للعلامة السلفي المستقل الأستاذ الشيخ محمد عبد القادر الهلالي
كتب إلي صديق من أهل جنوب وهران بما نصه:
قد أطلعنا على مقالتكم التي أدرجت في مجلة “الشهاب” ونحب أن أسألك سؤال متعلم يريد الاطلاع على الحقيقة لا سؤال متعنت يريد الجدال: هل أردتم بقولكم في مقالتكم إن الطرقيين(؟) غنم الشيطان الإطلاق ولو كان هذا الطرقي متبع غير مبتدع سالك عارف بحالة البدعة وبخوافي الشرك يريد في ذلك جواباً شافياً؟ إن شاء الله من عندكم عزماً والذي حملني على ذلك هو أننا اجتمعنا ذات ليلة في دار فلان بن فلان فتداولنا هذا الكلام وقعت بعض معارضة منهم على مقالتك وحيث أنا أيضاً لم يظهر لي ما أقول سكت وظني بك أنك إن شاء الله لا تقول إلا الصواب، فلأجل ذلك سألتك اه.
الجواب والله الموفق للصواب.
ظنك أني لا أنطق إلا بالصواب يا أخي خطأ عظيم ومن هذا الظن جاء البلاء للمسلمين. فإن أكثر الناس إذا أحبوا رجلا وظهر لهم كماله في علم وعمل بالغوا في حسن الظن به حتى خرجوا إلى الغلو والإطراء واعتقاد العصمة فيه، فإياك أن تعتقد وجود شخص بعد نبينا ﷺ لا ينطق إلا بالصواب ويكون مخالفة رأيه خطأ في كل جزئية، قال مالك رحمه الله: كل واحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا صاحب هذا القبر. وأشار إلى الحجرة النبوية. وقال الشافعي رحمه الله لبعض أصحابه: انظروا في هذه الكتب فإني هذبتها جهدي ولا بد أن يوجد فيها خطأ، يأبى الله أن يسلم من الخطأ كتاب إلا كتابه لقوله تعالى: “ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا”. فانظروا في كتبي فما وجدتم فيها مخالفاً لكتاب الله وسنة نبيه فاضربوا به عرض الحائط، ذكره أبو شامة وغيره. وقال مالك أيضاً: إنما أنا بشر أصيب وأخطئ فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وكل ما خالف فاتركوه.
وقال مالك رحمه الله أيضا: ليس كلما قال الرجل قولا وإن كان له فضل يتبع عليه لقول الله تعالى: “فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه” ذكر الحكم الثلاث عن مالك الإمام ابن عبد البر وغير واحد. فإذا كان أكابر الأئمة يقولون ما تقدم وهم هم فما بالك بمثلي في قلة عمله وإزجاء بضاعته؟ فإياك أن تظن في أحد بعد النبي ﷺ أنه لا يقول إلا الصواب. فما من أحد بعده عليه السلام إلا وقد أصاب في بعض المسائل وأخطأ في بعضها وأسعدهم من غلب صوابه على خطئه. ويميز بين الخطأ والصواب بعرض ما اشتبه فيه على الوحيين: الكتاب والسنة، فما وافقهما صواب وإلا فهو خطأ.
وقد اشتبه عليك وعلى من ذكرت قولي أن الطرقيين والقبوريين غنم الشيطان وأنا شارحه لك فأقول: معناه أنهم يتبعون خطوات الشيطان في بدعهم التي ابتدعوها كتفرقهم في الدين واتخاذ كل طائفة لقباً مخصوصاً ومعبداً مخصوصاً ويتخذون شيخهم إلها ونبياً معاً. أما اتخاذهم إياه إلها فلأنهم يصرفون له خالص عبادتهم فإذا مسهم الضر في البحر أو البر لا يدعون لكشف ضرهم إلا شيخهم ولا يتوكلون في تفريج الكربات إلا عليه ويحبونه أكثر من حبهم الله. والدليل على ذلك أن أحدهم لو سمع سب الله والاستهزاء بدينه فإنه لا يغضب مثل ما يغضب إذا نيل من شيخه. وإذا سئل بالله منع أو أعطى قليلا وإذا سئل بشيخه عظم عليه المنع جداً فربما يؤثر على نفسه ابتغاء مرضاة شيخه. وينشط لقضاء نذور شیخه ما لا ينشط عشره لأداء فرائض الله. ويحلف بالله كاذباً ألف مرة ولا يحلف بشيخه مرة كاذباً. ولو سوى الواحد منهم شيخه بالله في هذه العبادات لكان مشركاً فكيف إذا جعل النصيب الأعظم منها لشيخه وربما يجعلها كلها له، على أنه لو جعل منها مثقال ذرة لغير الله كان شركا وحبط عمله. قال تعالى: “ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون” “لئن أشركت ليحبطن عملك”. وقال النبي ﷺ: قال الله تعالى: “أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه”. ولو لم يكن عند الطرقية إلا مسألة الاستمداد لكفت وحدها لجعلهم غنم الشيطان، لأن المدد قسمان: حسي ومعنوي، فالمعنوي: الهداية وزيادة الإيمان وانشراح الصدر به انشراحاً تاماً حتى يصل صاحبه إلى درجة اليقين ثم حق اليقين ثم عين اليقين وهذه مرتبة الصديقين. والحسي البسطة في الجسم والمال والبنين ونحو ذلك. ومن استمد شيئا من ذلك من غير الله فقد أشرك بربه ولم يقدره حق قدره. قال تعالى: “ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير… إلى خبير” وقال سبحانه: “والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء… إلى ضلال” وقال: “وابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له” وقال تعالى: “يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له… إلى عزيز” وفيما عندك الكتب ما يغني عن الإطالة. وأما اتخاذهم إياه نبياً في المعنى فإنه يشرع لهم عبادات محددة العدد بغير تحديد الرسول، مؤقتة بغير توقيت الرسول، ويبشرهم ببشائر لا أصل لها في الدين ولم ترو عن النبي ولا عن أحد من السلف، وينذرهم بضروب من الوعيد كذلك، ويزعم أنه علمه الله ذلك بغير واسطة النبي ﷺ، على غير الطريق الذي أخذ منه الصحابة علمهم والتابعون والأئمة، فإن أولئك إنما أخذوا علمهم من الشريعة التي هي الكتاب والسنة.
