قرر المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين في اجتماعه يوم 4 أكتوبر 1951 منح لقب “الرئيس الشرفي” لهذه الجمعية لبعض العلماء الأجانب الذين يشتركون معها في الفكر والمنهج والهدف، وهم: محمد بهجت البيطار (سوريا)، محمد تقي الدين الهلالي (العراق)، محمد عبد اللطيف دراز (مصر)، محمد أمين الحسيني (فلسطين)، محمد بن العربي العلوي (المغرب)، عبد القادر المغربي (سوريا)، عبد العزيز جعيط (تونس)، مسعود الندوي (باكستان)، أحمد بن محمد التيجاني (المغرب)، محمد نصيف (الحجاز). ووكل المجلس إلى رئيسه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي تنفيذ هذا القرار بمراسلة هؤلاء العلماء لإبلاغهم به.
وتمثل هذه الخطوة إستراتيجية جديدة لتوسيع نشاطها خارج البلاد وكسب منابر جديدة للتعريف بأعمالها، واستقطاب شخصيات علمية مشهورة لمناصرة دعوتها، وفك الحصار الذي فرضته عليها سلطة الاحتلال الفرنسية.
وسأحاول بحول الله في سلسلة من المقالات التعريف بهؤلاء الرؤساء الشرفيين، والكشف عن اهتماماتهم بالحركة الإصلاحية الجزائرية بشكل عام، وصلتهم بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين بشكل خاص. وسأخصص هذا المقال للشيخ محمد تقي الدين الهلالي رحمه الله.
في مسيرة الحياة:
ولد الشيخ محمد تقي الدين الهلالي في محرم 1311 هـ الموافق لـ جويلية 1893 م بقرية الفرخ، في نواحي تافيلات، وهي تقع بجنوب المغرب.
درس القرآن على والده وحفظه وهو ابن اثنتي عشر سنة ثم جوّده على الشيخ المقرئ أحمد بن صالح ثم لازم الشيخ محمد سيدي بن حبيب الله التندغي الشنقيطي، فبدأ بحفظ مختصر خليل وقرأ عليه علوم اللغة العربية والفقه المالكي إلى أن أصبح الشيخ ينيبه عنه في غيابه. وبعد وفاة شيخه، توجه لطلب العلم على علماء وَجْدَة وفاس إلى أن حصل على شهادة من جامع القرويين.
وفي عام 1922 سافر إلى مصر لمواصلة دراسته بجامع الأزهر. واتصل بالشيخ محمد رشيد رضا ودأب على حضور مجالسه العلمية. وانتقل بعد ذلك إلى الهند فمكث فيها خمسة عشر شهرا درس خلالها على عدد من علمائها وعلى رأسهم المحدث المشهور الشيخ عبد الرحمان المباركفوري صاحب كتاب “تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي”.
ورحل إلى البصرة في العراق حيث اتصل بالشيخ محمد أمين الشنقيطي الذي أحبه وزوجه بنته. فاستقر في العراق فترة طويلة مدرسا للعربية والعلوم الشرعية.
وانتقل إلى السعودية ونزل ضيفا على الملك الجديد عبد العزيز بن سعود، واشتغل مدرسا في المسجد النبوي ثم أستاذا لعلوم الدين في المعهد السعودي رفقة العالمين الشيخين محمد عبد الرزاق ومحمد بهجة البيطار.
وسافر بعد ذلك إلى الهند حيث درس الأدب العربي في دار العلوم بندوة العلماء، فمكث فيها ثلاث سنوات، وتخرج عليه عدد كبير من العلماء والأدباء، وكان من أشهر تلامذته الشيخ أبو الحسن الندوي صاحب كتاب “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين”، والشيخ مسعود عالم الندوي رئيس تحرير المجلة الإسلامية: “الضياء”.
وكان الشيخ الهلالي كثير الأسفار وهو يشبهه في ذلك ابن بلده الرحالة ابن بطوطة. فقد زار الشيخ الهلالي معظم الدول الإسلامية والأوروبية ووصل حتى الأراضي القطبية في شمال النرويج وأقام فيها في صيف عام 1936. وشاهد فيه الشمس تشرق مدة أربعة وعشرين ساعة مدة ثلاثة أشهر من أول شهر ماي إلى آخر جويلية. وقد تحدث بالتفصيل عن هذه الرحلة العجيبة في مقال عنوانه: “الشمس في نصف الليل”.
ولم تمنعه هذه الأسفار الكثيرة والنشاطات المختلفة من التأليف والتحقيق والكتابة في العديد من المجلات العربية والإسلامية منها: الفتح، والإخوان المسلمون (مصر)، البحوث الإسلامية (السعودية)، لسان الدين، الحرية، دعوة الحق، والإيمان (المغرب)، السنة، الصراط، البصائر، والشهاب (الجزائر)… الخ.
