(8)
39- من الأخطاء الشائعة في هذا الزمان قولهم يستهدف كذا أو يهدف إلى كذا يريدون أنه يقصده ويتخذه هدفاً ولم تستعمله العرب بهذا المعنى، قال صاحب اللسان: الأزهري روى شمر بإسناد له أن الزبير وعمرو بن العاص، اجتمعا في الحجر فقال الزبير: أما والله لقد كنت أهدفت لي يوم بدر، ولكني أستبقيتك لمثل هذا اليوم فقال عمرو: أنت والله لقد كنت أهدفت لي وما يسرني أن لي مثلك بضرتي منك، قال شمر: قوله أهدفت لي، الإهداف الدنو منك، والاستقبال لك والانتصاب يقال أهدف لي الشيء فهو مُهْدِف وأهدف لك السحاب والشيء إذا انتصب، ثم قال: وفي حديث أبي بكر قال له ابنه عبد الرحمن لقد أهدفت لي يوم بدر، فضفت عنك، فقال أبوبكر لكنك لو أهدفت لي لم أضف عنك، أي لو لجأت إلي، لم أعدل عنك، وكان عبد الرحمن وعمرو، يوم بدر، مع المشركين وضفت عنك أي عدلت انتهى.
ومن ذلك تعلم أن استعمال العرب للإهداف والاستهداف في واد واستعمال المعاصرين لهما في واد آخر، فالعرب تقول أهدف الشيء واستهدف بمعنى قرب وانتصب وصار أمامك كالهدف الذي تتمكن من رميه إذا كان قريباً ومنتصباً أمامك، أما استعمال المعاصرين فإنه يريدون به القصد إلى الشيء ومما يزيد ذلك وضوحا، قول العلماء من ألف فقد استهدف أي نصب نفسه هدفا للمنتقدين يَرْمُونه بسهام نقدهم، وكان قبل ذلك مستوراً، وقول أبي بكر رضي الله عنه لابنه عبد الرحمن: لكنك لو أهدفت لي لم أضف عنك أي لو تمكنت من قتلك ما أبقيت عليك، دليل على قوة إيمانه وتحقيقه لقوله تعالى في سورة التوبة الآية (24) ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ فهذه المحبوبات الثمانية، إذا لم يكن معها حب الله ورسوله تلقي صاحبها في الهلكة وإذا كان معها حب الله ورسوله، وقع التنازع بين الحبين، الصديقون والصالحون لا يبالون بهذه المحبوبات وهي المذكورة في الآية وهي: الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والتجارة والمساكن الطيبة، إذا تنافت مع حب الله ورسوله، فيقدمون حب الله ورسوله عليها، ولذلك قال الصديق لابنه عبدالرحمن (لكنك لو أهدفت لي لم أضف عنك) ولا شك أن الصديق كان يحب ابنه عبد الرحمن لأن حب الولد من طبيعة البشر وغير البشر، ولكن لما التقيا في الحرب: أبوبكر ينصر الله ورسوله، وابنه عبد الرحمن كان ينصر الشرك، ويوالي أعداء الله كان أبو بكر عازماً أن يقتله، لو عرض له، وتمكن من قتله، ترجيحا لحب الله تعالى، على حب غيره، وهذه المحبوبات الثمانية، هي عقبات في سبيل الإيمان الكامل الذي يفوز صاحبه برضوان الله تعالى، ويسعد السعادة الأبدية. وكم فتنت هذه المحبوبات من الناس إذا تغلب حبها عندهم على حب الله ورسوله، والجهاد في سبيله، فخسروا، وضلوا ضلالا بعيدا.
40- ومن الأخطاء التي جاءتنا بها الترجمة الفاسدة وهي من استعمار اللغات الأجنبية لغتنا العربية قولهم، فلان يؤدي واجبه نحو الله وواجبه نحو وطنه وواجبه نحو أبنائه وما أشبه ذلك، والصواب أن يقال فلان يؤدي حقوق الله الواجبة عليه وحقوق المواطنين، وحقوق الأبناء. وهكذا يقال في الكلام الفصيح عندما يقول من أحسنت إليه، لك علي فضل، هذا من حقك عليّ، هذا واجب لك عليّ، والكلمة التي أوقعتهم ترجمتها في هذا الخطأ في اللغة الإنجليزية مثلا Toward وفي كل من اللغة الألمانية والفرنسية كلمة تؤدي معناها، وأساليب هذه اللغات ونثرها ونظمها متقارب في الغالب، كما أن نظم العربية وأخواتها كالعبرانية والسريانية متقارب. وسبب وقوع مثل هذه الأخطاء، أن المترجم يكون متمكنا من اللغة الأجنبية، ضعيفا في اللغة العربية، يترجم كلمة بكلمة والمترجم الكامل يقرأ الجملة من اللغة التي يترجمها، ويستوعب معناها في ذهنه، ثم يصوغ لها جملة فصيحة في اللغة التي يترجم بها حتى إذا قرأ القارئ العربي كتابا مترجما، لا يشعر أنه مترجم حتى يُخْبَرَ بذلك، كما نرى في ترجمة ابن المقفع لكتاب كليلة ودمنة وترجمة البنداري للشاهنامة.
