العنوان: التقدُّم والرّجعية.
المؤلف: العلامة المجدد الدكتور محمد تقي الدين الهلالي رحمه الله (ت1407هـ/الموافق 1987م) -من علماء الدار البيضاء-.
الأجزاء: رسالة لطيفة في (42) صفحة، محتوياتها كالتالي:
توطئة: بيَّن فيها الشيخُ رحمه الله أن كلمتي التقدم والرَّجعية لم تكن تستعملهما العرب بالمعنى الذي يقصده بهما كتابُ العصر الحاضر، فالرَّجعية عند المعاصرين صفة الرَّجعي الذي يرجع في أفكاره وعقائده إلى الزمان الماضي، وهو عندهم زمن الانحطاط والظلم والجهل والاستئثار والإصرار على الخرافات والأوهام التي انقشع الظلام فيها عن بصائر المتقدمين والمتمدنين!! السائرين حثيثا في ركب الحضارة!! الطالبين للحقيقة ولا يمنعهم منها مانع من العقيدة أو عادة يتعصب الرجعيون لها!!
فصلٌ بدايةُ عصر النهضة والتقدم عند الأوروبيين وكيف كانت الحالة قبل ذلك:
وقد نقل الشيخ رحمه الله كلامَ المؤلف الإنكليزي الشهير جوزيف مكيب -وكان عدوّاً للأديان كلها، إلا أن طعنه في الإسلام أقل وأخف من طعنه في النصرانية- في كتابه: (مدنية العرب في الأندلس) وقد ترجمه الشيخ وعلق عليه، وسبب ترجمته للكتاب أن الأساتذة الإسبانيين الذين كانوا يدرسون الطلبة المغاربة في جامعة غرناطة كانوا يفترون على التاريخ، ويزعمون أن المسلمين الفاتحين للأندلس من الشرقيين والمغربيين كانوا سيئي الأخلاق، جهالا عتاة، وكان حُكمهم جائرا قاسيا، فمحوا كلَّ خُلق كريم من الشعب الإسباني، وعلَّموه مساوئ الأخلاق، فكل خلق سيئ مرذول يوجد في الشعب الإسباني هو من آثار الحكام المسلمين!!. فترجم الشيخُ رحمه الله الكتابَ بالعربية ليكون سلاحا بيد الطلبة المغاربة وغيرهم من المسلمين، يواجهون به كل عدو جاحد مكابر.
وممَّا قال (جوزيف مكيب) -وهو كثير ودقيق ومفيد- في وصف انحطاط الأوربيين قبل فتح المسلمين الأندلس وبعده بزمن طويل: “اعلم أن أمهات المدن الأوروبية لم توجد فيها قنوات لصرف المياه القذرة حتى بعد مضي ستمائة سنة من ذلك التاريخ، أي من سنة 756-1356م، فكانت المياه المنتنة النجسة تجري في طول شوارع باريس ولندن، ويُضاف إلى ذلك أنها لم تكن مبلطة أو تجتمع فيتكون منها برك حتى بعدما عملت النهضة في أوروبا عملها قرونا طوالا، أمّا في مدن المور فكانت الشوارع مبلطة منورة، قد سويت فيها مجاري المياه أحسن تسوية في أواسط القرن العاشر.
قال “سكوت”: بعض القنوات التي كانت تحت الشوارع لصرف المياه القذرة في “بُلَنسية”-Valencia– تقدر أن تكتسح سيارة، وأصغر قناة منهن تقدر أن تكتسح حمارا، وكانت الشوارع مجهزة أحسن تجهيز بالشرطة، وهذا النظام الصحي السامي كانت تعضده النظافة العامة التي يراها الأمريكيون في هذه العصور شيئا واجبا، ولكنها في ذلك الزمن كانت في نظر الأوروبيين أعجوبة من أعاجيب الرقي التام، فكان في “قرطبة” وحدها تسعمائة حمَّام عام، وكانت الحمَّامات الخاصة كثيرة في كل مكان، أما في بقية بلاد أوروبا فلم يكن فيها ولا حمَّام واحد، وكان أشراف أوروبا ورؤساء الإقطاع منهمكين في الرذائل إلى حدٍّ يحجم الإنسان عن وصفه، ولم يكن لبس الكتان معروفا في أوروبا حتى أخذت (موضة) -أي طراز- لبس الكتان النظيف من المحمديين، ولم تكن الزرابي أيضاً تصنع هناك، وكان الحشيش يغطي قصور الأمراء ومَصْطبات الخطابة في المدارس، وكان الناس والكلاب ينجسون المحلات إلى حد يعجز عنه الوصف…”.
