للغرب الإفريقي ابن عالم بار نسله بنو هلال وأنجبه المغرب الأقصى، هو العلامة الأستاذ محمد تقي الدين الهلالي المدرس بالهند، لهذا الأستاذ شهرة علمية إصلاحية عظيمة بالشرق ومقالات رنانة في صحفه وهو ـ على بعده عن الغرب الإفريقي ـ لا يفتر عن العناية به والتتبع لأحواله والكتابة عنه، وها هو اليوم قد أتحفنا بهذا المقال النفيس الذي نشرناه فيما يلي، شاكرين لفضيلته عنايته وفضله:
(1)
قال الله تعالى “ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم” صدق الله العظيم.
لم يزل الناس يرقبون جمعية العلماء في الجزائر وأعمالها منذ نشأتها حتى الآن ويلحظونها بعين الإعجاب والسرور، بل عدوها منقبة وفخرا للمسلمين في المعمورة كلها عموما ولأهل الجزائر خصوصا لأن هذه الجمعية بعد جمعية علماء الهند هي ثانية اثنين، ولأن الناس لم يكونوا يأملون من أهل الجزائر الذين يظنون أنهم نسوا العربية والإسلام من زمان حتى إن المسبوق منهم إذا دخل المسجد ليصلي ورأى الإمام راكعا قال له “أتاندي مسيو” بدلا من قول المسبوق في مِصر للإمام إن الله مع الصابرين، يريد منه بذلك انتظاره ليدرك الركعة.
وقد سمعت وقرأت من هذا الشيء الكثير، واحتججت وأبنت أن تلك الشكاة ظاهر عارها عن الجزائريين ولكن بعض الناس لم يشأ أن يرجع عن اتهام الجزائريين بالجهل والاستعجام وأصر على ذلك إلى الآن، هذا هو اعتقاد عامة أهل المشرق وجل خاصتهم أو كلهم حتى ظهرت مجلة الشهاب الغراء طافِحة بالمقالات المتنوعة مكسوة حلة جميلة من البلاغة العدنانية الخالصة فلم ينقض عجب الناس من هذه المفاجأة إذ لم يكن يخطر ببال أن أحدا من أهل الجزائر يعرف العربية العامية لأن السائحين من أهل المشرق أطبقوا على أنهم لقوا في فيشي وغيرها أهل الجزائر فما أمكنهم التفاهم معهم إلا باللغة (الفرنسية) فضلا عن أن يكون فيهم أدباء فرسان في ميادين الفصاحة وعلماء فطاحل متبحرين في ميراث محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك العهد أخذ رأي الناس يتغير في أهل الجزائر واستبشروا وذهب عنهم اليأس. وعلموا أن في الرماد وميض نار يوشك أن يكون لها ضرام، علموا أن هناك نهضة علمية وأن أبناء يعرب في الجزائر وإخوانهم القبائليين المستعربين لم يكونوا ليبيعوا ميراث نبيهم وتراث أسلافهم وذخائر آبائهم بثمن بخس من رطانات الأجانب، لم يكونوا ليستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، لأن محمدا رسول الله هو بحر العلم والمعارف الزاخر، وهو المثل الأعلى في الأخلاق الكريمة وما حييت أمم الغرب بعد موتها، ولا استأنست بعد توحشها ولا تمدنت بعد أبودها إلا بقبسة اقتبستها ورشفة ارتشفتها من فضلات علم محمد النبي الأمي رحمة العالمين، استبشر العرب والمسلمون وصاروا يعدون الجزائر فيما يعدون من شعوبهم الحية بعدما كانوا يَترجمون عليها ويتأسفون على فقدها ثم أطردت حركة العاملين لإحياء النفوس بإحياء العلوم والأخلاق في الجزائر إطرادا مستمرا حتى