بقلم العلامة الفهامة، المجاهد الكبير الدكتور في جامعة برلين
الشيخ تقي الدين الهلالي*
لا أريد أن أعرف القارئ الكريم بالأمير شكيب أرسلان، لأنه لا يوجد قارئ عربي لا يعرف الأمير، ولا يجهله من الأميين أيضا، إلا القليل. ولا أريد أن أكتب مقالا لبيان جهاد الأمير الأرسلاني كله، فهو بحر زخار لا ساحل له، وإن أمكن إحصاؤه فهو يحتاج إلى مجلدات. على أن حفظة اليمين السفرة(1) الكرام قد أحصوه ولم يغادروا منه شاذة ولا فادة، وسيجده أمامه عند الله ويجزيه عليه خير الجزاء يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا ألقاب ولا حظوة عند المستعمرين إلا من أتى الله بقلب سليم. وإنما أريد أن أتطفل على مائدة هذا السيد النبيل، فأكتب كلمة تقدم بين يدي نجواه، وهي صفحة جديدة باهرة من صفحات جهاده. وهذه الصفحة الخالدة التي سجلت في السماء قبل أن تسجل في الأرض، تتميز بمزية وتختص بخاصية عظيمة من بين صفحات جهاده المجيدة؛ ذلك بأنها وقعت في وقت عصيب خشعت فيه الأصوات، وكممت الأفواه، وعنت الوجوه للصوص الاستعمار، وتكسر اليراع، وقبع كل كاتب وخطيب وكل سياسي ورئيس بالغة مرتبته ما بلغت، كلهم قبعوا في عقر ديارهم واختبأوا في كسور بيوتهم. أعني بذلك من بقي في وجهه حياء منهم، ومن بقي عنده شيء من الإيمان والمروءة، وربا بنفسه إذ ينزل بها إلى دركة كلاب الأعداء النابحة أممها وأهاليها لنيل عظم يلقيه إليها الأعداء. فسحقا لأصحاب السعير.
تلك الصفحة هي المقالات الخالدات خلود الجبال الشامخات. لقد كان الأمير شكيب، أدام الله بقاءه وبارك فيه أمة، قانتا لله حنيفا، ولم يك من المشركين، شاكرا نعمه، اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم كما قال الله في إبراهيم، وكما قال أبو الدرداء في معاذ بن جبل. وهذا وصف صحيح للأمير في كل وقت من أوقات عمره المبارك، ولكنه في هاتين السنتين الأخيرتين، سنة 1359 وسنة 1360، صار أظهر من الشمس في رابعة النهار ولم يبقَ فيه لمكابر مجال، لأن ميدان الدعوی قبل هذه المحنة كان واسعا. ولما جاء زمن الامتحان وابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا، وقال المنافقون والذين في قلوبهم مرض: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا. هناك ثبت الأمير وكان أما(2) مارقا ندا للرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ولم يفت في أعضادهم وعيد المجرمين المستعمرين المخربين للبلدان العربية والإسلامية، قاتلهم الله أنى يؤفكون وإلى متى يأفكون. لم توهنه الغربة وقسوة الزمان وخذلان القوم والخلان. ولم تلن قناته لعواء ذئاب الاستعمار وتهديدهم. ذلك أنه باع نفسه من الله بيعا لا إقالة فيه، فنال بذلك أعلى الدرجات عند الله والذين آمنوا.
وقد انتدب لهذه المقالات الأديب المجاهد السيد عبد اللطيف الخشن، نزيل أميركا الجنوبية وصاحب جريدة “العلم العربي” المنصور. فجمع شملها وعزم على طبعها مجتمعة في مجلدين لتبقى شهادة خالدة على انتصار الأمير النابغة للحق في هذا الوقت العصيب الذي قل فيه ناصره وكثر خاذله، بل كاد المتكلمون والكاتبون الكاذبون من العرب والمسلمين، بزعمهم، يجمعون على الباطل لولا أن لله عند كل مكيدة كید بها الحق أنصارا يردون كيد الكائدين، ويدحضون تحريف المبطلين، ويفتحون أعين الجاهلين. وكما قال محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله”.
ولئن خص الله الأمير الجليل بفضيلة إمامة المجاهدين والصدع بالحق كله خالصا عريانا في هذه المحنة، فقد وفق الله المجاهد السيد عبد اللطيف الخشن للمساهمة في هذه المزية العظمى بجمعه هذه الدرر النفيسة وحفظها من الأفول والتلف، وتخليدها ليعم نفعها الأجيال الآتية فتبقى حجة لله على العالمين. فأهل الحق في هذا الزمان وفي الآتي يشكرون لهذا السيد الجليل هذه المأثرة، والله يجزيه عليها أحسن الجزاء.
