعد إلى هذا المسجد.
كان تقي الدين الهلالي يتقن الحديث والكتابة بخمس لغات وهي الألمانية والإنجليزية والفرنسية والعبرية والإسبانية، إضافة إلى اللغة العربية، والأردية والسريانية…
وكان ملما بالكتب العبرية على اعتبار أنه كان يتقن الحديث والكتابة بهذه اللغة وترجم عدة مؤلفات من العبرية إلى العربية والانجليزية والألمانية، بل إنه حاضر في عدة مناسبات بدول أوربية باللغة العبرية.
وتشير عدة كتب عن سيرة الهلالي إلى أنه كان مزواجا إذ تزوج في العراق والمملكة العربية السعودية وفي رفح بفلسطين وفي المغرب.
وللشيخ الهلالي عدة أبناء بينهم من يحمل جنسيات عراقية وأردنية وسعودية وفلسطينية وأوربية ومغربية.
ويعيش حاليا في العراق أبناء للشيخ الهلالي كما يقيم في مدينة رفح أحد أولاده وفي السعودية أيضا تقيم ابنتاه، وهناك معلومات عن وجود أبناء له في دول أوربية بينها ألمانيا وفرنسا.
9- ألف عدة كتب بينها “الإلهام والإنعام في تفسير الأنعام”
19 يوليو 2011
ألف الشيخ الهلالي عدة مؤلفات لعل أبرزها “الزند الواري والبدر الساري في شرح صحيح البخاري”، و”الإلهام والإنعام في تفسير الأنعام”، و”مختصر هدي الخليل في العقائد وعبادة الجليل…”
وبين مؤلفات الهلالي المثيرة للجدل كتابه “الهدية الهادية للطائفة التيجانية”، والذي انتقد فيه هذه الطريقة الصوفية، رغم أنه كان من بين أتباعها قبل أن يتقرب من السلفيين المشرقيين.
واهتم الهلالي أيضا بالبحث الاجتماعي في علاقته بالدين الإسلامي فألف عدة مؤلفات عن المعتقدات مثل كتاب “العلم المأثور والعلم المشهور واللواء المنشور في بدع القبور”، وألف بعد سنتين من واقعة الإسكندرية التي تعرض فيها للضرب من طرف أناس كانوا في زيارة لأحد الأضرحة.
واهتم كذلك تقي الدين بعلوم الأديان الأخرى، فألف عدة كتب عن المسيحية مثل كتاب “البراهين الإنجيلية على أن عيسى داخل في العبودية وبريء من الألوهية”.
وجاء في شريط مسجل للشيخ عبد العزيز ابن باز قوله “الشيخ تقي الدين الهلالي، رحمه الله، من المجددين ومن دعاة الدعوة السلفية… وكان عالما فاضلا، باذلا وسعه في الدعوة إلى الله سبحانه، أينما كان، وقد طوف في كثير من البلاد، وقام بالدعوة إلى الله سبحانه في أوربا مدة من الزمن، وفي الهند وفي الجزيرة العربية…”.
عندما عاد الشيخ الهلالي إلى المغرب في منتصف ستينات القرن الماضي استقر في مدينة فاس، واختار نشر الدعوة والوعظ، وكان من المقربين إليه سلفيون مغاربة وأتباع من جماعة الدعوة والتبليغ، وكانت حينها لم تؤسس بعد، وكان أتباعها موالين إلى المرشد العام للجماعة في مصر.
ولم يحاول الهلالي بعد عودته إلى المغرب رغم قربه من جماعة الإخوان المسلمين في مصر وعلاقته بمؤسسها الشيخ “حسن البنا” تأسيس فرع لها بالمملكة، بل سعى منذ وصوله إلى بلده الأصلي إلى نشر الدعوة في المناطق النائية وكان يتنقل على الأقدام بين القرى والمدن.
