باقي أجزاء السلسلة: [1] [3] [4]
قال الآخرون: أوامر الرب تبارك وتعالى نوعان، نوع مطلق غير مؤقت، فهذا يفعل في كل وقت. ونوع مؤقت بوقت محدود وهو نوعان: أحدهما ما وقته بقدر فعله كالصيام. والثاني ما وقته أوسع من فعله كالصلاة، وهذا القسم فعله في وقته شرط في كونه عبادة مأمورا بها فإنه إنما أمر به على هذه الصفة فلا تكون عبادة على غيره. قالوا: فما أمر الله به في الوقت فتركه لمأمور حتى فات وقته لم يكن فعله بعد الوقت شرعا، وإن أمكن حسا بل لا يمكن حسا أيضا، فإن إتيانه بعد الوقت أمر غير المشروع. قالوا: ولهذا لا يمكن فعل الجمعة بعد خروج وقتها ولا الوقوف بعرفة بعد وقته.
قالوا: ولا مشروع إلا ما شرعه الله ورسوله وهو سبحانه ما شرع فعل الصلاة والصيام الحج إلا في أوقات مختصة به، فإذا فاتت تلك الأوقات لم تكن مشروعة، ولم يشرع الله سبحانه قبل الجمعة يوم السبت ولا الوقوف بعرفة في اليوم العاشر ولا الحج في غير أشهره.
وأما الصلوات الخمس فقد جاءت بالنص والإجماع أن المعذور بالنوم والنسيان وغلبة العقل عليها إذا زال عذره وكذلك صوم رمضان شرع الله سبحانه قضاءه بعذر المرض والسفر والحيض، وكذلك شرع رسوله الجمع بين الصلاتين المشتركتين في الوقت للمعذور بسفر أو مرض أو شغل يبيح الجمع، فهذه يجوز تأخيرها عن وقتها المختص إلى وقت الأخرى للمعذور، ولا يجوز لغيره بالاتفاق، بل هو من الكبائر العظام كما قال عمر بن الخطاب: الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر، ولكن.. (غير واضح في الأصل) إلى وقت الثانية في هذه الصورة، لأنها تفعل في هذا الوقت في الجملة. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة خلف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقيل له صلى الله عليه وسلم: ألا نقاتلهم؟ قال: لا، بل صلوا. وهم كانوا يؤخرون الظهر خاصة إلى وقت العصر فأمر بالصلاة خلفهم وتكون نافلة للمصلي، وأمره أن يصلي الصلاة في وقتها. ونهى عن قتالهم. قالوا: وأما من أخر صلاة النهار فصلاها بالليل أو صلاة الليل فصلاها بالنهار، فهذا الذي فعله غير الذي أمر به وغير ما شرعه الله ورسوله لا يكون صحيحا ولا مقبولا.
قالوا: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ترك صلاة العصر حبط عمله، وقال: الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله، فلو كان يمكنه استدراكها بالليل لم يحبط عمله، ولم يكن موتورا من أعماله بمنزلة الموتور من أهله وماله.
قالوا : وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، فكذا من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ولو كان فعلها بعد المغرب وطلوع الشمس صحيحا مطلقا، لكان مدركا سواء أدرك ركعة أو أقل من ركعة أو لم يدرك منها شيئا فإنه صلى الله عليه وسلم لم يرد أن من أدرك ركعة صحت صلاته بلا إثم إذ لا خلاف بين الأمة أنه لا يحل له تأخيرها إلى أن يضيق وقتها عن كمال فعلها، وإنما أراد بالإدراك الصحة والإجزاء، وعندكم تصح وتجزى ولو أدرك منها قدر تكبيرة أو يدرك منها شيئا فلا.. (غير واضح في الأصل)
والله سبحانه، قد جعل لكل صلاة وقتا محدود الأول والآخر ولم يأذن في فعلها قبل دخول وقتها ولا بعد خروج وقتها. والمعقول قبل الوقت وبعده أمر غير مشروع، فلو كان الوقت ليس شرطا في صحتها لكان لا فرق في الصحة بين فعلها قبل الوقت وبعده، لأن كلا الصلاتين صلاها في غير وقتها، فكيف قبلت من هذا المفرط بالتفويت ولم تقبل من المفرط بالتعجيل.
قالوا: والصلاة في الوقت واجبة على كل حال حتى أنه يترك جميع الواجبات والشروط لأجل الوقت، فإذا عجز عن الوضوء والاستقبال أو طهارة الثوب والبدن وستر العورة أو قراءة الفاتحة أو القيام في الوقت وأمكنه أن يصلي بعد الوقت بهذه الأمور فصلاته في الوقت بدونها هي التي شرعها الله وأوجبها، ولم يكن له أن يصلي بعد الوقت مع کمال هذه الشروط الواجبات فعلم أن الوقت مقدم عند الله ورسوله على جميع الواجبات، فإذا لم يكن إلا أحد الأمرين واجب أن يصلي في الوقت بدون هذه الشروط الواجبات، ولو كان له سبيل إلى استدراك الصلاة بعد خروج وقتها لكان صلاته بعد الوقت مع كمال الشروط خيرا من صلاته في الوقت بدونها وأحب إلى الله، وهذا باطل بالنص والإجماع.
قالوا : وأيضا فقد توعد الله سبحانه من فوت الصلاة عن وقتها بوعيد التارك لها قال تعالى: (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) وقد فسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السهو عنها بأنه تأخيرها عن وقتها كما ثبت ذلك عن سعد بن أبی وقاص، وفيه حدیث مرفوع. وقال تعالى (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) وقد فسر الصحابة والتابعون إضاعتها بتفويت وقتها، والتحقيق أن إضاعتها تتناول ترکها وترك وقتها وترك واجباتها وأركانها، وأيضا فإن مؤخرها عن وقتها عمدا متعد لحدود الله كمقدمها عن وقتها، فما بالها تقبل مع تعدي هذا الحد ولا تقبل مع تعدي الحد الآخر.
جريدة الميثاق: عدد 15 رجب 1382 هـ / 12 نونبر 1962م. ص: 3.