ومن خصائص هذه المقالات التي هي كالسيوف الصوارم، أنها لا تخص قوما دون قوم، ولا بلدا دون بلد، ولا عدوا دون عدو؛ فهي تدافع عن حقوق العرب والمسلمين في الشرق والغرب وتُغَبِّر في وجوه المعتدين أيا كانوا. ولولا هذه المقالات وما تبعها من جنودها، لتمكن أعداء الحق من قلب الحقائق وطمسها بما بذلوه من الأموال والقوی التي تهد الجبال، ولا سيما وهم دول عظيمة لهم ممالك لا تغرب الشمس عنها، ولهم ملايين الألسنة والأقلام ومئات الإذاعات وآلاف الصحف والمجلات، ولهم الصولة والدولة والهيبة. فوقف في وجوههم رجل واحد غريب وحيد لا يملك إلا إيمانا متينا، ولسانا طليقا، وقلبا ذكيا، وأنفا حميا، فأحبط أعمالهم ونقض أقوالهم ومحا ضلالاتهم. غير أن انقطاع البريد والسدود التي ضربها أعداء الإنسانية والعرب والإسلام -أخزاهم الله وأضل أعمالهم- حالت دون انتشار تلك المقالات ووصولها إلى كل من هو محتاج إليها، ولو اقتصر على نشرها في صحف الجهاد العربية الصادرة في أميركا، وهي ممنوعة من الوصول إلى البلاد العربية المحاصرة لقلة النفع بها. فكان لذلك جمعها ونشرها واجبا وضربة لازب. ولا سيما وقد قدر أعداء العرب والإسلام أن يجدوا في العرب الساكنين في أميركا بعض الأوباش الذين رضوا بالخيانة وقبلوا أكل السحت والرشوة من المجرمين، وصنعوا لهم جرائد عربية اللغة تحارب الحق والعرب والإسلام. وأخذ الأعداء يذيعون ما تنشر لهم وينشرونها في البلدان العربية والإسلامية ليحاربوا بها صوت الحق ويعمموا الجهل والظلام. فقد سمعت في إذاعة لندن باللغة العربية أسماء جرائد عربية منها ما يسمى الأحرار، وهذا من باب تسمية الليل نهارا والأسود أبيض والظلام نورا؛ فكيف يكون حرا من يعين المغتصب على استعباد بلاده وقومه، وتقتيل الأنفس، وتخريب الديار، واسترقاق الأمة كلها وبيع أرض العرب من الأرجاس اليهود عباد العجل وشر الخلائق. ولكن ذلك لا يضير الحق شيئا؛ فأما الزبد، فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. فبيان أمير السيف قد دحض أباطيلهم، بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، وقد وضح الحق وصار كيد المستعمرين وأشياعهم في تضليل.
ومن مزايا هذه المقالات التي لا يشاركها فيها مشارك، أنها كشفت عن مظالم لم تزل مخفاة، مضروب عليها حجاب عظيم، ألا وهي مظالم أهل المغرب المعذبين، فقد أزاح الأمير الجليل، بارك الله عليه، النقاب عن إجرام فرنسة(3) وآثامها في شمال أفريقية التي تكاد السماوات يتفطرن منها وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا. فنشكر الأمير على كشف تلك المظالم والوقوف في وجه فرنسة وهي في أشد جبروتها، إن كان شكره على ذلك واجبا على كل محق وعلى كل مسلم وعربي، فإنه على أهل المغرب أوجب. ولذلك لا نرتاب في أن هذين المجلدين النفيسين يتلهف إلى اقتنائهما كل مسلم وكل عربي، ولا سيما أهل المغرب. إن أهل المغرب الذين لا يزالون يعانون ظلم الضعيف يشكرون للأمير، وللناشر، هذه الهمة العالية، ويتلقون هذا العمل المبرور بغاية الارتياح. وإني بهذه المناسبة، ألتمس من إخواننا المجاهدين في أميركا أن لا يغفلوا عن إخوانهم في المغرب، ومرادي بالمغرب من برقة إلى الحدود الفاصلة بين شنقيط وسنغال، وأن يكشفوا ما يمكنهم من مظالم إخوانهم التي لا تزال كما كانت أو أشد، ولا يظنون أن هزيمة فرنسة قد كانت خاتمة لعذاب إخوانهم في المغرب، فإن سفك الدماء ونهب الأموال والتعذيب والاستعباد لا يزال ضاربا أطنابه في المغرب. وقد فصل الأمير، أيده الله، القول في اعتداء فرنسة الخئون على أرواح المغاربة وسوقها في هذه الحرب المشؤومة عليها قبل غيرها ألف ألف وثلاثمئة ألف، قتل منهم من قتل وأسر منهم من أسر. وكانت نفقات الحرب، أو قسم عظيم منها، نُهْبا، نهبته فرنسة من المغرب العربي المسلم. أما في هذا الزمان، وقد هزمت فرنسة وقطعت حبالها وشالت نعامتها، فإنها فرضت على المغرب المسكين أن يدفع قيمة ذلك. معلوم أن جرمانية(4) فرضت على فرنسة، من جملة شروط الهدنة، تأدية نفقات الجنود الجرمانيين المرابطين في بلادها جزاء وفاقا على بعض ما عاملتها به في الحرب الماضية. هكذا فعلت جرمانية بفرنسة، فنظرت فرنسة يمينا وشمالا فلم تر إلا المغاربة، فاضطرتهم إلى أن يدفعوا لها ما فرضته عليها جرمانية أو جله. فقد صرح الراديو الفرنسي أن المغرب الأقصى دفع وحده عشرين مليونا سماها نوكيس الطاغية المستبد في المغرب، أراحهم الله منه، إعانة الشتاء لفرنسة المنهوكة. مع أن أهل المغرب منهوكون أكثر من فرنسة، فقد شاركوها في نكبتها وزادوا عليها بنكبات لأنهم مستعبدون، يحكمون بالقهر والجبر ولا يملكون مع قاهرين مالا ولا رجالا. هذا مع أن أهل المغرب أصابتهم سنة مسغبة في عام 1356، فمات منهم مئات الألوف، وخلت نواح بأسرها في الجنوب الشرقي. وكان الفرنسيون واليهود يأكلون من أرزاق المغاربة أكل الأنعام، ويحشرون الجياع من المغاربة في معتقلات حتى يموتوا لئلا ينغص عليهم عيشهم منظرهم الذي تتقطع له الأكباد.