واقترح على الشيخ الهلالي من طرف السلطات المغربية حينها عدة مناصب إلا أنه اختار العودة إلى مصر ومنها سافر إلى العراق حيث التحق بجامعة بغداد وشغل فيها منصب رئيس شعبة دراسات الأدب العربي، وهو ما أثار غضب أساتذة عراقيين تآمروا عليه بادعاء أنه ضد الشيعة في العراق ومناهض لعقيدتهم، ما عجل بسفره خارج بلاد الرافدين وكانت الوجهة السعودية، حيث اختار تدريس علوم الحديث واللغة الألمانية في المدينة المنورة.
10- كتب باحث في سيرته أن من الحماقة أن يفكر طالب فقير في السفر إلى الهند
22 يوليو 2011
يقول الدكتور محمد بن سعد الشويعر، وكان من المقربين من الشيخ العالم المغربي، “إنه كان شيخا في فكره ونضاله وشيخا في مجتمعه ثم شيخا في عمره الذي امتد 97 سنة”.
وتعرف الدكتور الشويعر على الشيخ الهلالي من خلال الشيخ عبد العزيز بن باز، وذلك لأنه كان من المقربين منه، وكان العالم المغربي على اتصال دائم به.
وجاء في مجلة “دعوة الحق” في تقديم لمندوبها بالمغرب خلال لقائه بالشيخ تقي الدين الهلالي “دخلت على الدكتور الهلالي غرفته في فندق فاخر، فإذا أنا أمام شخص متواضع في سمته وحديثه وحركاته، بسيط في مظره يبدأك بالسلام ويرحب بك تحريبا يجعلك تحس من أول وهلة أن بينكما سابق معرفة، ويحملك على أن تطرح التكلف وتفتح قلبك كله لهذا الرجل الذي يتحدث إليك بقلبه قبل أن يتحدث إليك بلسانه، إنه الدكتور الهلالي العالم الجليل والإنسان المتواضع والقلب الكبير”.
وفي تعريف المجلة بسيرة الهلالي كتب أحد الصحافيين “كان الطالب تقي الدين في السادسة والعشرين من عمره عندما غادر المغرب إلى مصر سنة 1922 وكانت غايته من الرحلة أن يطلب العلم وعلم الحديث على الخصوص وقصد الأزهر، ولكنه لم يجد بغيته فيه، فانقطع عنه، وتوثقت صلته بالشيخ رشيد رضا وتلامذته، وفي المجالس الخاصة للشيخ المصريي تفتق ذهن الطالب المغربي، وظهر فضله ورغبته في العلم وحرصه على التحصيل مهما كلفه ذلك من جهد أو تضحية أو مغامرة، كما أن المناقشات الحادة التي كانت تجري في مجالس الشيخ رشيد رضا كانت سببا في نضجه الفكري، وتحوله عن التقليد إلى استعمال الفكر وطلب الأدلة العقلية، وعن التقديس المبالغ فيه للعلماء الأعلام والتسليم بكل ما سرد عنهم، إلى البحث الاستقلالي والترجيح والاعتماد على الأدلة الأصولية والرجوع إلى الكتاب والسنة ومع ذلك فلا تزال في النفس بقية ولا يزال الطالب الذي خرج من المغرب في طلب علم الحديث، يبحث عنه فلا يجد ما يشفي غلته منه”.
وسئل عدد من الباحثين حول سيرة تقي الدين الهلالي في حوارات أجريت معهم في عدة مجلات مشرقية عن رحلاته وكيف اختار طريق الدعوة والوعظ فقال أحدهم “كان معنى الحماقة أن يفكر طالب فقير لا يجد عونا من أحد في السفر إلى الهند في وقت لم يكن يستطيع فيه التفكير في سفر بعيد كهذا إلا من كان يتوفر على ثروة طائلة، أو على الأقل على نصيب كبير من المال، ومع ذلك فقد أصبحت هذه الحماقة أمرا واقعا، وسافر تقي الدين الهلالي إلى الهند حيث مكث خمسة عشر شهرا، تتلمذ خلالها على أعلام رجال الحديث مثل الشيخ عبد الرحمن المباركفوري شارح الترمذي، وقد ذكر الشيخ الهندي تلميذه المغربي في آخر الجزء الرابع من كتابه”.
