بقلم العلامة الأستاذ السيد تقي الدين الهلالي المدرس في جامعة بُنْ بألمانيا
هذا الباب واسع جدا، وتفاصيله تستغرق مجلدات، وإنما أريد الكلام فيه على سبيل الإشارة والإجمال.
حكم الإسلام
يعتمد على القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ثم على اجتهاد الخلفاء الراشدين فمن بعدهم ما لم يخالف نصا ولم يخرق إجماعا.
ولا يبيح حكم الإسلام للناس أن يشرعوا ما تهوى أنفسهم وإن كان فيه هلاكهم. نعم الأمور التي تختلف باختلاف الزمان والمكان وقد تركها الشارع لرأي أهل الشورى تحت هداية إمامهم ولاجتهاد أهل العلم ليس فيها حرج ولا جناح يتفاوض فيها أهل الشورى مع إمامهم ويقرون ما هو أصلح للأمة. وفي هذا المعنى قال الله تعالى في وصف عباده المؤمنين ومدحهم “وأمرهم شورى بينهم” وأمر الله نبيه أن يشاور ذوي الرأي من أصحابه بقوله تعالى “وشاورهم في الأمر” فامتثل الرسول صلى الله عليه وسلم أمر ربه فكان يشاور أصحابه ويأخذ بما بان له سداده من آرائهم. ثم جرى على ذلك الخلفاء الراشدون وصالحو الأئمة والملوك بعدهم.
فحكم الإسلام أمر وسط بين الفوضوية والاستبداد وهما طرفا الأمر وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
ومن استبد من ملوك المسلمين واتبع هواه كان مخالفا لهدي القرآن والسنة وسيرة الخلفاء الواجب اتباعها، وكان بذلك عاصيا.
وأما الفوضوية فلا حاجة إلى بيان أنها مخالفة للإسلام، لأن ركنها الأعظم هو نبذ القرآن والسنة ظهريا.
ومعلوم أن الإسلام لا يفرق بين لون ولون، ولا بين جنس وجنس، فمن صلح لأمر من الأمور حتى الإمامة العظمی حق له أن يتولاه ومكن منه وأعين عليه ووجب تسليمه إليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: اسمعوا وأطيعوا وإن ولي عليكم حبشي كأن رأسه زبيبة. وقال عمر رضي الله عنه “لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لجعلتها – أي الخلافة – له” أو كما قال. ومن أراد أن يعد الموالى الذين تولوا الإمارة والملك في الإسلام وأذعنت لهم سادات المسلمين، من عهد النبي صلى الله عليه وسلم حين أَمَّر أسامة بن زيد على جند فيه أبو بكر وعمر إلى هذا الزمان، فقد رام ما يكاد يكون محالا لكثرتهم.
وأما الأمور المالية ففريضة الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام وتحريم الربا وكل ما يفضي إليها من البيوع يضمن سيرها على أحسن الأحوال وأعدلها.
وحدود الإسلام وعقوباته كفيلة بردع كل مجرم وبقلة الجرائم وحفظ النفوس والأموال والأعراض، ولا تساويها في ذلك شريعة سواء أكانت سماوية أم أرضية.
الحكم الشعبي (الناسيونالی)
الحكم الشعبي إذا درسناه نجده أقرب الأحكام إلى حكم الإسلام كأنه مقتبس منه. إلا أنه يحصر الأمة في شعب واحد خاص بتضامن عقلاؤه المخلصون له فيضربون على أيدي الفوضوين ويعملون لإصلاح شعبهم ورفاهيته وعزه وسعادته من جميع النواحي ولنأخذ لك مثلا الشعب الجرماني(1) فإنه كان بشهادة جميع الأجانب الساكنين هنا والذين زاروا جرمانية قبل الحكم الحاضر وزاروها فيه، أنه كان مشرفا على التلف، فمن الوجهة المالية كان فيه سبعة ملايين عاطلين، والسرقة واللصوصية ضاربتين أطنابهما والجوع يفتك بالناس فتكا، والحكومة في اضطراب وفوضى، وأعداء الشعب في الخارج واليهود في الداخل يعيثون فسادا يزيدون النار حطبا. أما الحكم الحاضر الشعبي فإنه عالج كل تلك الأدواء بحكمة مدهشة وشفاها بعد ما أشفى الشعب الجرماني على فناء. اليوم لا يوجد عاطل ولا جائع، والمارك الجرماني الذي ولا قيمة له أصبح الآن يساوي نقود أغني الدول، والإتاوة التي كان الشعب يؤديها عن يد وهو صاغر لحضرات الحلفاء يأخذونها بشره عظيم و يقولون: هل من مزيد؟ وهم يرون الشعب مسغبة وتلف أصبحت من أحاديث العمر، والأغلال التي كانت موضوعة في أعناق الحكومة في أمر التجنيد والسلاح صارت … وأعطى الشعب الحرية نفسه بنفسه ، وصار له الحق أن يعد العدة للنائبات كما يعد المتحالفون عدتهم لابتلاع الأمم وللتآمر وافتراس الضعفاء. وحل الأمن والنظام محل الفوضى الاضطراب وعاد العامل إلى نشاطه، والأمة كلها تتقدم بسرعة عالية في جميع الميادين. ومن الأمور التي اقتبسها هذا الشعب من الإسلام (نظام الله) وهو الزكاة وهي أنواع: منها أن عظماء الأمة وموظفيها يذهبون في التبرع إلى إعانة الضعفاء بخرج شهری، حتى أن منهم مع تبرع بثلث راتبه، ومنها إعانة الشتاء المسماة (بقدر واحدة).
