“محمد تقي الدين الهلالي”، إسم لم يحظَ بعد بشرف تصدر أبواب مدراسنا التعليمية وأزقة وشوارع المملكة إلا نزرا يسيرا، شأنه شأن العشرات ممن بصموا بقوة في تاريخ المغرب المعاصر، من الذين كان لهم الفضل بعد الله في صناعة حريته وواقع ما بعد الاستقلال. إنه ابن مدينة تافيلالت وأحد أعمدة العلم الشرعي في العالم الاسلامي الذي جاب الأرض طولا وعرضا، مخلفا وراءه تركة علمية وصيتا ذائعا.
احتار الكثير ممن ترجموا للهلالي في أي الخانة يصنفونه، فبالنظر إلى جهوده العلمية وتصدره للتعليم في الهند ودول شرق آسيا والخليج والمغرب فهو عالم شرعي نحرير. وبالنظر لعمله الصحفي وكفاحه من أجل حرية المغرب ومقالاته التي قضت مضجع الاستعمارين الفرنسي والاسباني فهو صحافي وثوري، وبالنظر إلى اتقانه لسبع لغات من بينها لغات شرق آسيوية صعبة (الهندية والأفغانية)، واعتماده كمرجعية في البيان والفصاحة اللغوية فهو لغوي وأديب، أما باعتبار عدد أسفاره ورحلاته التي بلغت حد القطب المتجمد فالرجل خليفة ابن طنجة “ابن بطوطة” بدون منازع.
يعتبر الكثير من الدعاة والباحثين الاسلاميين محمد الهلالي الملقب ب”تقي الدين” الأب الروحي للدعوة السلفية بالمغرب، باعتباره أول من رفع قريحته وجاهر بالدعوة إليها والتنظير لها وإظهار مكامن الخطأ والنقص في بقية المذاهب السائدة بالعالم الاسلامي عامة ودول شمال أفريقيا خاصة. فبعد أن نشأ الهلالي نشأة صوفية قحة على الطريقة التيجانية، إلى أن اتضح له بطلان هذه الطريقة والكثير من معتقداتها التي تصل حد تأليه وتقديس أوليائها وإنزالهم منزلة فوق منزلة الأنبياء وادعاء الاستئثار بفضائل من خصائص النبوة، قرر الشاب الهلالي إحداث انقلاب فكري ودعوي على جميع الطرق الصوفية وكشف ما يجري بداخلها.
فبعد مرحلة الاستنارة، قرر الهلالي المغادرة إلى مصر لاستكمال تصحيح المسار وطلب العلم بعيدا عن إلزامات المذهبية القائمة بالمغرب، وبعيدا عن أعين أحباب الأمس التي بدأت تترصده وتتحين له الفرص للتنكيل به ومعاقبته والتضييق عليه جزاء كشفه عن واقع استغلالها للدين والتصوف للاستغناء على حساب جيوب المريدين. حيث التقى بأبرز علماء الحديث في مصر وكانت له هناك دروس علم وتعلّم ومواقف دعوية أشار إليها في كتابه “الدعوة إلى الله”.
بعد سنة كاملة في مصر، توجه الهلالي إلى الهند التي كانت حاضرة العلم آنذاك ومحج طلابه، قصد دراسة الحديث وعلومه على أشهر شراح الحديث آنذاك عبد الرحمن المباركفوري صاحب “تحفة الأحوذي”. ليعود بعدها إلى المنطقة العربية قاصدا العراق، ليمكث بها مدة ثلاث سنوات باحثا وداعيا ومستكشفا أحوال المسلمين، ليعود مجددا إلى مصر عابرا ثم إلى السعودية ليحل ضيفا على ملك السعودية آنذاك عبد العزيز لمدة ثلاثة أشهر للمكانة والسمعة التي كان يتمتع في العالم الاسلامي.
فترة السعودية كانت فترة تدريس وتعليم أكثر منها فترة تعلم، إلى درجة أن قال عنه المفتي الأكبر للسعودية الراحل عبد العزيز بن باز: “المغربي الهلالي هو شيخنا في التوحيد”، شهادة تنحو عكس التوجه العام والسائد اليوم، والقاضي بكون السلفيين أو “الوهابيين” كما يسميهم الاعلام مجرد أتباع للفكر السعودي الديني المتشدد.