11- سافر إلى جنيف ولم يكن يمتلك سوى ثمانين دينارا
22 يوليو 2011
عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية كان تقي الدين الهلالي في ألمانيا مشرفا على البرامج العربية بإذاعة برلين، بل كان مستشارا لدى هيئة الإعلام الألمانية بحكم إتقانه للغات العبرية والإسبانية والانجليزية والفرنسية…
وتفيد روايات متطابقة أن الهلالي كان على اتصال بالمقاومين المغاربة ضد الاستعمار، بل إنه كان له دور كبير في مقاومة الاستعمار الفرنسي والإسباني للمملكة، إلى درجة أنه حكم عليه من طرف قضاء الدولتين المستعمرتين لدوره في مقاومة المستعمر وفتح بيته للمقاومين لعقد اجتماعاتهم التنسيقية.
وعندما سافر الهلالي إلى السعودية في خمسينات القرن الماضي تزوج هناك وخلف ابنتين، عملتا بعد استكمال دراستهما في مدارس البنات السعودية، قبل أن يسافر إلى العراق حيث تزوج في البصرة وخلف ولدين.
ويحكي الدكتور محمد بن سعد الشويعر “في أيام حرب الخليج الأولى اتصل ابن تقي الدين الهلالي بالشيخ ابن باز من مخيم اللاجئين برفح، فاهتم به وطلب من المسؤولين حضوره مع أولاده إلى الرياض، وهيأ لهم بيتا بما يلزمه، حتى انحلت الغمة وكان كبير السن لحيته وشعره أبيضان، وأكرمه ابن باز حتى عاد مع أسرته إلى العراق”.
وكان الهلالي فخورا بتلامذته في الدول الإسلامية، خاصة في الهند، إذ كان يحكي كلما جالس عالما من الهند عن تلامذته في الجامعات الهندية، وكان بينهم مسعود عالم الندوي مؤلف كتاب “الضياء”، وعلي أبو الحسن الندوي وناظم الندوي، مدير جامعة “بهاون بول” بباكستان.
وظل الشيخ تقي الدين الهلالي طيلة حياته يشبه الشهادة العلمية بالنسبة إلى العالم بجواز السفر بالنسبة إلى المسافر. وقال في أحد مؤلفاته “قد تكون معروفا بالفضل والخلق الكريم والبعد عن ما يشينك، لكنك مع ذلك لا تستطيع أن تسافر بدون جواز سفر، إن الأمر كذلك بالنسبة إلى العالم في الشرق العربي والإسلامي، فالعلم وحده لا يكفي، لا بد من شهادة علمية من جامعة أوربية ولا بد من جواز مرور”.
ويقول الدكتور سعد الشويعر “إنه بثمانين دينارا فقط قرر تقي الدين الهلالي المغامرة والسفر إلى جنيف في سويسرا حيث مكث شهرا كاملا في ضيافة الراحل شكيب أرسلان وكان ذلك سنة 1936، وكان الطالب المغربي ينوي السفر إلى بريطانيا لإتمام دراسته هناك، وكان الذي شجعه على ذلك أنه كان قد تعلم اللغة الانجليزية أثناء مقامه في الهند، لكن الإقامة والدراسة في بريطانيا كانت تتطلب نفقات باهظة لم يكن الهلالي يتوفر على شيء منها، وأخيرا كتب إلى الأمير عادل أرسلان وكان هذا الأخير مقيما إذاك في بريطانيا وكتب له يسأله: كم يكلف في بريطانيا القوت الذي يدفع الموت؟”.
