قال الحطاب في شرحه على المختصر عند قوله: “وجهر بها بمسجد، ما لفظه. أي بالقراءة. قال في المدخل وكره مالك رفع الصوت بالقراءة والتطريب فيه” انتهى بالمعنى. وقال بعده: “المسجد إنما بني للصلاة. وقراءة القرآن تابعة للصلاة ما لم تضر بالصلاة فإذا أضرت بها منعت ثم قال: وهذه المسألة لا يُعلم فيها خلاف بين أحد من متقدمي أهل العلم. أعني رفع الصوت في القراءة والذكر في المسجد مع وجود مُصَل يقع له التشويش بسببه انتهى. ثم قال: وليس لقائل أن يقول: أن القراءة والذكر جهرا أو جماعة تجوز في المسجد لنص العلماء أو فعلهم. وهو أخذ العلم في المسجد لأن مالكا سئل عن رفع الصوت بالعلم في المسجد فأنكر ذلك وقال: علم ورفع صوت! فأنكر أن يكون علم فيه رفع صوت. وفيه كانوا يجلسون في مجالس العلم كأخ السرار. فإذا كان مجلس العلم على سبيل الاتباع فليس فيه رفع صوت. فإن وجد فيه رفع صوت منع وأخرج من فعل ذلك. انتهى كلام الحطاب.
وقال (المواق) عند قول صاحب المختصر: وأقيم القارئ في المسجد يوم الخميس أو غيره. ما نصه: من المدونة قال مالك – يقام الذي يقعد في المسجد يوم الخميس أو غيره لقراءة القرآن. وفي العتبية: والقراءة في المساجد محدثة ولن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها. والقرآن حسن قيل في التقرى في المسجد إذا خف أهله جعلوا رجلا حسن الصوت فقرأ لهم فكرهه. قيل قول عمر لأبي موسى: ذكرنا ربنا. قال: والله ما سمعت هذا قط قبل هذا المجلس. ابن رشد كرهه إذا أرادوا بذلك حسن صوته لا إذا قالوا له ذلك استدعاء لرقة قلوبهم بسماع قراءته الحسنة. وقد كان عمر بن الخطاب إذا رأى أبا موسى الأشعرى قال ذكرنا ربنا فيقرأ عنده. وكان حسن الصوت. وإنما استدعى عمر رقة قلبه بسماع قراءته للقرآن. وهذا لا بأس به إن صح من فاعله علی هذا الوجه وإنما اتقى مالك أن يكون المحدث بما روى عن عمر ذريعة أن يعتقد أن يقدم الرجل للإمامة لحسن صوته لا لما سوی ذلك مما يرغب في إمامته من أجله، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “بادروا بالموت ستة: أحدهما بشر يتخذون القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليغنيهم وإن كان أقلهم فقها” اهـ كلام المواق. وقال الزرقاني عند قول صاحب المختصر “وأقيم القارئ” للقرآن رافعا صوته (في المسجد) من غير كونه بشرط الواقف (يوم خميس) أي كل يوم خميس بأن قصد دوام ذلك وعلم منه بقوله أو بقرينة (أو غيره) ككل جمعة أو كل شهر مرة، لأن الغالب قصده الدنيا بذلك كما في الشرح الصغير، وفعله ذلك بالشروط الثلاثة المذكورة مكروه ويقام ندبا وفعل ذلك لا على الدوام مكروه أيضا لكن لا يقام، قاله البساطي. ويؤمر بالسكوت أو القراءة سر أو بلا رفع صوت إن رفعه. انتهى كلام الزرقاني.
وضع ما تقدم من النقول في الميزان وغربلتها
كلام الحطاب به مباحث خمسة:
(1) يفهم من نقله كراهة مالك القراءة في المسجد برفع الصوت مع تسليمه لذلك تسليم صاحب المدخل أنه لم يَرِد خلاف معتبر عن مالك في هذه المسألة.
(2) أن تلك الكراهة مطلقة سواء أكان هناك مُصل يقع له التشويش أم لا، سواء كان ذلك في الأوقات التي يجتمع فيها الناس للصلاة كوقت انتظار صلاة الجمعة وغيرها من الصلوات الخمس، أم في غيرها كأوقات كراهة النافلة وغيرها من الأوقات التي يكون فيها المسجد خاليا من المطلوبين في الغالب. وهذا هو المفهوم من كلام المؤلفين وإطلاقهم.