وقد تبلغ الضلالة ببعضهم أن يقول إذا قال علماء الرسوم: حدثني أبي عن جدي، قلنا: حدثني قلبي عن ربي. ومرادهم بعلماء الرسوم أمثال سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم. فيعارض الشيخ المعتوه قول سالم: حدثني أبي عبد الله عن جدي عمر بن الخطاب عن النبي ﷺ، بقوله فيما يتخيله ويوسوس له به شيطانه بعد أن يدخل رأسه في مأتقته كما قال الإمام ابن الجوزي، فتعتريه الأعراض الودادية فيخرج رأسه ويقول: حدثني قلبي عن ربي. فيعارض الأحمق بهذا الهذيان السمج البارد حديثا مثل حديث سالم عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ. ومثل حديث علي زين العابدين عن أبيه الحسين عن جده علي عن النبي ﷺ وعليهم. ومثل حديث مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ. ولا يكفيه ذلك حتى يذم تلك الأحاديث الصحاح التي كأنك تسمعها من النبي ﷺ، فيسميها رسوماً وظاهراً وقشوراً ويسمي هذيانه حقيقة ولباباً وباطناً. ويقول مفتخراً معجباً: أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً. أما غنمه أو أتباعه فكل ما خرج من بين شفتيه عندهم فهو كأنه تنزيل من حكيم حميد لا يحتاج إلى نظر ولا استدلال، وكيف يعرض اللباب على القشور؟ قشر الله جلود المبتدعين في النار. وبذلك أعرض الناس إلا من رحمه الله عن الكتاب والسنة الذين أوصانا بهما نبينا وأخبر أن من تركهما ضل وخاب وخسر فقال: “تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله”، رواه مالك وغيره عن النبي ﷺ، وهو حديث حسن وله شواهد كثيرة. وقال لي رجل من أهل أرباوات: إذا ماتت شاة من غنمي فذلك بتصرف شيخي، وإذا زادت شاة فبتصرفه.
وهل أوقع الناس في الضلال البعيد فأفسد عليهم عقولهم وأديانهم وأموالهم فأذلهم الله وأهانهم وصاروا ضحكة للعالمين إلا انتشار الطرائق؟.
أما قولك: ولو كان الطرقي متبعاً غير مبتدع عالماً بخفايات الشرك فهو عجيب، إذ كيف يتصور أن يكون طرقياً وهو كذلك؟ لأن مبنى الطريقة أي طريقة على التسليم للشيخ على كل حال، وأن يكون المريد عنده كالميت عند مغسله، وأنشدوا:
وكن عنده كالميت عند مغسل
يقلبه ما شاء وهو مطاوع
ويقولون: إذا رأيت امرأة دخلت على شيخك فقم سخن له الماء، فإذا رآه يفسق بزنا أو قذف أو يسرق لم ينهه عن المنكر ولم يقم عليه الحد، فينقلب المنكر معروفا متى فعله إلهه. فبالله أي ضلال أعظم من هذا؟ وأي عقل أو دين يبقى مع ذلك؟ كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون.
واعلموا أنه ليس هنالكم طريقة توصل إلى رضا الله إلا طريق رسول الله الذي كان عليه وكان عليه أصحابه والتابعون والأئمة كالحسن والسفيانين والسعيدين والشعبي والأوزاعي ومالك والليث والشافعي وأحمد وأصحاب الأمهات الست، وابن وهب وابن أبي شيبة وابن خزيمة وإسحاق وأبي ثور وداود بن علي ومن اتبعهم بإحسان من أهل الحديث رحمهم الله وسلك بنا سبيلهم، وإنما تؤخذ طريقتهم بالتلقي منهم أو الأخذ من كتبهم المتواترة ما رووه عن المعصوم وهي كثيرة مشروحة واضحة والحمد لله. فما اتفق عليه العلماء فهو الحق لا يسوغ خلافه، وما اختلفوا فيه يعمل فيه يقوله تعالى: “فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول” حتى قال العلماء: الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول بعد وفاته هو الرد إلى حديثه. وبقوله تعالى: “وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله” إلى قوله: “ولا تتفرقوا فيه” فهذه طريقة النبي ﷺ وأصحابه والتابعين لهم بإحسان. فمن التزمها فهو أخونا كائناً من كان ومن أباها وخالفها فنحن نبرأ إلى الله منه كائناً من كان. والحمد لله رب العالمين.
كتبه في 23 رجب سنة 1346
محمد تقي الهلالي المدرس بالمسجد النبوي
مجلة الشهاب – السنة 3 – العدد 136 – ص:4