ذلك أن يوم الأحد الأول من كل شهر من شهور الشتاء يقتصر كل جرماني على طعام واحد في غذائه ويدفع قيمة مازاد في مساعدة الفقراء. وقد قدرت الحكومة لذلك مقدارا معينا وقسمت الناس إلى ثلاث طبقات: الأغنياء والمتوسطون والفقراء. فطبقة الفقراء تدفع ما یوازي قرشين صاغا عن كل نفس من صغير أوطني أو نزيل، والطبقة التي فوقها ضعيفها، والطبقة العليا ضعف الوسطى، وعدد سكان جرمانية 70 مليونا، احسب المبلغ في شهر واحد فقط هل تری يبقی مع ذلك محتاج لا تسد حاجته؟ ومنها أن جميع الناس بدون استثناء حتى كبار القواد من العسكر وحتى أساتذة الجامعات فضلا عن طلبها يأخذون من حين لآخر صناديق الإعانة ويدورون في أنحاء المدينة يجمعون التبرعات. ومنها ضرائب كثيرة عامة مخصصة لمساعدة البائسين: الإصلاح الاجتماعي مضاعفة الضريبة الشخصية على كل شخص غير متزوج ومساعدة ذوي العيال بشتى المساعدات. وكل من أراد الزواج تفرضه الحكومة ألف مارك ثم تتقاضاه منه منجما على أقساط في مدة طويلة، فإن ولد له مولود أسقطت عنه خمسه وان ولد له آخر أسقطت عنه خمسأ آخر فإن تتابع الأولاد حي بلغوا خمسة سقط عنه الأداء بالمرة. ودخل في عداد البيوت المشتمل كل منها على خمسة أولاد، وهذه البيوت مكرمة عند الحكومة تعتني بها وتقدم لها مساعدات عظيمة. وهذه الأنواع من الإصلاح المعاشي وغيرها مما لا يتسع المقام لذكره تمنع طغيان المحتكرين والمرابين وتحفظ التعادل بدون قتل ولا تعذيب وإجاعة كما تفعل البلشفية الدموية. فالحكم الشعبي بالحق هو تضامن صالحي الشعب وعملهم لسلامته وسعادته وإقامتهم البراهين العملية في كل حين لجمهور الأمة على ذاك وقيادتهم الشعب إلى ساحل السلامة باختياره، وتجنب الجبر والعنف مع عدم إهمال الانتخاب الذي به يتبين مقدار تقدم الشعب في معرفة صالحه وإعطاء الحرية الكاملة لكل شخص أن يبدي رأيه في الحكم الحاضر دون وجل. وبذلك صار الحكم انتخابيا لانه لم يلبث أن حاز الاغلبية لحسن سيرته.
وبالجملة فغاية ما يتمناه المرء لأمته ولكل أمة ضعيفة أن يقيض الله لها من يسير بها كمثل هذه السيرة.
وكأني بعض الموسوسين يجعل هذا من باب الدعاية فأخبره أنه والله هو الذي أعلمه، لا أثر فيه لدعاية، لأني أشتغل في المعارف بعيدا عن كل سياسة ولا يمنعني توقع وجود الموسوسين من بیان الحقائق التي ينفع علمها القراء.
