قال المؤلف الشهير المؤرخ الكبير جوزيف ماك كیب الانكليزي في وصف قرطبة المسلمة ما نصه:۔
إذا أردنا أن نقدر عظمة قرطبة العربية وغيرها من المدن الكبرى في المملكة العربية بإسبانيا يجب علينا أن نقابلها مع مدن أوربية في ذلك العهد.
إن القارئ العصري الذي يدرس تاريخ أوربة الاجتماعي لا تكون دهشته عظيمة حين يقرأ أن مدينة قرطبة في القرن العاشر – يعني المسيحي – كان عدد سكانها مليون نسمة، وكانت مجهزة بالماء الصافي وكانت لها شوارع طولها عدة أميال مبلطة ومضاءة بالمصابيح. وذلك لأنه يقابل حالة قرطبة بأحوال مدن أوربة في العصر الحاضر، ولاسيما والمؤرخون في هذا الزمان لا يهتمون بمقابلة حضارة قرطبة العربية مع حال مدن أوربة في ذلك العهد على وجه صادق صحيح؛ بل قد يجتهدون في تهوين شأن هذه الحضارة، وأن عظمة مدنية العرب في إسبانيا تتلاشى وتغيب أو تنقص وتقل روعتها ما لم يقابلها القارئ بحال أوربة في ذلك العصر، وقد أشرت من قبل إلى أن إظهار عظمة الحضارة العربية في إسبانيا لا يحتاج إلى بحث طويل بل يكفي لبيانه بضعة أسطر بسبب وضوحه، فيكفينا أن نقول أنه لم تكن في جميع أوربة، ما عدا إسبانيا وصقلية مدينة واحدة يبلغ عدد سكانها 80.000، ولا كان فيها مدينة مجهزة بالمياه الجارية في القنوات لصرف الأقذار ولو على أقبح شكل، ولا كان فيها مدينة مجهزة بأنابيب المياه الصافية للشرب، ولا كان فيها مدينة مبلطة الشوارع، ولا مضاءة بالمصابيح، ولا فيها مؤسسة ولو ابتدائية للنظافة وحفظ الصحة العمومية، ولا فيها حمام عام أصلا، وأما الحمامات الخاصة فكانت في مدن أوربة أما معدومة أو نادرة. ولم تكن فيها مدينة فيها حرس صالح لحفظ المنازل من السراق واللصوص القتلة الناهبين.
فمدينة رومة وهي أعظم مدن أوربة في ذلك الزمان كانت بلدة صغيرة قذرة نتيجة انحطاطها مدة خمسين سنة. وكان اشرافها ونبلاؤها لا يعرفون القراءة ولا الكتابة. وفي مدة حكم ثلاثة من ملوك قرطبة العظام، وهم عبد الرحمن والحكم والمنصور حكم رومة اثنان وعشرون حاكما وكانت مدة حكمهم ملوثة بالرذائل والقتل. ففي عهد عبد الرحمن الثالث وحده تولى الحكم في رومة أحد عشر رجلا، كل واحد منهم قتل من قبله.
وأما باريس فإن حالها لم يكن أحسن من حال رومة؛ لأن النورمانديين كانوا قد انتشروا في تلك البلاد وأكثروا فيها الفساد، فنزلوا بها إلى الدرك الأسفل من الهمجية. وكذلك انكلند يعني بريطانية؛ فإن الدانماركيين كانوا قد عاثوا فيها فسادا وخربوها، فكانت حال لندن ليست بأحسن من حال رومة وباريس وقد كان في إمكان أهل المدن الأوربية في وقت السلم أن يزوروا المدن العربية الزاهرة في اسبانيا، ويشاهدوا ما فيها من الحضارة فيستيقظوا بمشاهدتها من غفلتهم ويقتدوا بأولئك العرب فينهضوا بشعوبهم ولكن القوم بقوا في جهلهم يعمهون وفي أوساخهم يتخبطون.
