انتقل إلى رحمة الله يوم 21 يونيه الماضي بمدينة الدار البيضاء عالم سلفي كبير وداعية إسلامي قل نظيره في هذا الزمان، وأعني به المرحوم بكرم الله وجميل عفوه أستاذي ومعلمي الدكتور محمد تقي الدين الهلالي.
وهكذا فقد الوطن والأمة الإسلامية عالما كبيرا من العلماء الأخيار وداعية لا يشق له غبار دافع عن الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وكان خير نصير للشريعة الحنيفية السمحاء كما نزل بها كتاب الله العزيز وكما فسرتها سنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، ضاربا عرض الحائط بكل ما ألصقه بها أصحاب الأهواء عبر الأزمان والعصور من خرافات وبدع ما أنزل الله بها من سلطان.
ولفقيدنا العزيز جولات ومساجلات ومدافعات مع كثير من العلماء شرقا وغربا للدفاع عن الحنيفية السمحاء ضمن رحمه الله بعضها في كتابه “الدعوة إلى الله في أقطار مختلفة” وفي “الهدية الهادية” الخ، فليراجعها هناك من أراد معرفة طريقته من الدعوة إلى الله.
وسأقتصر في هذه المقالة على ما أحطت به علما من أخباره بحكم دراستي عليه ما بين سنتي 1942-1945 وملازمتي له أثناء إقامته بغرناطة (إسبانيا) طيلة أربعة أشهر والتي كنت قد انتقلت للدراسة بها سنة 1945.
كانت الحرب العالمية الثانية على أشدها سنة 1942 وكان المحور في أوج انتصاراته لما شاع بتطوان خبر وصول أستاذ جليل يحمل لقب “الدكتوراه”.
لم تكن تلك الدرجة العلمية متوفرة لدى الأساتذة المغاربة في ذلك الحين بمدينة تطوان وكنا نشعر بالفخر لكون أستاذ مغربي يحملها، ويتقن عدة لغات منها اللغة الألمانية، وكان للألمان مكان مرموق بشمال المغرب لما لهم من علاقات ودية مع الإسبان ولكونهم أعداء للفرنسيين والإنجليز الذين كانوا يحكمون العالم العربي والإسلامي في ذلك الحين. وأن الدكتوراه حصل عليها من جامعة برلين.
وكان فرح الذين يتابعون دراستهم الثانوية “بالمعهد الحر” عظيما عندما علموا أن هذا الأستاذ الجليل سيكون من بين أساتذتهم وأنه سيدرس اللغة والأدب العربي بالمعهد.
وهكذا أسعدنا الله بالدراسة على يد عالم جليل القدر ثاقب الفكر حاضر البديهة فتمكننا من اللغة العربية وآدابها مجددا لما درس من أمجادها، كما كان من الدعاة إلى اتباع ما جاء به كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من غير تحريف أو تأويل.
وكان السبب في انتقاله إلى تطوان هو نقل رسائل من سماحة مفتي فلسطين المرحوم الحاج أمين الحسيني إلى رائد الحركة الوطنية من شمال المغرب أستاذنا الجليل عبد الخالق الطريس رحمة الله عليه. أما سبب إقامته بتطوان فذلك لأن الدكتور كان يذيع من راديو برلين صحبة نخبة من الوطنيين العرب أمثال الحاج أمين الحسيني والكيلاني والأمير شكيب أرسلان رحم الله الجميع خطبا وأحاديث خصصت كلها للدفاع عن حقوق الدول العربية والإسلامية المستعمرة من طرف الفرنسيين والإنجليز، ولذلك اغتنم الانجليز وجود الدكتور بتطوان فقاموا بمساعي دبلوماسية مع الحكومة الإسبانية لكي تمنعه من مغادرة المغرب والعودة إلى برلين، فكان ذلك هو سبب إقامته بتطوان.