(3) خالف الشافعي وأصحابه مالكا في هذه المسألة فلم يقولوا بكراهة رفع الصوت بالقرآن في المسجد إذا لم يكن هناك مصل يقع له التشويش، واحتج الشافعية لمذهبهم بما تقدم في نقل ابن رشد وبما يأتي من نقل المواق.
(4) حمل المتأخرون كراهة مالك لرفع الصوت بالقرآن إذا لم يقع تشويش المصلين على التنزيه وفيه نظر. ولا دليل عليه من كلام مالك ومتقدمي أصحابه. والظاهر أنها للتحريم لأن مالكا احتج لحكمه بالكراهة بأنها بدعة محدثة. ومذهب مالك أن البدع كلها حرام كما حققه الشاطبي في الاعتصام.
(5) أن ذلك كله مقيد بما إذا لم يكن هنالك مصل يقع له التشويش بالقراءة، وأما إذا كان فهي حرام كما صرح صاحب المدخل فيما نقله الحطاب بقوله: (وإلا منعت) وقد صرح صاحب المدخل بإجماع المتقدمين على ذلك وسلمه الحطاب، وهو يدل أيضا على ما قلناه من وجود الفرق عند مالك وأصحابه بين حكم القراءة برفع الصوت مع عدم وجود المصلي الذي يقع له التشویش و بين حكمها مع وجوده. فإن قلنا أن الكراهة المتقدمة للتحريم تكون القراءة مع وجود المصلي أشد حرمة، وإن قلنا أنها للتنزيه تكون عند وجود المصلي محرمة بلا شك إجماعا، وينحصر الخلاف حينئذ في القراءة برفع الصوت عند عدم وجود المصلي. فتكون عند الشافعي مباحة وعند مالك مكروهة. وسيأتي من كلام صاحب المدخل فيما نقله عنه بلا واسطة ما لا يبقي شكا في حرمة القرآن مع وجود المصلي الذي يقع له التشويش.
كلام الزرقاني فيه مبحثان:
(1) من الغفلة العظيمة المنافية للتحقيق أن الزرقاني والبناني والرهوني تركوا الكلام على إطلاقه ولم يتعرض واحد منهم لمسألة وجود المصلي الذي يقع له التشويش بالقراءة لا عند قوله (وجهر بها) ولا عند قوله (وأقيم القارئ). أما الحطاب فقد حطب من المدخل ما يخرجه من العهدة. وقد تقدم ذلك ويأتي، وأما گنون فقد نقل من الإتقان ما يبرئ ذمته أيضا. قال محشيا على قوله (وجهر بها) قلت قال في الإتقان (مسألة) وردت أحاديث تقتضي استحباب رفع الصوت بالقراءة وأحاديث تقتضي الإسرار وخفض الصوت، فمن الأول حديث الصحيحين (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به). ومن الثاني حديث أبي داود والترمذي والنسائي (الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة) قال النووي والجمع بينهما أن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء أو تؤذي به مصلون أو نيام. والجهر أفضل في غير ذلك؛ لأن العمل فيه أكثر، ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين، ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع همه إلى الفكر، ويصرف سمعه إليه، ويطرد النوم، ويزيد في النشاط. ويدل لهذا الجمع حديث أبي داود بسند صحيح عن أبي سعید (اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: ألا إن كلكم مناج لربه فلا يؤذين بعضكم بعضا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة). وقال بعضهم يستحب الجهر ببعض القراءة والإسرار ببعضها لأن المُسِر قد يمل فيأنس بالجهر، والجاهر قد يكل فيستريح بالإسرار. اهـ.
لكن قال علماؤنا معنى (يجهر به) يسمع نفسه ومن يليه. انتهى كلام كنون.
(2) قوله من غير كونه بشرط الواقف تبع فيه جماعة من شيوخ المذهب، وفيه نظر من وجهين:
الأول: أن القراءة برفع الصوت، مع وجود من يتأذى بها من المصلين، كما هو الحال في مسألتنا، ليست من المكروه، بل من المحرم فلا تجوز، ولو اشترطها الواقف.