12- توفي في منزله بالبيضاء وحضر جنازته كبار العلماء المغاربة والعرب
27 يوليو 2011
توفي الشيخ تقي الدين الهلالي يوم الاثنين 22 يونيو سنة 1987 في بيته الصغير بالعاصمة الاقتصادية، وذلك عن عمر ناهز 97 سنة، ودفن في إحدى مقابر المدينة، وحضر جنازته كبار الفقهاء المغاربة والمشايخ العرب.
وجاء في تغطية خاصة ل(مجلة الدعوة إلى الحق)، حسب ما نشره موقع “الشيخ العلامة محمد تقي الدين الهلالي” على شبكة الأنترنيت، أن الراحل “توضأ وصلى ركعتين وقرئت عليه سورة ياسين ثم طلب من القارئ الإعادة من قوله تعالى: [أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة] فلما وصل إلى قوله تعالى [وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم] فرفع الشيخ أصبعه إلى السماء وفاضت روحه رحمه الله تعالى.
وقال العلامة حماد الأنصاري عن الشيخ الهلالي “كان في اللغة العربية إماما، وكان على مذهب ظاهري، وهو شيخي استفدت منه كثيرا، وكان سلفي العقيدة، لو قرأت كتابه في التوحيد لعلمت أنه لا يعرف التوحيد الذي في القرآن مثله… وقد مضت علي الآن خمس وأربعون سنة ولم أر مثله…”.
والمثير أن الشيخ عبد الحميد بن باديس مدحه سنة 1938، أي قبل موت الهلالي بإحدى وخمسين سنة، وقال فيه “والأستاذ العلامة محمد تقي الدين الهلالي، صاحب الفصول الممتعة، والبحوث الجليلة في صحيفـة (الفتح)، من أفاضلنا الذين أجمع على الاعتراف بفضلهم الشرق والغرب، والعرب والعجم، والمسلمون وغير المسلمين، فهو في الحجاز نار على علم شهرة وفضلا، وفي الهند تبوأ منصة التدريس في أرقى جامعاتها، وفي العراق معروف بدأبه على خدمة هذه الأمة وحرصه على خيرها، وفي ألمانيا موضع الحرمة من أركان جامعة بون التي يتولى التدريس فيها، فالأستاذ الهلالي رجل علمي واسع النظر واقف على أحوال الشرق والغرب، لذلك كان ما يقرره في بحوثه من حقائق يأتي ناضجا مفيدا ممتعا…”.
وبحكم علمه والشمائل والخلال التي كان يتحلى بها إلى أن وافته المنية، فقد تحول إلى مرجع ديني، يعتمد على مؤلفاته العديدة في البحوث والدراسات العليا في الجامعات، كما أن ترجماته لتفسيرات القرآن إلى اللغة الإنجليزية أضحت معتمدة في أعرق الجامعات ومراكز الدراسات في الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا وآسيا.
وسبق لعلماء في المملكة العربية السعودية أن نظموا لقاءات وندوات حول سيرة الشيخ تقي الدين الهلالي ومؤلفاته التي تجاوزت 50 مؤلفا، إضافة إلى ترجمات لصحيح البخاري وكتب تفسير القرآن الكريم إلى اللغتين الإنجليزية والألمانية.
وما تزال صور الشيخ الهلالي محفوظة في إذاعة برلين، كما أن مجموعة من علماء المسلمين كتبوا عنه وبينهم الشيخ السعودي عبد العزيز ابن باز.
13- سفير مغربي يتحدث عنه وعن حكاية تدريسه بالمعهد الحر بتطوان
27 يوليو 2011
بعد حوالي شهرين من وفاة الشيخ تقي الدين الهلالي، نشر أحد طلبته مقالا في جريدة العلم، وذلك بتاريخ 8 شتنبر سنة 1987، اختار له عنوان “في رفقة الدكتور تقي الدين الهلالي”.
ولم يكن كاتب المقال سوى الدبلوماسي المغربي محمد بن عودة، الذي كان حينها مسؤولا في القسم القانوني بوزارة الخارجية المغربية.
