ثم تابع القس البرتستنتي الفلسطيني صلاته يقول:
أرسلت إلينا ابنك ورسولك عيسى المسيح، فكذبه الناس وصدقناه، وحاربه الناس أي اليهود الأرجاس أعداؤك وأعداؤه فآويناه وأحببناه، ولم نزل لقوله سامعين ولأمره مطيعين. وبدعانه وكلامه وسائر أثاره متبركين، ولعهده حافظن. عدا عليه أعداؤك وأعداؤه اليهود المغضوب عليهم فكان أمرك قدرا مقدورا فسلمنا لقدرك وبقينا على العهد متبعین لسنة نبيك ورسولك، لم نحد عنها طرفة عين مع تبدل الأيام وتعاقب الدول، واختلاف المالكين والحاكمين، وتعاون المسيطرين. أيها الأب القدوس إنك تعلم ما نخفي وما نعلن، ولا تخفى عليك خافية في الأرض ولا في السماء تعلم دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، تعلم عدد قطر السحاب، وذرات الرمال، ونجوم السماء، وحيتان البحار، وأوراق الأشجار.
جاءنا ابنك ورسولك عيسى فدعانا إلى الإيمان والحب والرحمة وعمل الخير والإصلاح والزهد في الدنيا والتعلق بك والإنابة إليك، أيها الآب القدوس السماوي، فأجبناه واتبعناه ولما طغى أعداؤوك إخوان القردة والخنازير، المعتدين في السبت، القائلين عنادا لك واستخفافا بأمرك، عوضا عن حطة، حنطة، المدبرين الزاحفين على استاههم، مخالفة لأمرك إذ أمرتهم أن يدخلوا الباب سجدا، الخاذلين لموسى وهارون، الشاربين من النهر الذي نهيتهم من الشرب منه، لما طغوا عاقبتهم للمرة الأخيرة فأجليتهم وطهرت منهم هذه البلاد المباركة فخرجوا منها، ليتحقق سخطك عليهم وغضبك، من تلقاء أنفسهم لا خيل تسوقهم، ولا رجل تلجئهم، وتشتتوا لينفذ أمرك، في كل غور ونجد ونحن كل نجم. من ذلك العهد، أيها الأب السماوي ونحن حافظون لأوامرك في هذه البلاد المقدسة، نطعم الطعام ونقري ضيوفك وحجاج الأرض المقدسة، من أي جنس كانوا ونكرم وفادتهم ونحيطهم بعنايتنا وحفاوتنا إلى أن يرحلوا عنا قافلين إلى أوطانهم.
وأنت تعلم أن الروم الذين كانوا حكموا هذه البلاد عند وقوع الفاجعة في ابنك المقدس مالئوا اليهود وأعانوهم على إطفاء نورك، ومحاولة الوقوف أمام أمرك وإرادتك. فانتقمت من الفريقين، فأجلیت اليهود وشتت شملهم، وخذلت الروم وأخرجتهم من أرضك المقدسة.
ثم قامت دولة إخواننا العرب وطلع نجمهم وعلا كعبهم بمشیئتك وإذنك، وأنت وحدك، يا مولانا، تعلم ما أصابنا من الهلع والخوف منهم، وإن كانوا أبناء جلدتنا لمخالفتهم لنا في الدين وظننا أنهم سيسلكون معنا سبيل اليهود المشركين في الانتقام ممن يخالف في الدين ولكننا توكلنا عليك وفوضنا أمرنا إليك، واتبعنا وصية ابنك عيسى. ولما انتصر العرب على الروم، على يد خالد بن الوليد القائد العربي الباسل وأبي عبيدة زحفوا بجنودهم إلى بلدنا وحاصرونا في المدينة المقدسة وكنا نسمع أن خليفتهم عمر بن الخطاب يحب العدل ويصدق في الوعد. فأبينا أن ننزل إلا على حكمه، بل وبمشافهته. وأنت تعلم يا مولانا وأبانا، أن هذا الشرط من قوم ضعفاء مثلنا كان غير معقول، وقد استغثنا بك فختمت على ألسنة قواد العرب وأجابونا إلى طلبنا.