وبعد كلام كثير في وصف حال أوربا قال الدكتور الهلالي رحمه الله: “ونكتفي بهذا القدر من صفة حال أهل أوربا قبل فتح المسلمين لجنوب بلادهم، وإقامة مدنية عظيمة أدهشت العالم، وفتحت لأهله باباً ليخرجوا من ظلمات الهمجية والجهل إلى نور المدنية والعلم، وقد اقتبس الأوروبيون من المسلمين الفاتحين المُعلمين المهذبين قبسة من علومهم وآدابهم، وكانت أساسا لنهضتهم، ولا شك أن العلم والمدنية اللذين سبق إليهما المسلمون في الحجاز أولا حيث نزل القرآن وأشرق نور الإسلام ثم في دمشق والأندلس وبغداد ثانيا هما أعظم تقدم شهده العالم قبل نهضة الأوروبيين، فالمسلمون أئمة العلم والحضارة والأخلاق…”.
فصلٌ الرجعيةُ والتقدم في نظر الإسلام: وفيه بين الشيخ رحمه الله أن العقل الصحيح يرى التقدم في العلم والعدل وسائر الأخلاق الكريمة، يقول الشيخ: “فكل أمة اتصفت بالعلم والأخلاق فهي متقدمة وإن كان قبل مليون سنة، وكل أمة اتصفت بالجهل ومساوئ الأخلاق فهي متأخرة ساقطة مذمومة ملعونة وإن كانت ستجيء بعد خمسمائة سنة، والإسلام دين العقل يوافق هذا ولا يخالفه أبدا، فلا عبرة بالزمان ولا بالمكان”.
وقال رحمه الله: “وقد تبين لك أن الإسلام الصحيح الذي لم تخالطه العصبية والعقائد الخرافية يَبني التقدمَ كلَّه -روحيا كان أم ماديا- على أساس العمل النافع والاعتقاد الصحيح”.
وقال رحمه الله: “ومن ذلك تَعلمُ علمَ اليقين أن السفهاء الذين يسمون الرجوع إلى القرآن والتمسك بالإسلام رجعية هم شرّ رجعيين في العالم، ولا تجد لرجعيتهم نظرا بين الرجعيات في هذه الدنيا، وإذا تجرؤوا وزعموا أنهم تقدميون فإن جميع أهل الأرض يلعنونهم ويسخرون منهم، وذلتُهم وفقرُهم وجهلُهم وحقارتُهم شهودٌ عدولٌ على كذبهم، أضف إلى ذلك طيشهم واستبدادهم وفقدان العدل والمساواة بينهم…”.
قلت: وكأني بالشيخ رحمه الله يخاطب من ابتُلي بهم بلدنا الحبيب وسائر بلاد المسلمين من العلمانيين والحداثيين، فهذا دأبهم وديدنهم، وهذه عاداتهم وعباراتهم.
فصلٌ مقصودُ الأوروبيين النصارى بالرجعية: وبيـَّن فيه رحمه الله أنهم يرون التمسك بالأساليب التي أكل عليها الدهر وشرب وقام الدليل على أنها خطأ رجعية مذمومة، ومن ذلك الاستمرار على الجهر بما ينفع الناس في دينهم وأخلاقهم ومعاشهم وأرزاقهم، ومن ذلك التعصب للعقائد والأنظمة.
فصلٌ الرجعيةُ في نظر الدول التي لا تدين بدين: بيـَّن رحمه الله أنها تُقدِّسُ نحلتَها وتعدُّها تقدُّماً، وتعدُّ كلَّ ما خالفها رجعية أو برجوازية، وتذمُّ كلَّ مخالف.