41- ومن الأخطاء الشائعة استعمالهم كلمة بالرغم أو على الرغم في غير موضعها فيقولون مثلا: حضر فلان الاحتفال بالرغم من كونه مريضا، أو بالرغم من كثرة أشغاله. والآن ندرس ما قاله الأئمة في استعمال الكلمة: قال صاحب اللسان: الرغم مثلثة الراء: الكره والمرغمة مثله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بُعِثْتُ مَرْغَمَةً للمشركين) المرغمة: الرغم أي: بعثت هوانا وذلا للمشركين. ثم قال ابن الأعرابي: الرغم: التراب، والرغم: الذل، والرغم: القسر. وفي الحديث: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُه أي، ذل. وفي حديث معقل بن يسار: رغم أنفي لأمر الله، أي: ذل وانقاد، وتقول فعلت ذلك على الرغم من أنفه انتهى، وهذا الاستعمال الصحيح لهذا اللفظ إذا فعلت شيئا وهناك من يكرهه تقول فعلت ذلك على رغم أنفه فإما أن يراد بذلك بقصد أن أذله، وعبر بالأنف لأن المستكبر يشمخ بأنفه، أي يرفعه عزا وتكبرا، انتهى.
فخفض الأنف وإلصاقه بالتراب، وإذلاله ضد شموخه وهو رفعه، فلذلك يعبر برغم الأنف عن الذلة والإهانة والقسر والإكراه وبشموخ الأنف عن الرفعة والتكبر. أما قوله: حضر الاحتفال برغم كثرة أشغاله. مثلا، فهو استعمال فاسد، مأخوذ من الترجمة الفاسدة لكلمة Onsefite وفي كل من الفرنسية والألمانية كلمة تشبه هذه الكلمة في المعنى، والاستعمال العربي الصحيح أن يقال فلان حضر الاحتفال مع كثرة أشغاله، أو مع كونه مريضا، وتستعمل على، في موضع مع، قال تعالى في سورة البقرة الآية (177) ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾. الآية، أي أعطى المال مع حبه له، ولا يقال بالرغم من حبه له، كما يقوله من يأخذ إنشاءه من الصحف والإذاعات، وقال تعالى في سورة الرعد الآية (6) ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ﴾. وقد استشهد ابن هشام في المغنى بآية البقرة وآية الرعد على أن (عَلَى) فيهما للمصاحبة بمعنى مع، ولا يقال ولو في خارج القرآن وإن ربك لذو مغفرة للناس بالرغم من ظلمهم، وقد تبين معنى على، وبقي علينا أن نذكر تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾.
فقد يتوهم متوهم أن المعنى: أن الله يغفر للناس مع استمرارهم على الظلم، ظلم بعضهم لبعض، وذلك باطل، قال الحافظ ابن كثير في تفسيره، وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم، أي أنه تعالى ذو صفح وستر للناس مع أنهم يظلمون، ويخطئون بالليل والنهار. ثم قرن هذا الحكم بأنه شديد العقاب، ليعتدل الرجاء والخوف كما قال تعالى: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ انتهى.
ومثل آية البقرة، قوله تعالى في سورة الإنسان، رقم (8) ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ أي مع حبهم له ولا يقال في خارج القرآن فلان يطعم الطعام المساكين بالرغم من حبه له أو بالرغم من قلة ما عنده منه.