هذه لمحة لما أصاب المغاربة ويصيبهم حتى الآن، ولم يزل الأمير الجليل أبو غالب، أيده الله، يذب عنهم كما يذب عن أهله الشاميين بدون فرق. فأين مثل هذا الرجل الفذ الذي ادخره الله لهذا الزمان الذي هو شر الأزمان على العرب والمسلمين ليكون أمة وحده، وليحق به الحق ويبطل به الباطل ولو كره المجرمون؟!
إن مقالات الأمير البليغات ستكون بلا ریب عمدة الباحثين الذين يريدون أن يعرفوا رأي العرب والمسلمين حقا، وما يجيش في أنفسهم أينما كانوا تحت كل نجم. فإنه، حفظه الله، عبر في مقالاته بما يشعر به كل عربي وكل مسلم؛ حفظه الله من الخيانة والردة وبيع نفسه من الأعداء ودينه وقومه بثمن بخس.
وما أروع ما قاله في إحدى هذه المقالات: “لو لم يبق في الدنيا كلها إلا رجل واحد يقوم بواجب الدفاع عن الدين والوطن ويصدع بالحق، لكن أنا ذلك الرجل”، أو كما قال رعاه الله وأمتع به. فهذه الكلمة التي عبر بها عما تشعر به نفسه العظيمة، جمعت معاني يستغرق شرحها أسفارا، بل أتجرأ وأقول إنها تشير إلى جميع ما ورد في القرآن الكريم والسنة وأشعار العرب ورسائلهم في الحماسة والإباء والشمم والأنفة وحمي الحمى. وواجب على الأمة العربية أن يشعر كل واحد منها بهذا الشعور، وأن يقول بقلبه ولسانه معززا ذلك برهان الأفعال، لم يبق إلا واحد يحارب أعداءنا الذين ثلوا عروشنا وهدموا مجدنا واتخذونا عبيدا وخولا إلا واحدا، لكنت أنا ذلك! وكما قيل في المثل “أنا ونصف ناقتي”. حقا، إن وجود هذا الرجل الشهم الذي تأخر وجوده هو نعمة من الله على هذا الجيل الذي غلب شره على خيره؛ بل هو حجة الله على الناس. وحسب كل مجاهد حر أن يتشرف بالاقتداء به والنسج على منواله. نعم، هو حجة الله على خلقه في زمان غير زمانه وفي جيل غير جيله، ليرى الناس بأعينهم عربيا من العرب الذين ملكوها من خراسان وأذربيجان وجورجان، إلى قسم كبير من أوربة(5) وإلى آخر المعمور من أفريقية، فيبصروا بأعينهم نموذجا يعلمون به كيف كان أسلافهم، غير أنه مع ذلك سباق الغايات في كل كمال وعلم من علوم هذا العصر وكمالاته:
حلف الزمان ليأتين بمثله ** حنثت يمينك يا زمان فَكَفِّر
نسأل الله أن يوفقنا للاقتداء به والاهتداء بهديه، وأن يطيل بقاءه ويمتع به أهل الحق ویكبت به أعداءه المبطلين.
برلين، في غرة صفر عام 1360 هـ
كتبه تقي الدين الهلالي
الدكتور من جامعة برلين
المصدر: كتاب عروة الاتحاد بين أهل الجهاد، تأليف: الأمير شكيب أرسلان – قدم له د. رضوان السيد – إشراف وتحرير د. سوسن النجار نصر
ص: 12 إلى 17
—————————————————-
الهوامش:
* دكتور في جامعة برلين.
(1) السفراء.
(2) بمعنى “حقا”
(3) فرنسا.
(4) المقصود بها ألمانيا، وهي تسمية تعود إلى العرق الجرماني المتواجد في تلك البقعة من أوروبا. (المحقق)
(5) أوروبا.