زار مدينة لكنو (الهند) الأستاذ الشيخ موسى جار الله مندوب مسلمي روسية في المؤتمر المنعقد بمكة شرفها الله سنة 1344، فبينا أنا منهمك في تعليم الطلبة إذ جاءتني بطاقة من مدير ندوة العلماء الأستاذ الأجل الدكتور السيد عبد العلي يخبرني بأن الأستاذ جارالله عنده واستقدمني للقائه، خففت لذلك فرحا مسرورا بلقاء عالم من العلماء اليقظين الذين يجوبون البراري والبحار لمعرفة علل المسلمين والسعي في دوائهم، صابرين على ما يكابدون في ذلك من مشاق أشقّها على النفس إعراض المسلمين عن أطبائهم، ونفورهم منهم، وعدم شعورهم بالداء العضال الذي نهك جسمهم.
وصلتُ مستوصف الدكتور فوجدت هناك رجلا كهلا أبيض مشرب اللون بحمرة طليق الوجه. فقضينا واجب التحية ثم جلسنا للحديث.. فأول شيء سألته عنه حال المسلمين في بلاد روسية، فأخبرني أنهم على أسوأ حال، وأن الحكومة البلشفية تسومهم سوء العذاب: فمن ذلك أنها استولت على المساجد وسائر الأوقاف ومنعت الناس من الدين حتى لا يستطيع أحد أن يقوم بالشعائر الدينية إلا خفية في بيته. ومن عسفها أن من لم يسجل اسمه في ديوان الاشتراكية البلشفية ويعمل على نشرها محروم من جميع الحقوق حتى الملك: لا يملك عقارا ولا منقولا ولا تسمع له شكوى ولا تظلم ولا تقبله محكمة في مرافعة.
فقلت له: فكيف يعيشون
فقال: إنما يعيشون بالاحتيال
فقلت: وكيف معاملتهم النصارى واليهود فقال: إنهم لا يفرقون بين أهل دین ودین، بل يضطهدون أهل الأديان جميعا إلا أن اليهود سالمون من هذا الاضطهاد ومتمتعون بحقوق لا تتسنى لأحد سواهم، بل الحكومة كلها في أيديهم.
فقلت: وكيف ذلك؟
فقال: هو النفاق والدهاء، فاليهود بلشفية في الظاهر وهم في الباطن لا يفرطون في مثقال ذرة من يهوديتهم. وبهذا المكر الكبَّار نجحوا دون سائر أهل الأديان.
فقلت: أولا يسلك المسلمون هذه السبیل؟
فقال: كلا، إن المسلمين إلى الآن مصرون على التمسك بدينهم ظاهرا وباطنا، صابرون على ما أصابهم.
ثم سألته عن أخبار بلاد الأفغان وحكومتها فأثنى عليها كثيرا.
فقلت له: كيف الشبان هناك والتفرنج؟
فقال: إن شبان الأفغان هم أبعد الناس عن التفرنج.
فقلت: كيف سلموا منه مع أن كثيرا منهم تعلموا في أوربا؟
فقال: إن تعلمهم في أوربا لم يؤثر فيهم شيئا، وقد رأيت الطلبة الأفغانيين في (موسكو) يتعلمون من أساتذة بلشفيين، ولكنهم على غاية الاستقامة والتمسك بالدين.
فسألته عن عدد المسلمين في (موسكو) فقال: أما في المدينة نفسها فليسوا كثيرا، و أما فيما حولها فيبلغ عددهم نحو 40,000.
فسألته عن المسلمين في أذربيجان فقال: حكومة أذربيجان جمهورية من جمهوريات بلاد روسية الكثيرة وهي أغنى الجمهوريات وأخصبها أرضا وأحسنها بلادا ولكن أحكامها وأحكام حكومة موسكو سيان.
ثم أخبرنا الأستاذ أنه زار «ترکستان»، فسألناه عن حال المسلمين هناك، فأثنى عليها وقال: إن حكومة الصين تعاملهم أحسن معاملة، فهم في غاية الحرية في بلادهم، ويصح أن نقول أنهم يحكمون في داخل بلادهم، وأثنى عليهم في التمسك بالدين والاشتغال بالعلم.
وسأله الأستاذ السيد طلحة (M.A) (1) أستاذ اللغة العربية في جامعة لاهور عن مسلمي الصين فأثني عليهم وقال: إن حال “ترکستان” هي حال مسلمي الصين، بل الترك الشرقيون هم مسلمو الصين، ومن اهتدى إلى الإسلام من الصينيين فبإرشادهم.
ثم سأله الأستاذ المذكور عن حال اللغة العربية في بلاد روسية وفي بلاد تركستان أهي مثل بلاد الهند، أم أحسن؟ فقال: إن اللغة العربية في بلاد روسية – على ما أصابهم – أحسن منها في الهند، وأما بلاد ترکستان والصين فالغة العربية هناك تعلم بعناية عظيمة، والعربي إذا تجول في تلك الأقطار يجد من يتفاهم معه أينما سار، بخلاف بلاد الهند فإن العربي قلما يجد من يتفاهم معه من العلماء فضلا عن العامة.
ثم سأله الأستاذ المذكور: بأي لغة تعلم اللغة العربية في بلادكم وفي تركستان، فقال: أما في السنوات الأولى فبالتركية وأما فيما فوقها فإن علوم اللغة العربية تعلم بالعربية نفسها.
وكان الأستاذ جار الله يتكلم بالعربية والفارسية بفصاحة تامة زيادة على اللغة التركية التي هي لسانه الأمي.