ورحل عمر من الحجاز على بعيره إلى أن أتانا، ففتحنا له أبواب المدينة وقد رأى آباؤنا وأجدادنا للفاتحين، ما رأوا ولا سمعوا بفاتح مثل عمر، دخل على بعيره متواضعا يمشي بلا طبل ولا زمر ولا شرطة ولا حجاب، ثم نزل وأخذ يسير في طرق بیت المقدس کسائر الناس، ثم اجتمع فأسقفنا ووضع يده ورافقه مرافقه الأخ لأخيه وأظهر له كل العطف والرفق والملاطفة. وكتب لنا عهدا بأننا آمنون في أنفسنا وأموالنا وبيعنا وكنائسنا ورسوم ديننا وجميع أمورنا.
ومن ذلك العهد بها الأب السماوي، ونحن نعيش مع إخواننا العرب المسلمين إخوة متحابين متوالين. ومن بقي معنا من بقايا يهود لم نزل نعاملهم بالعدل والإحسان وبقينا على هذا العيش الصافي 13 قرنا ونصف تقريبا وقعت في أثنائها الحروب الصليبية التي أثارتها أطماع المدعين للنصرانية من الأوربيين الغاشمين ولما رأيناهم كاذبين في دعواهم ظالمين غاشمین مخالفين لسنة سيدنا المسيح لم تنفذ النصرانية إلى قلوبهم بل لا يزالون في الحقيقة على وثنياتهم نابذناهم وبقينا على عهد ناصع إخواننا المسلمين العرب فهزمتَهم وطهرت الأرض منهم وكفيت شرهم.
ثم لما كانت الحرب الكبرى بين الأوربيين ودخلت فيها الدولة العثمانية لشقاء أهل هذا الشرق الأدنى وأصابنا من لهبها وأوارها تسلط علينا البريطانيون ومن يوم رأينا وجوههم الشقر المحترقة وشعورهم الشعل النارية وأعينهم الزرق السنورية، مارأينا خيرا ولا رحمة. لم تزل دماؤنا تسيل وأموالنا تنهب، وأعراضنا تهتك وزادوا على ذلك أن أزمعوا على أعدائك اليهود الذين شتت شملهم وضربت عليهم الذلة والمسكنة إلى الأبد، فصرنا بين نارين نار اليهود الأرجاس ونار البريطانيين.
وأنت وحدك أيها الأب السماوی، تعلم کم تجرعنا من الغصص، وقاسينا من الآلام منذ نحو عشرين سنة. فهذه ديارنا أمامك منسوفة خاوية على عروشها. وهذه أشلاء أبنائنا ورجالنا بل وأطفالنا ونسائنا ملقاة على الأرض في كل مكان. وهذه جنود أعداء الرحمة البريطانيين الهمج يعيثون فسادا وخلفهم كلابهم اليهود، صيروا بلدنا أتونا حاميا. وصيرونا بعد الأمن في خوف دائم، لا نعرف للراحة طعما، ولا نذوق النوم إلا غرارا، ولا يأمن منا أحد على حياته. في كل وقت ننتظر غارة جديدة من هؤلاء المجرمين، بدون ذنب ولا جريرة. هذا ويزعمون أنهم نصارى متتبعون لوصايا ابنك عیسی وأنت تعلم أنهم كاذبون وأنهم من أخبث الوثنيين أعداء دينك والمحاربين لالاتك والمفسدين بين أبناءك المقتلين لهم والناهكين لحرمات أبنائك والناصرين لدجاجلة اليهود، اللهم أهلكهم ودمر عليهم وأرسل عليهم بأمرك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. اللهم طهر هذا البلد المقدس منهم كما طهرته من اليهود والروم قبلهم، أو من الصليبيين إخوانهم، وأنعم علينا يا ربنا بعود الأمن والعافية والرحمة إلى أرضنا كما كنا من قبل اللهم إن البريطانيين استخفوا بأمرك، ونجسوا أرضك المقدسة، وأرادوا إطفاء نورك ومحو آثار ابنك القدوس عیسی وإحلال نجاسات اليهودية محلها. اللهم اقطع دابرهم واكفنا شرهم يا غياث المستغيثين ومجير المستجيرين وأرحم الراحمين أمين.
بن (جرمانية) 7 محرم 1358
تقي الدين الهلالي
صحيفة الشباب، العدد: 139-99-434 – السنة 3 – الأربعاء 8 صفر 1358 هـ – 29 مارس 1939. (ص:1)