وصلت إلى تأليف جمعية العلماء فازداد الناس استبشارا وتفاؤلا وذهب عنهم الروع الذي كان يساورهم، فلم يرعهم إلا الشيطان قد نفخ في أنوف قوم يحبون الصيد في الماء العكر وآخرون مالئوهم لأغراض نفسية سخيفة اشتروها بدينهم وعروبتهم وشرف أمتهم وبئسما اشتروا، وأوشاب من العوام الجهال المساكين أتباع كل ناعق والذي تولى كبره منهم له عذاب أليم، فأخذ هؤلاء الأشابة الأمشاج يكيدون كيدا (“والله يكيد كيدا”) أراد هؤلاء المشائيم أن يقضوا على جمعية العلماء ومشروعاتها وغرسها في مهدها قبل أن تؤتي ثمارها اليانعة التي تعوق شياطين الإنس المتآكلين بالدين عن مآكلهم وساءهم أن يروا الحياة تدب في جسم الأمة الجزائرية البائسة التي توالت السنون على أرض عقول أبنائها الخصبة وأرادوا أن يفجعوا العالم الإسلامي والعربي وسائر أهل الشرق بنبأ موت الجمعية وموت إصلاحها وغور ينبوع نورها ولم يرقبوا في الأمة ولا في الدين إلا ولا ذمة وقست قلوبهم وغلظت طباعهم فلم يرقوا لحال أبناء الجزائر ونشئها الذين بدءوا يتذوقون لبان العلم ويطفئون لهيب ظمأهم بماء الحياة، وأرادوا بهم كيدا ليردوهم ويردوهم في حافرتهم وينكصوهم على أعقابهم ويئدوهم ويدسوهم في التراب ألا ساء ما يزرون.
وقع هذا النبأ
وقع هذا النبأ على المسلمين من مصر إلى الصين وقوع الصاعقة فصعقوا له وخروا مغشيا عليهم من هوله فلما أفاقوا تضرعوا إلى الله واستغاثوا به وقالوا يا لله للمسلمين يا لله للمساجد والمدارس التي يستقي منها أبناء الجزائر غلمانا وشبانا وكهولا وشيوخا ماء حياة قلوبهم وسعادة أرواحهم واضطرب الناس لهذا النبأ أيما اضطراب وكتبت فيه الصحف فصولا طوالا وصار حديث الناس وشغلهم الشاغل.
عمل هؤلاء المشاغبين والحكومة الجزائرية
لقد جر هؤلاء القوم على حكومة الجزائر والحكومة الفرنسية بأسرها جريرة هي شر وأدهى من جريرتهم على الشعب والقرآن والدين لأن هذا النبأ أثار ثائر الساخطين فضجوا ضجيجا وأطلقوا ألسنتهم وأقلامهم في الحكومة الفرنسية وزاد سوء ظنهم بها.
نصيحة لحكومة الجزائر
نحن هنا في الشرق نشاهد الأمور وندرك دقيقها وجليلها، لأننا جالسون على مرقب وفي أيدينا مجاهر مكبرة، وقد علمنا جميع ما ينتقده المسلمون على سياسة الحكومة الفرنسية ولم نر الناس تألموا لحادثة ما تألموا لمنع العالم الداعي إلى الله الأستاذ السعيد الزاهري من الوعظ وقبله منع الأستاذ العلامة الشيخ الطيب العقبي من الوعظ في مسجد الجزائر، إن أعداء فرنسا قد استغلوا هذه الحادثة ونشروا بها دعاية مضرة جدا بسمعة فرنسا ومصالحها في الشرق ضررا بالغا فليتأمل حكام الجزائر وأولوا الأمر فيها ولينظروا في العواقب والنتائج، فإن اضطهاد جمعية العلماء المصلحين في الجزائر جناية على فرنسا قبل كل أحد من دون أن يكون لها فيها نفع أصلا فإن الناس إذا منعوا من درس كتابهم و حديث نبيهم في المساجد ذهبوا إلى بيوتهم وما زادهم ذلك إلا رغبة وكانت عواقبه وخيمة، هذه نصيحتنا لأولي الأمر في الجزائر.