وسألته عن اللغة الترك في الصين ولغة الترك في الأناضول أبينهما فرق كبير؟ فقال: بينما اختلاف يسير لا يمنع من التفاهم.
أسئلة محرجة
ثم سأله الأستاذ المذكور عن أحوال حكومة الترك بعدما ذكر أنه زار بلادهم مرارا، وهل صحيح ما نسمع عنهم؟
فأجاب: إن ذلك صحيح ولكن لهم عذر في كل ما عملوه!!!
فقال له وكيف مصطفى كمال باشا من حيث الدين؟ فقال: إن مصطفى كمال رجل عظيم في كل شيء، ما رأت عيني مثله في علمه وعقله ودهائه، ويكفيه مفخرة أنه أنقذ أمته من بين أنياب أمم أوروبا.
فقال السيد طلحة: إنما أسألك عن دينه: أهو مؤمن، أم لا؟ فقال: ما هذا السؤال: هو مؤمن مخلص من أقوى الناس إيمانا!!!
فتعجب الحاضرون، وأخذني أنا المقيم المقعد، ولم أقدر على السكوت مع أني كنت أودّ أن لا يفتح هذا الباب لأنه أحرج الأستاذ جار الله. فقلت: ما هي شريعة الحكومة التركية أهي الشريعة الإسلامية أم غيرها؟ فقال: إن شريعتهم مأخوذة من القانون الفرنسي.
فقلت أنا: الذي سمعت أنهم استبدلوا شريعة الإسلام بقانون سویسرا، وأيهما كان فكلامكم صريح في أنهم ليسوا على شريعة الإسلام.
فحينئذ هاجت في الأستاذ العاطفة الجنسية فقال: إن العرب يكفرون الترك ويقولون أنهم مرتدون والترك يقولون أن العرب هم الذين غدروا بنا وانضموا إلى الأعداء فتركناهم وما اختاروا.
ثم قال: إن العرب متحاملون على الترك يكفرونهم بلا حق، والتكفير أمره عظيم، وهو الذي شتت شمل المسلمين وأنا لا أرضاه. وحمل على الأستاذ العلامة السيد رشيد رضا متع الله المسلمين ببقائه حملة شعواء ونسب إليه الغلو في تكفير الترك. فقلتُ أن الاستاذ السيد رشيد رضا وسائر علماء العرب لا يقولون أن الأمة التركية مرتدة كافرة، ولم يتبدل اعتقادهم في الأمة التركية وأنها لا تزال متمسكة بدينها، وإنما يقولون: أن الحكومة التركية خرجت من الإسلام. ولم يقولوا ذلك إلا بعدما أعلنت خروجها من الإسلام على رءوس الأشهاد.
فقال الأستاذ جار الله: هذا خطأ من علماء العرب، وقد رددت عليهم برسالة ألفتها وناولتها مصطفى كمال باشا بیدی.
فقال أحد الحاضرين: بأي لغة ألفتها؟ فقال: بالعربية ردّا على علماء العرب.
فقلت: يا حضرة الأستاذ، أريد أن أسألك سؤالا واحدا. فقال: سل.
فقلت: ما هو دين حكومة أنقرة؟ فقال: ليس لها دين رسميا.
فقلت: فهل هي خائفة أن تبدي دينها؟ فقال: كلا!
فقلت: ما حكم من قال مختارا غير مضطر من الأفراد فضلا عن الدول: ليس لي دين، أيكون هذا القول ردة منه أم لا، ولاسيما إذا عزّزه بالعمل في الأحكام -حتى الزواج والميراث- بغير دين الإسلام؟ وهل يوجد في أي مذهب من مذاهب المسلمين، من المذاهب الأربعة وغيرها، من يحكم بإسلام من تبرأ من الإسلام قولا وعملا؟
فقال والانقباض باد على وجه: كل ما تقوله صحيح. ولكن لا ينبغي التصريح بالتكفير، بل إذا رأينا رجلا مسلما قد ارتكب أمرا عظيما ينبغي أن نلاطفه حتى يرجع إلى الهدى. وأرجو أن يكون هذا آخر هذا البحث.
فسأله أحد الحاضرين: ماذا يرى الترك في روسية في حكومة ابن سعود؟ فقال: إن ابن سعود رجل سیاسی عاقل، فالترك يحبونه كذلك.
فسأله: أيوجد في بلادكم قباب مبنية على القبور يقصدها الناس لطلب الشفاء وقضاء الحاجات وينذرون لها النذور؟ فقال: لا يوجد هذا في بلادنا، وعلماؤنا مجمعون على تحريمه، وإنما نزور القبور للدعاء لهم والعبرة بحالهم، ولا نطلب منهم شيئا. وكان السائل عن هذا السيد طلحة.
فقلت أنا: فأنتم تعملون بما قاله بعض الأئمة في أهل القبور: ندعو لهم ولا ندعوهم، فقال: نعم، و ما أحسن هذا القول.
وأقام الأستاذ جار الله في لكنو يوما وليلة زار ندوة العلماء وغيرها من المدارس والآثار التاريخية وتوجه إلى كلكته. صاحبته السلامة.
لكنو في 6 ربيع الثاني سنة 1350.
محمد تقي الدين الهلالي
——————-
(1) شهادة انكليزية مشهورة والعادة هنا قاضية بذكر شهادة الرجل مع اسمه.
مجلة الفتح: العدد 267 (العام 6) – 27 ربيع الثاني 1350هـ – ص: 10-12