فصلٌ الرجعيةُ عند الشعوب العربية في العصور الأخيرة: وقد بيـَّن فيه رحمه الله أن العرب في هذا الزمان -يعني دولتهم- منقسمون إلى قسمين:
1) قسم: يسمون أنفسهم تقدميين واشتراكيين، يقول الشيخ رحمه الله:” فإذا قيل لهم: هذا لفظ مبهم، فأي اشتراكية تعنون؟ يقولون: نعني الاشتراكية العربية، فيقال لهم: إن العرب كانوا بعد جاهليتهم لا يعرفون إلا الإسلام، ولا يدعون إلا إليه، ولا يتبعون إلا القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظ الاشتراكية غير موجود في الكتاب والسنة، ولم نر لهم تعريفا جامعا لهذه النحلة، ولا حدا يحد بها.
أما الأعمال التي يقومون بها ويعلنون أنها من مفاهيم الإشتراكية فإنهم يختلفون فيها، أما إن كانوا يعنون بالإشتراكية المستوردة من أوروبا، ففي أوروبا نوعان من الإشتراكية:
1- الإشتراكية التي هي مقدمة الشيوعية، كما في شرق أوروبا وفي يوغوسلافيا والصين، ما عدا فرموزة وألبانيا والأحزاب الشيوعية في الشعوب الأوروبية.
2- الإشتراكية الديمقراطية: كاشتراكية حزب العمال في بريطانيا وألمانيا وبلجيكا وفرنسا وغيرها.
3- وهناك اشتراكية انقرضت وهي الإشتراكية الوطنية التي كان عليها هتلر وموسوليني، وأظن أن هذه الإشتراكية هي التي تلهج بها بعض الدول العربية، فهي إلى اشتراكية هتلر أقرب وأشبه، مع فارق عظيم وهو أن الشعب الألماني الذي كان من وراء هتلر شعب عظيم في مقدمة شعوب الحضارة والعلم والمدنية العصرية…”.
2) والقسم الثاني: ممالك وإمارات، وهي سائرة على ما كانت عليه من قبل، لم تتخذ لنفسها اسما جديدا، وكلها تأخذ بأسباب الحضارة على حسب ما تسمح لها أحوالها ومقدراتها، وكلها تدعو إلى التعاون والتآخي بين العرب، ولا تنكر الوحدة إذا سارت في طريقها الطبيعي مرحلة بعد مرحلة، وإنما تنكر العدوان والتدخل في الشؤون الداخلية أن يقع من دولة في شؤون دولة أخرى.
يقول الشيخ رحمه الله: “وهذا هو المعقول الممكن، على أنني لا أهتم كثيرا بهذه الوحدة إلا إذا كانت مبنية على قواعد الإسلام، وكذلك لا أهتم بالعرب إلا إذا كانوا مسلمين قولا وفعلا. وآية ذلك أن يتبعوا القرآن وما صحَّ من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويكونوا أمةً واحدة كما كانوا في دولة النبي ودولة الخلفاء”.
ثم ذكر الشيخ أن الدول التي تسمي نفسها تقدمية اشتراكية تظهر عداوة شديدة للممالك والإمارات، لا لشيء إلا لأنها لم توافقها على مذهبها الجديد. ومن عداوتها لها أنها تسميها رجعية، تريد أنها بمجرد تسميتها نفسها تقدمية واشتراكية وجدت طريق السعادة وسلكته…
يقول الشيخ رحمه الله: “وحجة هذه الممالك في رفضها لما عُرض عليها من هذا المذهب الجديد أنها ليست كاليتامى القاصرين أو الصبيان السفهاء حتى تطمع الدول الإشتراكية أن تضع نفسها في مقام الوَصاية والتربية والتأديب والإشراف والنظر في مصالحها. ثم إن هذه الممالك والإمارات لم تر شيئا من التقدم والتحسن على تلك الدول ولا على شعوبها بعد انتحالها للنحلة الجديدة، لا في العقائد ولا في الأخلاق ولا في الاقتصاد ولا في السياسة ولا في القوة الحربية ولا في الروابط الاجتماعية، بل عكس ذلك هو الواقع، وهي مع ذلك تدعو إلى روابط الأخوة والصداقة، وتَبادل المصالح والمنافع، وتنشد قول طرفة:
فَمَالي أَرَاني وابنَ عمِّيَ مَالكاً *** مَتَى أَدْنُ منهُ يَنْأَ عَنِّي ويَبْعُدُ “.