وقد حكى لنا رحمه الله في فترات متعددة وباقتضاب عن حياته العلمية، فعلمنا أنه كان يجيد اللغة الانجليزية التي تعلمها لما كان مدرسا للغة العربية بجامعة علي كر بالهند وأنه حصل على درجة الدكتوراه في الآداب من جامعة برلين. وكان امتحانه لتلك الغاية يوم عودة القوات الألمانية الظافرة من باريس واستعراضها في برلين احتفالا بذلك الحدث التاريخي. وقد حكى لنا أن الاستاذ الذي كان يسهر على امتحانه تركه وحده وخرج لمشاهدة الاستعراض وسأله الدكتور عما إذا كان الألماني لا يرى حرجا في أن يترك تلميذا يمتحن صحبة كتب كثيرة يمكن أن ينقل منها، فكان جواب الألماني أن ذلك يتركه لضميره وأن لا ضير على ألمانيا في أن يغش طالب أجنبي نفسه…
وبمجرد وصوله وإقامته بتطوان شرع في الدعوة إلى الله ومحاربة البدع فنشر في جريدة “الحياة” سلسلة من المقالات تحت عنوان “كيف خرجت من الطريقة التيجانية” فأقام بذلك الدنيا وأقعدها وذلك لكون جل علماء تطوان وفقهائها ووزراء الحكومة الخليفية ووجهاء البلد ينتمون إلى طرق صوفية وزوايا، فبدأت معركة ضارية بينه وبينهم استعمل فيها الفقهاء فتاويهم للتنديد به وبما يعلمه لطلبته وينشره بين الناس واستعمل هو للدفاع عن نفسه ملكته الشعرية فهاجهم هجوا مقذعا وقاصما، ونشر بعض تلك القصائد “الدعوة إلى الله الخ…”.
وكانت له رحمه الله ملكة شعرية مسعفة فكان ينظم الأبيات في اللحظ والتو ويضمنها كل ما استعصى علينا فهمه أو حفظه من قواعد اللغة العربية. فمن ذلك قوله على سبيل المثال في الفعل المجرد والمزيد بحرف أو حرفين الخ:
نصرت بضرب الفتح فافرح بحسنه
تفتحت الأزهار واخضل نورها
ورقة وأمن ثم قاتل وبشر
ثواني ابتسام البرق يا صاح
فخبرني… الخ
كما كان ينظم كثيرا من شعر الدعابة والمرح والفكاهة ولا بأس من إيراد بعض الأمثلة من ذلك حسبما حفظته منه في حينه:
فمن ذلك أن أحد الإخوان بتطوان حكى له أن امرأة قروية (جبلية) رأت ولدا لها صغير السن يلعب بمزمار (الغيطة) فقالت له: “مصاب تخرج ليا غير طالب أما غياط ما أنا طامعة فيك، ومعنى ذلك: أرجو أن تصير طالبا حافظا للقرآن لا طمع لي في أن تصبح عازفا على المزمار (غياط)، وطلب منه أن ينظم قصيدة في ذلك المعنى، فما كان من استاذنا المرحوم إلا أن نظم قصيدة في الحين، قال:
جبلية قالت لطفل عندها
متعلم للزمر والقرآن
ابني حسبي أن تخرج قارئا
فالزمر صعب ليس في حسبان
فإذا قرأت نلت خبز مقابر
وإذا زمرت نلت كل أماني
فتصبح للشيخ المرسي حاديا
لركابه في زمرة الإخوان
وتكون في الأعراس مطرب حفلها
وتكون زينة موكب السلطان
إذا رأتني زمرة قالوا أفسحوا
أم المعلم صاحب الألحان
فيلطم الصوت الجميل مطربا
طهطا طاطاي يا متعة الآذان
هنالك أشعر بالفخار على النسا
والناس أعينهم إلي تراني
أم الطويلب كيف تبلغ رتبتي
شتان بين مكانها ومكاني
رزقي منوط بالسرور ورزقها
دائما في ساحة الأحزان
في البيت الأخير إشارة إلى أن بعض الطلبة من حفظة كتاب الله العزيز يتكسبون بالقراءة على الموتى ولذلك فإن رزقهم دائما في ساحة الأحزان خلافا “للغياط” الذي لا يمارس عمله سوى في الأفراح والمسرات.
