هذه السلسلة في الميزان
بقلم الأستاذ الدكتور تقي الدين الهلالي
سلسلة محكمة الحلقات من تاريخ الأدب المغربي يؤلفها وينشرها الأديب النابغة الأستاذ عبدالله گنون. وقبل أن أبتدئ في نقد هذه المؤلفات وتقریظها ينبغي أن أذكر شيئا من التعريف بالمؤلِّف ليستفيد من لا يعرفه حق المعرفة من أهل الشرق وغيرهم من أهل الآفاق البعيدة عن المغرب.
كنت في البلاد الجرمانية في مدينة – بُنْ – أولا، ثم في برلین ثانية، فكانت الأخبار تترى علي عن عبدالله گنون. وكان الحاملون لها أناسا مختلفي المشارب والطباع والأذواق من جميع الطبقات، ولكنهم جميعا اتفقوا على فضله ونبله. فاشتقت إلى الاتصال به لأَخبره وأعرفه عن كثب، فقدر لي أن أتوجه إلى المغرب سنة 1361، ولقيت هذا الرجل في بلده طنجة وفي تطوان، وعرفت حاله حق المعرفة فوجدته أحسن وأجلّ مما وصفه الواصفون.
كانت منافثَةُ الرُّكْبان تخبرني ** عن جعفر بن فلاح أطيب الخبر
ثم التقينا فلا والله ما سمعت ** أُذني بأحسن مما قد رأى بصري
فلا تكاد تلتمس خلة من خلال النبل ولا خصلة من خصال الفضل إلا وجدته متصفا بها. فقد جمع بين خصال الشيوخ من سعة العلم والأدب وكمال العقل والمروءة وبعد النظر وسداد الرأي والرزانة والحلم والوقار إلى خلال الشباب من النشاط والحزم وفكاهة الحديث وحسن المحاضرة وطرافة النكتة، مع صحة العقيدة والكرم والشهامة والوطنية الموزونة بميزان الشرع المحمدي المكتسبة من القرآن وسيرة الرسول، لا من العصبية الجاهلية الأولى ولا الآخرة؛ متوسط القامة إلى الطول أميل أبيض صبيح الوجه نحيف الجسم لا يلتزم زيا بعينه، فصيح اللسان له شِعْر يصل فيه أحيانا إلى حد الإبداع، وله نثر منسجم مرصع بجواهر النكت ولطائف المُلَح، إلا أنه قد يشوبه بالعبارات العصرية التي ينفر منها الأسلوب العربي الخالص، ثم إن ارتكابه لهذه العبارات ناشئ عن اختيار واستحسان لا عن عجز أو جهل بالقواعد اللغوية فإنه فيها نسيج وحده (ولكل وجهة هو موليها)، وبعبارة أخرى فهو من الأدباء الذين يذهبون إلى التجديد المطلق، وللناس فيما يعشقون مذاهب.
وله تآليف غزيرة العلم جيدة التأليف حسنة السبك (أَعُدُّ منها ولا أُعَدِّدُها) منها: تاريخ المغرب مختصر للمدارس المغربية وشرح الشمقمقية وشرح مقصورة المكودي وتعليق على ديوان ابن زاكور؛ وأهمها كتاب النبوغ المغربي الذي جمع فيه ما لا يوجد في كتاب واحد من تاريخ الأدب والأدباء والشعر والشعراء مع الإلمام بتاريخ الحوادث العامة والسياسية والنقد الصحيح لكل ما يعرض له. وقد قسم هذا الكتاب إلى عصور متباينة وتوسع ما أمكنه في تراجم المبرزين من الأدباء والشعراء، ونشر هذا الكتاب في مجلدين من ماله الخاص لم يساعده على ذلك أحد لا حكومة ولا جماعة ولا أفراد من الأمة؛ بل وجد هذا الكتاب في أمته من يحاربه ولكن جهود المحاربين كانت كالزبد الذي يذهب جفاء فانتشر الكتاب برغم أنوفهم وترجم باللغة الإسبانية ومنحته إحدى الجامعات الإسبانية عليه لقب دكتور شرفا، وتلقاه مؤرخ الأدب العربي الأكبر في هذا العصر بلا نزاع، الأستاذ کارل بروکلمان الألماني تلقاه بالإعجاب والثناء العاطر.
ولما تولى الأستاذ كنون إدارة المعهد الخليفي للباحثين الذي أسس في تطوان سنة 1356، وجد الفرصة سانحة لنشر كتابه «ذكريات مشاهير رجال المغرب»، الذي لا يقل أهمية عن كتاب النبوغ المغربي، فبدأ يخرجه في أجزاء صغيرة، ولكنها أجمل طبعة، وأكثر تأنقا وأدق نظاما مفردا لكل عالم وكل أديب جزءا خاصا يشتمل على سيرته ومخلفاته الأدبية من منظوم و منثور مع البحث والتحليل الأدبي والتاريخي الدقيق الذي يقال فيه: (أعط القوسَ باريها).
ولا يجب أن يكون مصيبا في جميع آرائه فتلك صفة استأثر بها كتاب الله . قال الشافعي رحمه الله: أبى الله أن يسلم من النقص إلا كتابه؛ قال تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا). ولكن كل من قرأ هذه السلسلة من أهل الفن المُنْصِفين يشهد له بالبراعة في النقد والإصابة في أغلب المسائل، وذلك أقصى ما يطمع فيه البشر. وقد بلغ ما نشر من هذه الأجزاء خمسة عشر فمُلِئَتُ إعجاباً بها وأكبرت هذه الهمة الشماء، ولم أكن من قبل أجهَلُها. وإن دنيا الأدب لفي أشد الحاجة إلى بعث هؤلاء النوابغ وإخراج كنوز آدابهم من تحت أنقاض البلي والإهمال في تلك الحلة القشيبة من قرطاس أبيض ناصع وحروف واضحة وطبع متقن. على أن في تصحيحه نقصاً لم يستطع الفاضل أن يتجنبه، ولا أظن أن ذلك ينشأ عن تهاون أو قصور ولكنه نتيجة انحطاط الثقافة اللغوية في البلاد العربية بأسرها؛ وقد يتغاضى هذا الأستاذ الناقد أحياناً عن الخرافات الملتصقة بالأدب المغربي الذي تخدش وجهه الجميل مع أنه بعيد عن العقائد الخرافية بُعْدَ الثريا من الثرى لأن الجمهور لا يزال يخبط في ظلماتها. ولعله لم ير في الإمكان أبدع مما كان. ثم إنه لم يرتب هذه السلسلة على العصور فيبدأ بالمتقدم فالمتقدم في الزمان أو المتأخر فمن دونه ولم يرتب أولئك الرجال على درجاتهم في الكمال. فلا أدري ماذا قصد في ترتيبهم والخطب في ذلك يسير.
وإني لأهنئ الباحثين في الأدب المغربي وتاريخه بهذا العمل المبرور والسعي المشكور أولاً، ثم أهنئ المؤلف ثانياً بما أتاح الله له من خدمة الأدب والتاريخ وخصه بهذه المزية دون أبناء جلدته؛ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
بغداد في العاشر من السادس من 1371هـ.
تقي الدين الهلالي
من كتاب: ذكريات مشاهير رجال المغرب في العلم والأدب والسياسة. ص:130