وفي مجال التأليف، أذكر هنا كتبه التالية: الزَّند الواري والبدْر الساري في شرح صحيح البخاري، الإلهام والإنعام في تفسير سورة الأنعام، الإسفار عن الحق في مسألة السفور والحجاب، القاضي العدل في حكم البناء على القبور، الأنوار المتبعة في تحقيق سنَّة الجمعة، فضل الكبير المتعالي ديوان شعر محمد تقي الدين الهلالي، قبسة من أنوار الوحي، الصبح السافر في حكم صلاة المسافر، العِلم المأثور والعَلَم المشهور واللواء المنشور في بدع القبور، آل البيت ما لهم وما عليهم، البراهين الإنجيليَّة على أن عيسى داخل في العبودية، الهدية الهادية إلى الطائفة التيجانية، مختصر هدي الخليل في العقائد وعبادة الجليل…الخ.
وفي ميدان التحقيق، نشر حاشية على كتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب، حاشية على كتاب كشف الشبهات لمحمد بن عبد الوهاب، حواشي شتَّى على إنجيل متى. كما اشتغل بالترجمة فعرب كتاب الباحث الانجليزي جوزيف ماك كيب المعنون بـ “مدنية المسلمين في إسبانيا”، وترجم كتاب “الجماهر في الجواهر” إلى الألمانية.
وكان حجة في اللغة العربية ومرجعية فيها فيستأنس بآرائه أهل العلم والأدب وعلى رأسهم أمير البيان العربي شكيب أرسلان وإمام الدعوة الشيخ محمد رشيد رضا.
وعلى الرغم من شهرته العلمية، رغب الشيخ الهلالي في مواصلة الدراسة فسافر إلى بريطانيا ثم ألمانيا فنال شهادة في اللغة الألمانية ثم تحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة برلين بعد أن قدم رسالته التي تمثلت في ترجمة كتاب “الجماهر في الجواهر” لأبي الريحان البيروني والتعليق عليه.
وعمل خلال هذه الفترة التي تزامنت مع الحرب العالمية الثانية أستاذا للأدب العربي في جامعة برلين وخبيرا في الإذاعة الألمانية التي كانت تبث حصصا دعائية تجاه العالم العربي بشكل عام، وشمال إفريقيا بشكل خاص.
وعاد بعد الحرب العالمية الثانية إلى المغرب لكنه سرعان ما انتقل إلى العراق في عام 1947 واشتغل بالدعوة في الموصل وبغداد، ثم التحق بعد فترة للتدريس في كلية دار المعلمين ببغداد وكليَّة التربية.
مكانته عند رجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين:
زار الشيخ محمد تقي الدين الهلالي الجزائر عدة مرات قبل رحلته إلى المشرق العربي. وبقي متابعا لنشاط الحركة الإصلاحية في الجزائر خاصة بعد تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ويكتب في جرائدها المختلفة: السنة، الصراط، البصائر، والشهاب لصاحبها الشيخ عبد الحميد بن باديس.
كما كان العلماء الجزائريون يتابعون نشاطاته في المشرق العربي وقراءة مقالاته في مجلة الفتح (القاهرة) لصاحبها محب الدين الخطيب ونقل العديد منها في الشهاب والسنة.
وكان ابن باديس يعتبر الشيخ الهلالي من أكبر سفراء المغرب العربي في العالم الإسلامي إلى جانب الشيوخ: طاهر الجزائري، محمد الخضر حسين، إبراهيم أطفيش، والأستاذ سليمان الباروني. وحرص ابن باديس على نقل المقال الذي كتبه محب الدين الخطيب عن هؤلاء الأعلام لقراء مجلة الشهاب، مرفقا بصورهم.
وقدمه الشيخ الطيب العقبي لقراء البصائر بما يليق بمقامه العالي وشهرته الواسعة: “العلامة السلفي المصلح العامل الناشط الأستاذ تفي الدين الهلالي المغربي أصلا، المشرقي سكنا ومهادا. وهو من لا تخفى عن رجال الإصلاح مكانته العلمية وأعماله الإصلاحية وقد قرؤوا له من المقالات في جرائدهم السابقة ما لا نحسب أنهم نسوه أو ذهلوا عنه”.
نظرته إلى جمعية العلماء:
الشيخ محمد تقي الدين الهلالي كان على صلة دائمة بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين رغم بعده عن الجزائر التي لم يزرها منذ العشرينيات. وقد أحزنه آنذاك حال اللغة العربية فيها حتى ظن أنها لن تحي بعد ذلك في هذه البلاد. غير أنه اكتشف بعد سنوات من خلال صحف جمعية العلماء وأصداء دعوتها في العالم العربي كيف استيقظت الجزائر من غفوتها، وتأسست فيها “نهضة أدبية تضاهي البلدان الإسلامية الراقية في صحافتها وفي إصلاحها وفي ثقافتها وتزيد عليها بوجود طائفة من العلماء العاملين المهذبين الحكماء يجاهدون حق الجهاد لإنقاذ شعبهم من هاوية شقاء الفوضى في الدين والأخلاق تفتخر بهم العصور”.