وكان رحمه الله مولعا بإدخال أصوات الآلات والحيوانات في شعره للدعابة. فمن ذلك أن ديكا له هرب من قفصه ودخل بستانا جوار منزله فأرسل من جرى وراء الديك لإلقاء القبض عليه فلم يفلح، وحكى لنا ذلك في اليوم التالي، فقال بعض إخواننا أنا لهذه المهمة، واستعمل لذلك حيلة فريدة للقبض على الديك، إذ أتى بدجاجة وضعها على مرأى من الديك غير أن الدجاجة أبت أن تصيح لتجلب نظر الديك حتى يأتي إليها، فما كان من زميلها أن بدأ يحاكي صوت الدجاجة، فما سمع الديك ذلك أتى مهرولا نحو الدجاجة فألقى عليه القبض. وأراد الدكتور أن يعطي زميلنا مكافأة على ذلك خمس بسيطات إسبانيا، غير أن صاحبا أبى أن يأخذها وأراد أبياتا من الشعر مكافأة على لذلك، فقال الدكتور في قصيدة نسيت جلها:
وصرت تنطق إذ أبت دجاجته
محاكيا صوتها كاكاكاكاكا كيكي
ألا قل لمن ضل في صيد الدجاج ولم
يذر ختلا قولا غير مأفوك
أفكار “بناتي” في ذا الأمر قد ظفرت
بمسلك كان قبل اليوم غير مسلوك
وكان رحمة الله عليه معجبا بذي الوزارتين وذي القبرين لسان الدين ابن الخطيب، ومن شدة إعجابه أصدر بتطوان مجلة تحت إسم “لسان الدين” كان ينشر فيها المقالات الطوال والأبحاث القيمة، فمن ذلك نشره لمخطوط بمكتبة “الإسكوريال” لم يكن قد نشر من قبل من تأليف لسان الدين ابن الخطيب هو “مقدمة السائل عن المرض الهائل” أو “عمل من طب لم حب” وهي كراسة ألفها في الطاعون الذي ذهب بثلثي سكان الأرض في القرن الرابع عشر الميلادي (؟). وكان الدكتور يقول لنا في ذلك الحين أن لسان الدين ابن الخطيب يتكلم عن المرض ويصف التفاعلات في جسم المريض كما لو كان مجهرا يرى به الكرات الدموية البيضاء وهي تدافع ميكروبات المرض فإن غلبت الأولى شفي المريض وإن غلبت الثانية مرض الإنسان. وإن لسان الدين بدأ كتابه بأول شيء يفعل في الوقت الحاضر عند ظهور المرض إلا وهو الحجر الصحي، إذ يبدأ كتابة بقوله : “قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها، وإذا كنتم فيها فلا تخرجوا منها” أو كما قال.
وفي سنة 1946 سافر إلى مدينة غرناطة بالأندلس لهوائها الناشف وذلك عندما اشتد عليه مرض الربو وكنت قد التحقت بتلك المدينة للدراسة في سنة 1945، فكان فرحي بذلك لا يوازى، إذ كنت وجماعة من طلبة نتبارى في خدمته والأخذ بيده بعدما ضعف بصره لدرجة كانت تستحيل عليه معها الكتابة والقراءة، ولما كنا نستفيده من علمه الغزير.
وأقام بغرناطة أربعة أشهر فكان كل زملائي الطلبة المغاربة المقيمين “بدار المغرب” يزورنه بانتظام ويحكون له ما يلاقونه من تعصب الإسبان فكان يعطينا الأجوبة الشافية للرد عليهم ويشرح لنا الاختلاف والاختلاق الموجود في الإنجيل الذي هو اليوم بيدهم، فكان يأتي بالحجج الدالة على ذلك وكيف أن المكتوبة بالإغريقية يخالف نفس الموضوع المكتوب باللاتينية وذلك كله بكلام إغريقي وآخر لاتيني.