ومن بين ما جاء في المقال “فقد هذا الوطن والأمة الإسلامية عالما كبيرا من العلماء الأخيار وداعية لا يشق له غبار دافع عن الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وكان خير نصير للشريعة الحنيفية السمحاء كما نزل بها كتاب الله العزيز وفسرتها سنة نبيه الكريم…”.
وأضاف بن عودة في مقاله “لفقيدنا العزيز جولات ومدافعات مع كثير من العلماء شرقا وغربا للدفاع عن الحنيفية السمحاء، ضم رحمه الله بعضها في كتابه (الدعوة إلى الله من أقطار مختلفة)، وفي (الهدية الهادية…)، فليراجعها من أراد معرفة طريقته في الدعوة إلى الله”.
واقتصر السفير المغربي السابق في فنزويلا الذي درس على يدي الشيخ الهلالي بين سنتي 1942 و1945، ولازمه أثناء إقامته في مدينة غرناطة بإسبانيا طيلة أربعة أشهر التي انتقل خلالها الطالب المغربي للدراسة هناك.
ويقول السفير محمد بن عودة في مقاله “كانت الحرب العالمية الثانية على أشدها سنة 1942 وكان المحور في أوج انتصاراته لما شاع بتطوان خبر وصول الأستاذ الجليل الذي يحمل درجة الدكتوراه، ولم تكن تلك الدرجة العلمية متوفرة لدى الأساتذة المغاربة في ذلك الحين بمدينة تطوان، وكنا نشعر بالفخر لكون أستاذ مغربي يحملها ويتقن عدة لغات منها اللغة الألمانية، وكان للألمان مكان مرموق بشمال المغرب لما لهم من علاقات ودية مع الإسبان ولأنهم أعداء للفرنسيين والإنجليز الذين كانوا يحكمون العالم العربي والإسلامي في ذلك الحين، وأن الدكتوراه حصل عليها من جامعة برلين”.
ويقول السفير محمد بن عودة “كان فرح الذي يتابعون دراستهم في ثانوية (المعهد الحر) عظيما عندما علموا أن هذا الأستاذ الجليل سيكون من بين أساتذتهم وأنه سيدرس اللغة والأدب بالمعهد، وهكذا أسعدنا الله بالدراسة على عالم جليل القدر ثاقب الفكر حاضر البديهة فتمكننا من اللغة العربية وآدابها مجددا لما درس من أمجادها كما كان من الدعاة إلى اتباع ما جاء به كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من غير تحريف أو تأويل”.
14- وصيته إلى أهله في العراق والأمير شكيب أرسلان وعبد الخالق الطريس
29 يوليو 2011
وفق ما جاء في رواية الدبلوماسي المغربي محمد بن عودة، فإن زيارة الدكتور تقي الدين الهلالي لمدينة تطوان، كانت هدفها تسليم رسالة من سماحة مفتي فلسطين المرحوم الحاج أمين الحسين إلى رائد الحركة الوطنية بالشمال الراحل عبد الخالق الطريس.
وأكد السفير محمد بن عودة أن سبب إقامة تقي الدين الهلالي في تطوان هي أنه كان يذيع من إذاعة برلين برنامجا يشارك فيه نخبة من الوطنيين العرب أمثال الحاج أمين الحسيني والكيلاني والأمير شكيب أرسلان، وكان يخصصه للدفاع عن حقوق الدول العربية والإسلامية المستعمرة من طرف الفرنسيين والإنجليز، ولذلك اغتنم المستعمر وجوده في تطوان لمنعه من مغادرة المغرب والعودة إلى برلين فكان ذلك هو سبب إقامته في هذه المدينة.