وكانوا يعني الأوربيين، كما قال مستر لین بول في القسوة والتعصب كما يمكن أن تتوقع من الهمج البارباريین. وناهيك أن أشرافهم ونبلاءهم لم يتعلموا شيئا حتى غسل ثيابهم الداخلية. وكان القوم في أنفسهم في غاية القذر والوسخ مثل الأزبال المنتنة الملقاة في شوارعهم. وكانت قرطبة تبدو للوارد عليها من هذه المدن – يعني رومة وباريس ولندن- أعظم أعجوبة في الدنيا. وكذلك العرب القادمون من دمشق وبغداد يتعجبون من كبر حجمها وجمالها. أما قرطبة في العصر الحاضر التي هي كما قال كوتير “عظم جمجمة قرطبة العربية فإنها لا تبلغ عشر قرطبة العربية لا في حجمها ولا في عدد سكانها”.
هذا مع أن عصرنا هذا كثر فيه عدد السكان ونموهم كثرة لم يمهد لها نظير في زمان سابق. ذكر المقري أن زائرا لقرطبة العربية عَدَّ دورها في زمان المنصور فوجد عددها 260.397 وقد يتوقف بعض الباحثين المعاصرين في قبول ما يرويه مؤرخو العرب زاعمين أنهم يبالغون، لكن في مثل هذه الحكاية الدقيقة المفصلة يبعد جدا احتمال المبالغة؛ إذ من الواضح الجلى أن نظام أخذ الضرائب يتطلب معرفة عدد الدور والحوانيت بالدقة والضبط.
ولنا أن نظن أن ذلك الزائر لمدينة قرطبة الذي قال المقري أنه أحصى دورها إنما أخذ عددها من سجل الإحصاء الرسمي، ولا يخفى أن ربع مليون من الدور في مدينة يدين أهلها بالإسلام يدلنا على أن عدد سكانها مليون نسمة على أقل تقدير. أما المؤلفون الذين قدروا عدد سكان قرطبة بنصف مليون فيظهر أنهم نسوا تعدد الزوجات وكثرة الأولاد بسببه في البيوت الإسلامية. ولا بد أن يكون سكان قرطبة قد زاد عددهم في النصف الثاني من القرن العاشر على المليون، فيكون عدد سكان قرطبة في القرن العاشر للميلاد مساويا لعدد سكان لندن في أوائل القرن التاسع عشر. ومساحة المدينة تؤيد ذلك وتؤكده ولاسيما إذا علمنا أن المدن الشرقية تكون شوارعها ضيقة ودورها وحوانيتها غاصة مزدحمة بالناس، وأن مساحة دائرة هذه المدينة كانت أربعة عشر ميلا. وهذه هي المدينة القديمة فقط. وأما أرباضها وضواحيها الجميلة البسيطة – بمعنى الواسعة – فقد امتدت على طول النهر مساكن وجنات أربعة وعشرين ميلا، وكان لهذه المدينة سبعة أبواب حديدية ضخمة مغلفة بالنحاس تتخلل أسوارها المتينة. وعند كل باب يبتديء طريق معبد لاحب يقود إلى كل ناحية من إسبانيا العربية، وتحت كل شارع من شوارعها كان هناك مجرى واسع تجري فيه المياه المضافة مكتسحة الأقذار. وكانت تلك المجاري كبيرة بحيث تستطيع أن تكتسح ثورا وعجلة لنقل البضائع.
وبسبب كثرة الماء والعيون الجارية على الدوام كانت الشوارع تغسل بانتظام بإطلاق أنابيب المياه القوية المندفعة. وكان ذلك العمل سهلا بسبب حسن تبلیط الشوارع حتى أنك تسير في يومنا هذا على كثير من تلك الطرق المبلطة بالحجارة تبليطا محكما عمله العرب قبل ألف سنة مضت.
وكانت تلك الشوارع تضاء بالمصابيح في الليل مسافة عشرة أميال. وكانت مجهزة بالشرط والحرس تجهيزا تاما. وكان العرب قد مدوا قناطر ضخمة فاخرة على نهر كوادلكفير أي الواد الكبير. وكان أكبر جسر من هذه الجسور يبلغ 12.000 قدما طولا وكان مرتفعا عاليا بحيث لا يبلغ إليه الفيضان الذي يقع عادة في الربيع. ولا يزال حتى الآن قويا، بحيث يحمل السيارات والعجلات الضخمة العصرية
(يتبع)
مجلة لسان الدين الجزء 3 السنة 1 – شوال 1365 / شتنبر 1946 – ص 28