وكان أبرز هؤلاء العلماء المساهمين في هذه النهضة في نظره هما: الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ الطيب العقبي. فالأول كان هو مؤسس هذه الجمعية الإصلاحية وسانده في ذلك عدد من العلماء وتلامذته الذين تكوّنوا في مدرسة جريدتي المنتقد والشهاب. أما الشيخ الطيب العقبي فكان “مددا لهم ورداء وكثروا به وانتشرت الهداية وانجلت غياهب العماية وأقبل الناس على الهدي النبوي الخالص وجدد الله بهؤلاء الأئمة لأهل الجزائر دينهم ودنياهم”.
وأرسل الشيخ الهلالي مقالا طويلا إلى جريدة الصراط وهو يعمل آنذاك أستاذا في ندوة العلماء بالهند. فنشرته الصراط في ثلاث حلقات بعنوان: “جمعية العلماء المسلمين وأوشاب المفسدين” حلل فيه السياسة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر، وانتقد أذنابها وكشف عن عملائها، وأبرز نضال جمعية العلماء وما تعانيه في سبيل نشر دعوتها وتحقيق رسالتها الإصلاحية. كما ساند الشيخ محمد السعيد الزاهري العضو الإداري لهذه الجمعية الذي تعرض للضرب والأذى بسبب انتقاداته لبعض أتباع الطرق الصوفية الذين يمارسون الشعوذة ويكرسون التخلف والتبعية للاستعمار.
فخاطب الشيخ الزاهري قائلا: “هنيئا لك أيها الأخ العزيز ما سال من دمك في سبيل الله وما سال من قلمك في سبيل الله وما سال من لسانك في سبيل الله. إن هذه الشجة التي زين بها رأسك العظيم لوسام الشرف خالد يشهد لك في هذه الدار بجهادك في سبيل الله وحمل الأذى فيه وفي الآخرة بما قمت من أداء الأمانة”.
ومما لفت انتباهه حرية التعبير الزائدة التي تتميّز بها جريدة البصائر عن غيرها من الصحف الإسلامية. فقد فتحت هذه الجريدة صفحاتها لسجال بين مجموعة من العلماء الجزائريين وهم: ابن باديس وتلامذته باعزيز بن عمر وحمزة بوكوشة وبلقاسم بن أرواق.
لقد عوتب الشيخ ابن باديس لأنه وقّع مقاله “ما جمعته يد الرحمان لا تفرقه يد الشيطان” بعبد الحميد الصنهاجي، فقرأها أحدهم على أنها دعوة للعصيبة بالإضافة إلى أنه ينشر مقالات لبعض تلامذته بإمضاءات مريبة كالفتى الزواوي والفتى القبائلي والفتى التلمساني…الخ.
لقد اعتبر الشيخ الهلالي هذا السجال على صفحات البصائر لمدة أسابيع لا يدخل ضمن حرية النشر، وأنه ليس من اللائق مجادلة الإمام المصلح ابن باديس الغيور على اللسان العربي والانتماء للعروبة. ودعا إلى عدم نشر مقالات مماثلة. فهو يرى أن الوحدة هي أولى من الحرية. وقد استجابت البصائر لدعوته وتوقفت عن نشرها. لكنها لم تتوقف عن فتح باب النقاش ونشر آراء متعارضة حول قضايا دينية وأدبية؛ فالجريدة كانت حريصة على الوحدة والحرية معا.
من العراق إلى المغرب:
في سنة 1959، استولى عبد الكريم قاسم على الحكم فخرج الشيخ الهلالي من العراق بعد أن رأى فيه ما لا يرضيه، واتجه إلى بلده حيث عين أستاذًا في كلية الآداب في جامعة محمد الخامس، وبقي فيها إلى سنة 1968م، ثم دعاه رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن باز ليعمل أستاذا منتدبا في الجامعة الإسلامية، فانتقل إليها للتدريس.
ترك الدكتور الهلالي الجامعة الإسلامية، ورجع إلى المغرب ليتفرغ إلى الدعوة إلى الله والعمل الفكري إلى أن توفاه الله في الدار البيضاء في 25 شوال سنة 1407هـ/ 22 جوان 1987م. رحمه الله رحمة واسعة ورضي عنه.
لم يكن اختياره كرئيس شرفي اعتباطا، وإنما كان العلماء الجزائريون يدركون مكانته العالية، وقدرته على حمل صوت جمعية العلماء في كل أرجاء العالم بقلمه ولسانه وشبكة علاقاته في أوساط علماء الإسلام والمفكرين الأوروبيين المسلمين والمستشرقين.
د. مولود عويمر أستاذ التعليم بجامعة الجزائر2
عضو جمعية العلماء الجزائريين، مكلف بالتراث والبحث العلمي.
موقع الأصالة (الجزائر)