بعد خروجه من السعودية وتوجهه إلى الهند تلبية لطلب علماء من الهند، حظي الهلالي بمنزلة كبيرة في الأوساط العلمية الهندية، إذ سرعان ما ترقى في تراتبية المسؤولية العلمية بكلية ندوة العلماء بمدينة “لكنهو”، ليتم تعيينه رئيسا للأدب العربي بالكلية، بعد مناظرة طريفة بينه وبين أحد أشهر أدباء ولغويي الهند آنذاك، أثبت خلالها الهلالي مدى تعمقه وتمكنه من لغة الضاد، ما أهله لتولي دفة التعليم لمدة ثلاث سنوات، مدة كانت كافية للهلالي من جهة أخرى ليتقن خلالها اللغة الانجليزية كتابة ونطقا إضافة للغة الهندية.
طموح الشاب الهلالي لم يتوقف عند حد العلوم الشرعية وتفرعاتها، فقد قرر خوض غمار تجربة جديدة بألمانيا قصد الحصول على شهادة دكتوراه كان في أمس الحاجة إليها لاستكمال مشواره العلمي بعد زيارة خاطفة إلى سويسرا. ففي ظرف وجيز جدا تم تعيين الشاب المغربي الوافد محاضرا في جامعة برلين وطالبا في نفس الوقت بها بعد أن قضى سنة كاملة في جامعة بون حصل خلالها على شهادة في اللغة الألمانية في سنة واحدة! ، وهو ما أثار استغراب العديد من أقرانه وزملائه الذين أعجبوا ببراعته في التلقي والإلقاء، حيث تمكن من تعلم اللغة الألمانية والتحرير بها ومنازعة أهلها وكشف الكثير من الأخطاء الشائعة بها، والحصول على شهادة دكتوراه في ثلاث سنوات فقط.
تصادف وجود الهلالي في ألمانيا مع الحكم النازي بقيادة أدولف هتلر، مناسبة كانت سانحة وقل أن تتكرر لشاب مغربي ترك وراءه وطنا مغتصبا من عدو من أعداء النازية، فتوجه الهلالي إلى هتلر بطلب تأسيس إذاعة عربية تابعة لإذاعة برلين، لتكون موجهة إلى العرب والمسلمين في غمار حرب الاستقطاب التي استهدف من خلالها هتلر حشد الدعم العربي والاسلامي ضد البريطانيين والفرنسيين مقابل مساعدة الدول العربية المحتلة على استقلالها بمجرد وصول جيوش هتلر للشرق الأوروبي.
ما لا يعرفه كثيرون أن إذاعة برلين العربية النازية التي كانت تبث في ألمانيا وفرنسا والمغرب واليونان والتي فرضت بريطانيا عقوبات سجنية لمن يستمع إليها، كان وراء فكرتها وإعداد موادها الشاب المغربي محمد الهلالي، والتي تولى إلقاء موادها وإذاعتها الاعلامي العراقي الشهير يونس بحري.
إذاعة كان للهلالي في تدبير موادها الحرية التامة، فبين تكذيب الدعايات والأطروحات البريطانية حول الفوهرر ومساعديه ونفي تهمة الهولوكست، كان الهلالي يوجه ضربات إعلامية شديدة للاحتلال الفرنسي بالمغرب، من خلال شحن المواطنين وتشجيعهم على المقاومة لدحر الاحتلال، وخلق قنوات تواصل مع الوطنيين والمقاومين.
في سنة 1947 عاد الهلالي إلى المغرب وبالتحديد إلى مدينة تطوان لملاقاة بعض رموز المقاومة الذين كان يشاركهم في برنامجه الاذاعي من برلين. إلا أن الاحتلال الفرنسي منعه من مغادرة المدينة والعودة إلى ألمانيا.
بين عودته إلى المغرب للمرة الثانية وعودته الأولى أسفار ومواقف نقشت اسم الهلالي بقوة في الذاكرة المغربية التي – فيما يبدو – تظل قاصرة عن احتواء نماذج من أبناء هذا الوطن، ممن لا زالت سيرهم وتجاربهم تدرس في أعتى جامعات العالم، ممن جمعوا بين واجبهم تجاه وطنهم سياسيا ودينيا وثقافيا.
وفي الختام يحلو التذكير بأن الهلالي هو صاحب أشهر وأحسن ترجمة للقرآن باللغة الإنجليزية والتي يتم تداولها اليوم بنسخ تعد بالملايين في شتى بقاع المعمور.
رشيد أكشار
نشر في هبة بريس يوم 26 – 02 – 2013