أما التوراة فكان يأتي بالحجج الدامغة على تزييف اليهود للتوراة ويقرأ علينا النصوص بالعبرية التي كان يجيدها قراءة وكتابة ويقارنها بما هو موجود بالسريانية التي كان يعرفها كذلك…
وقد لازمته طيلة مقامه بغرناطة فكنت أقضي كل أوقات فراغي معه لكتابة رسائله والرد على ما يصله منها لا سيما وكما أسلفت فإن بصره كان قد أصبح في حكم العدم، فكنت أكتب له رسالة كل أسبوع يمليها علي إلى الأمير شكيب أرسلان بجنيف، وكذلك لبعض خواصه بتطوان والعراق وأقرأ عليه ردهم واحتفظت برسائل الأمير شكيب أرسلان رحمة الله عليه الموجهة للدكتور الذي أعطاني إياها غير أنها ضاعت مني للأسف الشديد.
وفي غرناطة مرض بالحمى النافض فلم يكن هناك بجانبه أحد غيري ليناوله الدواء ويسهر عليه في مرضه. وقد مكث بالفراش عشرة أيام كانت الحمى تنتابه بين الفينة والأخرى بدرجة عالية من الحرارة يغيب عن الوعي في جلها.
وفي إحدى صحواته أثناء مرضه طلب مني أن أحضر ثلاث وريقات وأكتب في إحداها اسم فرعون والثانية هامان والثالثة قارون وكلمات أخرى نسيتها الآن. فلما فعلت ذلك قال لي أشعل فيها النار لأنني رأيت في بعض الكتب أن الدخان المتصاعد من الحرائق الثلاث تشفي من الحمى، وزاد قائلا فإن كان ذلك صحيحا استرحنا من الحمى وإن كان كذبا استرحنا من الخرافة…
وفي بعض صحواته أثناء ذلك المرض قلت له، أرجو منك يا دكتور أن تملي علي بعد شفائك إن شاء الله من مرضك ترجمة لحياتك حتى أكتبها، فقال لا بل أمليها عليك الآن إذ لست أدري هل هناك متسع من العمر لذلك. وقد كتبت نحو الستين ورقة وذلك في ثلاثة أيام شفي بعدها واشتغلنا بكتابة الرسائل والرد على ما وصل إليه منها في مختلف الأقطار والأمصار ولم أعد لكتابة شيء بعد ذلك من المذكرات. وأذكر أننا وصلنا في تجواله عبر العالم إلى مدينة تونس وعمره 13 سنة وقد حفظ القرآن الكريم. وقد ضاعت مني الكراستان كذلك للأسف الشديد.
ولما اشتد عليه المرض أمرني أن أكتب وصيته التي كان يمليها علي بتمعن كبير لا أذكر منها سوى أنه يشهد لله وحده بالربوبية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأنه يؤمن بالله وبرسله وبكتبه وأن يسير الناس في جنازته صامتين وأن لا يبنى على قبره وأن لا مال له عند أحد كما أنه ليس له مال لأحد.
وقال رحمة الله عليه إذا وصل أجلي فاكتب بذلك إلى ثلاثة لأن موتي لا يهم أحدا سواهم: أهلي بالعراق والأمير شكيب أرسلان بجنيف والزعيم عبد الخالق الطريس بتطوان رحم الله الجميع رحمة واسعة وأسكن الله فقيد العروبة والإسلام دار الأمان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
محمد بن عودة
الرباط غشت 1987
وزارة الخارجية – القسم القانوني
جريدة (العلم) : السنة 41 العدد 13553 ، 14 محرم 1408 هـ – 9 شتنبر 1987م