فصلٌ ألفاظٌ يتبَجَّحُ بها كثير من الناس في هذا الزمان: وقد ذكر الشيخ رحمه الله أنه شرحها في مقال بعنوان: (أيها العرب لا تتخذوا التفرقة وسيلة إلى الوحدة) نُشر في صحف كثيرة منها مجلة البعث، ومجلة الإيمان المغربية، وهي:
1)- الثورة: وهي خروج الشعب على حاكمه أو حكامه إذا أساؤوا التصرف وجاروا وظلموا، أو لم يكونوا أهلا للأمانة التي جُعلت في أيديهم كما وقع في الثورة الفرنسية وفي ثورة سكان الولايات المتحدة الأمريكية على حكامهم البريطانيين، “فإذا توفرت أسباب الثورة -يقول الشيخ- وكان القائم بها هو الشعب، وكان قادتها مُخلصين مُصلحين، لا يريدون بثورتهم رئاسة ولا مالا، وإنما يريدون رفع الجور وإزالة الفساد وتحرير الشعب، فإن الثورة يكتب لها النجاح وتؤتي أكلها”. قلت: وفي المسألة تفصيل علمي رزين، ولها شروط وأسباب وموانع، يرجع فيها إلى مَظانِّها، ممَّا خطَّه يَراعُ علماء السياسة والدين.
2)- الجمهورية: بيـَّن الشيخ أن الذين يمدحون الجمهورية لذاتها ليسوا أقل ضلالا من الذين يمدحون الثورة لذاتها، بقطع النظر عن العواقب والنتائج، وقال رحمه الله: “إذا كان الشعب جاهلا منحطا في أخلاقه، ليس له رابطة متينة تربط بين أفراده وطوائفه، قد ساد فيه الغش وقلَّ فيه الإخلاص وخربت الذمم، فإنه لا يصلح للحياة السعيدة لا بالنظام الملكي ولا بالنظام الجمهوري، لأن الرؤساء الذين كانوا يحكمونه في العهد الملكي هم أنفسهم الذين يحكمونه في العهد الجمهوري، ولا يعقل أن يكونوا في العهد الملكي ذئاباً يعيثون فساداً ثم ينقلبوا في العهد الجمهوري ملائكة أبرارا”.
3)- الديمقراطية: بيـَّن الشيخ رحمه الله أن الإسلامَ نظامٌ كفيل بسعادة كلِّ مَن تمسك به من جماعات وأفراد ودول، ولا يحتاج أن يستعير من غيره شيئا، وهو لا يتفق مع نظام رأس المال، ولا مع الشيوعية، ولا مع الإشتراكيات بأنواعها. وقد سَبق إلى كل خير يوجد في هذه النظم، وتجنب كلَّ شر فيها، يقول الشيخ: “فإذا وصفتَ الأمةَ بأنها ديمقراطية فقد جهَّلتَها وجهلت عليها، فالإسلام مبني على العدل والإحسان، وفيهما سعادة البشر أجمعين”.
4)- الحرية: يقول الشيخ رحمه الله: “ومن العجب أن هؤلاء الجبابرة الذين يحكمون شعوبهم بالحديد والنار حُكماً كله دماء ودموع، وقهر وكبت، وإذلال وإهانة، ومع ذلك يتغنون بالديمقراطية والحرية، وهم يعلمون أنهم أبعد الناس عن الحرية والديمقراطية”.
رحم الله العلامة الدكتور الهلالي وجزاه خير ما جزى به عالما ناصحا مجاهدا عن أمته… آمين.
طيب العزاوي
هوية بريس – الإثنين 20 يناير 2014م