الحكم الديموقراطي
الحكم الديموقراطي مبني على الانتخاب العام المطلق فالأمة باجمعها لها الحق أن تنتخب من يشرع ومن ينفذ بأي شكل كان: وهذا شيء يظهر في بادىء الرأي جميلا، ولكن إذا تحققت تجد أن كثيرا من الأمة لم يعط من العقل إلا بمقدار ما يعيش به أو أقل من ذلك ولم يخلق لتدبير أمر الأمة وإن في كل أمة كثيرة من الدخلاء الذين لا تؤمن غائلتهم ومن السهل عليهم أن يشتروا (أصوات) الضعفاء البله و يتربعوا على منصة الحكم ويستولوا على خزائن الأموال فيهلكوا الأمة ويوصلوها إلى الحضيض، وفي النظام الديمقراطي تكثر الأحزاب و يشتغل كل منها بالكيد للآخر وقد يفضي بهم التطاحن إلى أن يبيدوا الأمة و يوردوها موارد الهلكة ويشتد نزاعهم عند الانتخاب حتى يدعو بعضهم بعضا إلى المبارزة و يتضاربون بالكراسي في مجلس النواب. وفيه أيضا يكثر الإضراب من العمال وأرباب الحرف فتتعطل الأعمال وتخسر الأمة في كل إضراب يقع من أي طائفة ملايين من الأموال وتقع المعارك بين المضربين و بين الشرط والجنود فتزهق الأنفس وتسفك الدماء و يكون بأس الأمة بينها، فهذه نبذة تشير إلى ما في النظام الديمقراطي من المفاسد. وهو مخالف للإسلام لأن نصب الإمام لا يتأتى معه ولا يمكن الإمام أن يقوم بواجبه في إرشاد الأمة ولما فيه من الفوضى والمفاسد.
الحكم الشيوعي
الحكم الشيوعي كما يدَّعيه أهله هو إبطال الملك الشخصي وجعل أمر الأملاك إلى حكومة ينتخبها الشعب وهي توزع الأعمال والأجور على السواء من دون تمييز.
والحقيقة أن أصحاب هذه الدعوة استحوذوا على جميع الأموال بالسلب والنهب وبكل وسيلة، واستعبدوا الشعب بعد ما سلبوه كل شيء حتى عقيدته ودينه، وصاروا يتصرفون في أمواله وأعراضه ورقابه أسوأ الصرف. فيسوقون الناس إلى العمل والسوط على ظهورهم والبنادق مصوبة إليهم، ويعطونهم من أردأ القوت مالا يسد رمقهم فيموتون جوعا وعريا، ويسكنونهم في مساكن لا تلائمهم، ومن همس بأن شيئا من ذلك لا يلائمه فويل له فما هو إلا أن يلقب بـ (أنتي بولشفيك) يعني ضد الشيوعية ويساق إلى المجزرة. ومن عرف عنه أن يميل إلى أي دين من الأديان فقد أتى حينه وحان هلاكه. و بهذا النظام لا يعمل العامل إلا جزءا ضئيلا مما يعمله لو كان حرا يرجو مكافأة على عمله. وذلك الجزء الذي يعمله تذهب ثمرته إلى الخزانة والخزانة تصرف على الدعاية إلى الشيوعية في جميع الدنيا والناس يموتون جوعا وعريا. فقد جمع هذا النظام جميع المقاصد المتفرقة في غيره من الفوضى والاستبداد بل الاستعباد والعسف الذي لم يوجد له نظير قبل سنة 1917م وهي السنة النحس الي نجم فيها هذا البلاء.
ومن العجب أن كثيرا من الناس أكد لى أن القائم بالنظام الشيوعي هم اليهود، وليس الذين أخبروني بهذا كلهم جرمانيون حتى يمكن اتهامهم، بل كل من له خبرة بالبلاد الروسية، وآخر من أخبرني بذاك رجل انكليزي وأقام لی دلیلا بأن أسماء الموظفين جلها أسماء يهودية، وما ذلك من اليهود ببعيد.
النظام الاستبدادي
النظام الاستبدادي هو أن يستولى رجل بدهائه على أمة فيسخرها في خدمته ويأخذ من أموالها ويسفك من دمائها ما شاء هواه بلا شرع ولا قانون ولا شي “وإذا تولی سعی في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد. وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم، فحسبه جهنم وبئس المهاد”.
وقد تلخص لنا أن الحكم الإسلامي هو أفضل الأحكام وأن أقرب الأحكام إليه الحكم الشعبي وبيَّنا ما في هذا الحكم من النقص وهو كونه يسعى لخير أمة واحدة فقط بخلاف الإسلام فإنه يعمل لسعادة جميع الأمم واجتماعها. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
بن ( المانيا ) في 26 المحرم 1356
تقي الدين الهلالي
مجلة الفتح: العدد 545 (العام 11) – الخميس 6 صفر 1356 هـ
————–
هوامش:
(1) قد وجدت في كتاب (البلدان) لابن الفقيه وهو من أهل القرن الثالث تسمية ألمانية هكذا “جرمانية” ومنه ثم أن العرب كانوا يسمونها بذلك في ذلك الزمان.