وحسب رواية السفير نفسه، فإن تقي الدين أكد لتلامذته أنه تعلم اللغة الإنجليزية عندما كان مدرسا للغة العربية في مدرسة (علي كر) بالهند، مؤكدا أنه حكى لطلبته أن الأستاذ الذي كان يسهر على امتحانه في جامعة برلين تركه وحده وخرج لمشاهدة استعراض عسكري للجيش الألماني، وسأله الدكتور عما إذا كان الألماني لا يرى حرجا في أن يترك تلميذا يمتحن صحبة كتب كثيرة يمكنه النقل منها، فكان جواب الأستاذ الألماني، أن ذلك يتركه لضميره وأن لا ضير على ألمانيا في أن يغش طالب أجنبي نفسه…
وحسب السفير ذاته، فإن تقي الدين رحمه الله كان مولعا بإدخال أصوات الآلات والحيوانات في شعره للدعابة، فمن ذلك أن ديكا له هرب من قفصه ودخل بستانا جوار منزله، فأرسل من جرى وراء الديك لإلقاء القبض عليه فلم يفلح، وحكى لطلبته ذلك في اليوم الموالي، فقال بعضهم أنا لهذه المهمة، واستعمل لذلك حيلة فريدة للقبض على الديك، إذ أتى بدجاجة وضعها على مرأى من الديك، غير أن الدجاجة أبت أن تصيح لتجلب نظر الديك حتى يأتي إليها، فما كان من زميلنا سوى أن بدأ يحاكي صوت الدجاجة فلما سمع الديك ذلك أتى مهرولا نحو الدجاجة فألقى عليه القبض، وأراد الدكتور أن يعطي زميلنا مكافأة على ذلك خمس بسيطات إسبانية غير أن صاحبنا أبى أن يأخذها وأراد أبياتا من الشعر مكافأة، وكان له ذلك.
وكان رحمة الله عليه، حسب السفير بن عودة، من المعجبين بذي الوزارتين وذي القبرين لسان الدين ابن الخطيب، ومن شدة إعجابه أصدر بتطوان مجلة تحت اسم (لسان الدين)، كان ينشر فيها المقالات المطولة والأبحاث.
وحكى السفير بن عودة أنه في غرناطة مرض الهلالي بالحمى النافض فلم يكن هناك بجانبه أحد غيره ليناوله الدواء ويسهر عليه في مرضه. ويقول في هذا السياق “لقد مكث بالفراش عشرة أيام، وفي إحدى صحواته أثناء مرضه طلب أن أحضر ثلاث ورقيات وأكتب في إحداهما اسم فرعون والثانية هامان والثالثة قارون وكلمات أخرى نسيتها، فلما فعلت ذلك قال لي أشعل فيها النار لأنني رأيت في بعض الكتب أن الدخان المتصاعد من الحرائق الثلاث تشفي من الحمى، وزاد قائلا إذا كان ذلك صحيحا استرحنا من الحمى وإذا كان كذبا استرحنا من الخرافة…”
ويضيف السفير بن عودة “في بعض صحواته أثناء ذلك المرض قلت له أرجو منك يا دكتور أن تملي علي بعد شفائك إن شاء الله ترجمة لحياتك حتى أكتبها فقال لا بل أمليها عليك الآن إذ لست أدري هل هناك متسع من العمر لذلك، وقد كتبت نحو ستين ورقة، وذلك في ثلاثة أيام شفي بعدها واشتغلنا في كتابة الرسائل والرد على ما وصل إليه منها من مختلف الأقطار والأمصار ولم أعد لكتابة شيء بعد ذلك من المذكرات، وأذكر أننا وصلنا في تجواله عبر العالم إلى مدينة تونس وعمره 13 عاما وقد حفظ القرآن الكريم، ولما اشتد عليه المرض أمرني أن أكتب وصيته التي كان يمليها علي بتمعن كبير، وقال رحمة الله عليه إذا وصل أجلي فاكتب بذلك إلى ثلاثة لأن موتي لا يهم أحدا سواهم: أهلي بالعراق والأمير شكيب أرسلان بجنيف والزعيم عبد الخالق الطريس بتطوان…”.
إعداد: رضوان حفياني