الثاني: أن الواقف إذا وقف مالا على مكروه متفق على كراهته فشرطه باطل ويصرف الوقف في قربة قال الرهوني، في باب الوقف عند قول صاحب المختصر: (وبطل على معصية) نقلا عن الحطاب ما نصه: وانظر الوقف على المكروه والظاهر أنه إن كان مختلفا فيه فإنه يمضي، وإن اتفق على كراهته فلا يصرف في تلك الجهة، ويتوقف في بطلانه أو صرفه إلى جهة قربة. انتهى منه بلفظه. ثم استدل بكلام المدخل في مسألة من الأذان فانظره، وما قاله الحطاب هو الظاهر والله أعلم. انتهى كلام الرهوني. قال جامع هذه المقالة: وقد نظرنا في الحطاب فوجدنا فيه ما نصه: بعد قوله ويتوقف في بطلانه أو صرفه الى جهة قربة: وكذا قال الشيخ أبو عبد الله ابن الحاج في المدخل في فصل الأذان جماعة، بعد أن قرر أن الأذان جماعة مكروه. قال: وفعلهم ذلك لا يخلو إما أن يكون لأجل الثواب. فالثواب لا يكون إلا الاتباع، أو لأجل الجامكية والجامكية لا تصرف في بدعة، كما أنه يكره الوقف عليها ابتداء. انتهى كلام الحطاب.
ودونك كلام ابن الحاج برمته وأدلته لتزداد بصيرة إن كنت طالبا للحق. قال ابن الحاج في كتابه المدخل الجزء الثاني من المجلد الأول (ص206):
(فصل) ومن هذا الباب الكرسي الكبير الذي يعملونه في الجامع وعليه المصحف لكي يقرأ على الناس، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك لوجهين:
الأول: أنه يمسك به من المسجد موضع كبير، وهو وقف على المصلين لصلاتهم.
الثاني: أنهم يقرءون عند اجتماع الناس لانتظار الصلاة. فمنهم المصلي ومنهم التالي ومنهم الذاكر ومنهم المفكر. فإذا قرأ القارئ إذ ذاك قطع عليهم ما هم فيه. وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن رفع الصوت بالقراءة في المسجد بقوله (لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن). وهو نص في عين المسألة، ولا التفات إلى من فرق بين أن يكون المستمعون أكثر ممن يتشوش من المشتغلين بالصلاة وغيرها مما تقدم ذكره. فإن شوش على واحد منهم منع من ذلك لوجود الضرر. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار)، وقال عليه الصلاة والسلام (من ضار ضار الله به، ومن شاق شاق الله عليه). وقال عليه الصلاة والسلام: (ملعون من ضار مؤمنا) رواه الترمذي. وأول من أحدث هذه البدعة في المسجد الحجاج (أعني القراءة في المصحف) ولم يكن ذلك من عمل من مضى. فإن قال قائل قد أرسل عثمان رضي الله عنه المصاحف إلى الأمصار، توضع في الجوامع، فالجواب أن ذلك إنما كان لتجميع الناس على ما أثبت في المصحف الذي أجمع عليه خاصة، ليذهب التنازع في القرآن ويرجع لهذا المصحف إذا اختلف في شيء من القرآن، ويترك ما عداه: لأنه أمام المصاحف. وقد أمن الاختلاف فيه والحمد لله، فلا يكتب مصحف ويجعل في المسجد اهـ. كلام المدخل. ودونك كلام المواق عند قول المختصر (كجماعة) قال المواق: من ابن يونس كره مالك اجتماع القراء يقرءون القرآن في سورة واحدة. وقال لم يكن من عمل الناس، ورآها بدعة. قال محيي الدين النووي في قوله عليه الصلاة والسلام: (ما اجتمع قوم يتلون كتاب الله الحديث… فيه جواز قراءة القرآن بالإدارة (1) وهو مذهبنا ومذهب الجمهور وكرهه مالك و تأوله بعض أصحابه (2) ابن رشد إنما كرهه مالك لأنه أمر مبتدع، ولأنهم يبتغون به الألحان على نحو ما يفعل بالغناء. فوجه المكروه في ذلك بين الماوري وظاهر الحديث يبيح الاجتماع لقراءة القرآن في المساجد، وإن كان مالك قد قال بالكراهة لنحو ما اقتضى هذا الظاهر جوازه. وقال يقامون. ولعله لما صادف العمل لم يستمر عليه كره إحداثه.