المصلحون خير للأمة وللحكومة من أضدادهم
المصلحون خير للحكومة لأنهم متعلمون متنورون متدينون يوفون بعهودهم ويحفظون وعودهم ويصلحون في الأرض ولا يفسدون، المصلحون عضد الحكومة الأيمن في ترقية البلاد أخلاقيا والأخلاق هي رأس المال وعلميا ودينيا ودنيويا، والمصلحون لهم طرق وملكات يقتدرون بها على تربية النشئ وإنقاذ الشعب من الجهل والرذائل لا تجدها الحكومة عند غيرهم ونحصر كلامنا في الوجهة الأخلاقية التي إن صلحت جاءت السعادة تسعى للحكومة والأهالي، فقلت الجرائم أو فقدت وصدقت العهود وفقدت البطالة والتبذير والفجور وأقبل الناس على أعمالهم وأقفرت دور القمار والدعارة والسكر وامتلأت المدارس والمساجد والمزارع والحوانيت وقاعات المحاضرات فلا يفلس تاجر ولا يتأخر فلاح عن دفع ضريبة ولا يزيف أحد نقودا وينعدم قتل الغيلة والاعتداء وينشأ شبان جدد تثق بهم الحكومة في مباشرة جلائل الأعمال إذا عاهدوا وفوا وإذا حدثوا صدقوا وما أحوج الحكومة إلى أمثالهم لأنها تقدر أن تعتمد عليهم إذ يؤدون واجباتهم ووظائفهم بوازع من أنفسهم الطيبة وعقيدتهم الخالصة ولا تميلهم رياح الأهواء والفتن لا خوفا من عقاب الحكومة فإن الذي يخدم الحكومة ويؤدي واجبه إليها خوفا منها يكون دائما متربصا بها الدوائر ومنتظرا الفرص فمتى قدر على خيانتها سرا أو جهرا خانها والحكومة لا تعلم الغيب وربما ارتكب الخيانة لإرضاء شهوة خسيسة من شهواته إذ لا دين له ولا أخلاق وقد ضمن له شيخه بزعمه أن ما عمل من الذنوب يغفر له ولا تمسه النار وإن قتل سبعين نفسا إلى غير ذلك من الخرافات المستقرة في دماغه، وإن ارتابت الحكومة فلتلق نظرة على الفسقة والمجرمين فإن وجدت أكثرهم من الإصلاحيين فلتنظم إلى جانب أعدائهم وإن وجدت أكثر المجرمين من أتباع من يملكون الجنة والنار بزعمهم ويتصرفون في الأرزاق والأعمار والصحة والمرض والنصر والخذلان الخ الخ فليت شعري ماذا تركوا لله! فناهيها ذلك برهانا على صدق قولنا وخلوص نصيحتنا وكاتب هذه السطور من أهل المغرب يعرف حقيقة الفريقين وباطن أمرهما وظاهره.
(قصة)
كنت في ناحية العين الصفراء في العقد الرابع من هذا القرن ورأيت أهل البادية يتحدثون بأخبار كثير من الدجاجلة الذين يزعمون أنهم أهل الوقت وأن الوقت الذي تتعطل فيه آلات الفرنسيين ويسيل سلاحهم بالماء ويتولى الحكم والسلطنة صاحب الوقت قريب، فكم من دجاجلة كانوا يطوفون ويبثون أمثال تلك الخرافات ويحثون العامة الجاهلين على الاستعداد للحرب ويَعِدونهم بالإمارات ويبيعون الولايات بيعا فيقول أحدهم أيكم يشتري قيادة ( العرش ) الفلاني بخمسمائة فرنك فيقول أحد الجهلة أنا وينقده الدراهم ويعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا، فكم يجر هؤلاء الأولياء أولياء الشياطين من ويلات وبلايا على الأمة والحكومة وقد ذهبت أرواح وأحوال في وقائع من فتنهم ليس لها سبب إلا الولاية والقبطانية الكاذبة والحكومة جديرة أن لا تثق بهذه الطائفة وإن أظهرت لها الميل لأنها جاهلة، وقد قال العلماء: عدو عاقل خير من صديق جاهل، وكل من تلقى درسا من دروس المصلحين يكون ترياقا له فلا يقع في حبائل الدجالين.
يتبع
محمد تقي الدين الهلالي
جريدة الصراط السوي، السنة 1، العدد 6، الإثنين 4 رجب 1352 هـ، 25 أكتوبر 1933م – ص: 2-3