وكان كثيرا ما يترك بعض الظواهر بالعمل، وقال عز الدين ابن عبد السلام في قواعده: من العجب العجاب أن يقف المقلد على ضعف مأخذ إمامه، وهو مع ذلك يقلده كأن إمامه نبي أرسل إليه، وهذا نأي عن الحق، وبعد عن الصواب، لا يرضى به أحد من أولي الألباب، بل تجد أحدهم يناضل عن مقلده ويتحيل لدفع ظواهر الكتاب والسنة يتأولها. وقد رأيناهم يجتمعون في المجالس فإذا ذكر لأحدهم خلاف ما وطن عليه نفسه تعجب غاية التعجب؛ لما ألفه من تقليد إمامه، حتى ظن أن الحق منحصر في مذهب إمامه، ولو تدبر لكان تعجبه من مذهب إمامه أولى من تعجبه من مذهب غيره. فالبحث مع هؤلاء ضائع مفض إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة يجدها، فالأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال: لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه ولا يعلم المسكين أن هذا مقابل بمثله، ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح. فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره. حتى حمله على مثل ما ذكرته. وفقنا الله لاتباع الحق أينما كان، وعلى لسان من ظهر. انتهى كلام المواق.
حكم مالك الصارم على أهل البدع
قال الشاطبي في الجزء الأول من الاعتصام صفحة 47 ما لفظه: قال ابن الماجشون: سمعت مالكا يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا، صلى الله عليه وسلم، خان الرسالة؛ لأن الله يقول (اليوم أكملت لكم دينكم) فما لم يكن يومئذ دينا؛ لا يكون اليوم دينا. انتهى كلامه.
توضيح هذا الكلام للمستضعفين من القراء
قوله من ابتدع في الإسلام الخ. فيه مسائل:
الأولى: أن الابتداع في غير الدين جائز وغیر داخل في الوعيد، وذلك يشمل أمور المعاش من مسكن وملبس ومركب ومطعم وآلة حرب. وإن كان بعض الأئمة قد تورع عن ذلك أيضا فذلك من باب زيادة الورع وعلو المقام في الاتباع.
الثانية: قوله يراها حسنة أي يعتقد إباحته أو استحباب أو وجوبها.
الثالثة: قوله فقد زعم أن الخ. أي تلزمه نسبة الخيانة: أي الكتمان وعدم التبليغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك الأمر المبدع لو كان من الدين لبلغه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبلغه لكان خيانة، وهي محال في حقه عليه الصلاة والسلام بإجماع المسلمين.
الرابعة: قوله لأن الله يقول الخ، استدل الإمام مالك رحمه الله بهذه الآية على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى حتى أكمل الله دينه، وأتم نعمته، فما جاء بعده لا يكون من الدين.
الخامسة: قوله وما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينا يعني أن كل محدثة سواء كانت حقيقية كالنفخ في الأبواق في منارة المسجد في رمضان أو إضافية: أي أصلها مشروع، ولكن الهيئة التي فعلت عليها غير مشروعة كمسألتنا هذه – لم تكن دينا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تكون دينا بعده أبدا.
وقد بان لك مما قدمنا أن قراءة القرآن في المسجد برفع الصوت مع وجود مصل يتأذى بها حرام، وهو المطلوب. وأدلة التحريم من حديث رسول الله صلى الله له عليه وسلم واضحة، وقد تقدمت.
على أن كل مبتدع آثم وإن كانت بدعته مكروهة كراهة تنزيه فقط.
قال الشاطبي في الاعتصام المجلد الأول صفحة 286: وحاصل ما ذكر هنا أن كل مبتدع آثم ولو فرض عاملا بالبدعة المكروهة ـ إن ثبت فيها كراهة التنزيه ـ؛ لأنه إما مستنبط لها فاستنباطه على الترتيب المذكور غير جائز. وإما نائب عن صاحبها مناضل عنه فيها بما قدر عليه، وذلك يجري مجرى المستنبط الأول لها؛ فهو آثم على كل تقدير. انتهى كلامه بلفظه. وقد بسط الكلام قبل هذا وبعده واحتج لذلك بالحجج الدامغة فانظره.
الدكتور تقي الدين الهلالي
مجلة لسان الدين: الجزء 8و9 السنة 1 – ربيع الأول وربيع الثاني 1366 – 1 فبراير ومارس 1947 – ص: 70-84
————————————————-
(1) أي يتناوبون على القراءة واحدا بعد واحد
(2) هو ابن رشد