42- ومن الأخطاء الشائعة في هذا الزمان في الصحف والإذاعات وعلى ألسنة الناس قولهم القطاع الزراعي والقطاع الصناعي ويضيفون إلى ذلك خطأ آخر فيجمعونه على قطاعات والمصدر الأول لهذه الكلمات، هي إذاعة لندن، ومنها سمعت ما يلي: والملونون في بريطانية يشكلون قطاعا كبيرا من عمال النقل فالقطاع عندهم يطلق على جماعة من الناس، يجمعهم عمل واحد ولم تستعمل العرب القطاع بهذا المعنى البتة، وسنرى ما يقوله أئمة اللغة، فقد وجدنا القطاع بكسر القاف يجيء مفردا، ويجيء جمعا فأما المفرد فقال فيه ابن منظور: والقِطاع والقَطاع، أي بكسر القاف وفتحها صرام النخل مثل الصرام والصِّرام والصَّرام بكسر الصاد وفتحها انتهى. قال محمد تقي الدين: وهو مأخوذ من القطع لأن الصارم يقطع العثاكيل، وهي في النخل بمنزلة العناقيد في الكرم، وهو شجر العنب، وأما الجمع، فقال فيه إنه جمع قِطْع بكسر القاف وسكون الطاء وهو السهم وما تقطع من الشجر، وقطع الليل طائفة منه والبساط والطنفسة تكون تحت الراكب، وضرب من الثياب الموشاة وقطيع الغنم أيضا يجمع على قطاع إلى غير ذلك من المفردات التي تجمع على هذا المعنى والقطع والقطعة والقطيع والقطع والقطاع طائفة من الليل تكون من أوله إلى ثلثه. وقيل للفزاري: ما القطع من الليل، فقال حزمة تهورها أي قطعة تحزرها ولا ندري كم هي والقطع ظلمة آخر الليل، ومنه قوله تعالى: ﴿ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ﴾ قال الأخفش بسواد من الليل، والصواب أن يقال بدل القطاع الزراعي، والقطاع الصناعي، القسم الزراعي والقسم الصناعي، وأن يقال بدل قولهم: الملونون في بريطانيا يشكلون قطاعا كبيرا من عمال النقل. والملونون في بريطانيا يؤلفون جماعة كبيرة من عمال النقل. والعرب تعبر بالجماعة والطائفة والفريق والجمع، ولا تعبر بالقطاع وكذلك تعبر بالأمة، قال تعالى في سورة الأحزاب رقم (13) ﴿ وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ﴾ والطائفة هنا جماعة من المنافقين وقال تعالى في سورة الصف رقم (14) «﴿ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ﴾» وقال تعالى في سورة آل عمران رقم (113) ﴿ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴾ وقال تعالى في سورة الأعراف رقم (30) ﴿ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ﴾.
43- ومن التراكيب الركيكة الفاسدة لفظا ومعنى، وهي استعمارية بلا ريب مأخوذة ترجمة حرفية من اللغات الأجنبية قولهم منحتهم السماء كذا وكذا فإسناد المنح إلى السماء فاسد عقلا ونقلا ولغة، أما عقلا فإن السماء لا تعطي ولا تمنع، وليست سببا في الإعطاء حتى يقال إن الإسناد إليها مجاز عقلي كما في قولهم أنبت الربيع البقل، وبنى الأمير المدينة، لأن السببية في هذين المثالين ظاهرة، أما قولهم منحتهم السماء فليس كذلك، والأوربيون ينسبون الأشياء إلى السماء في لغاتهم، ويدعونها ويستغيثون بها كما يفعلون مع الله تعالى، ومع المسيح وأمه، ومن العجائب التي تستنكرها عقول الموحدين وأذواقهم، أنهم إذا أصابهم فزع يهتفون قائلين: يا أم الله، ومقصودهم بذلك مريم الصديقة. فإذا قلنا لهم: إن الله لا أم له ولا أب، يشمئزون ويغضبون ولا يصلح أن يكون قولهم منحتهم مجازا عقلياً بالنسبة إلى المسلم لأن المسلم يعتقد أن السماء لا تمنح شيئاً وليست سبباً للمنح كما في بنى الأمير المدينة فإن السبب في بنائها هو الأمير لأنه أمر العملة ببنائها. والحقيقة العقلية هي إسناد الفعل أو ما في معناه إلى ما هو له في اعتقاد المتكلم كقول المؤمن: أنبت الله البقل، وأنزل الله المطر. وكقول الكافر: أنبت الربيع البقل، وأنزلت السماء المطر. فقول النصارى في عيسى وأمه، إنهما يعطيان ويمنعان! كقول الكافر: شفى الطبيب المريض!، فهو إسناد حقيقي، لأن الكافر يعتقد أن الطبيب هو الفاعل الحقيقي، والنصارى يعتقدون عيسى وأمه إلهين. والمجاز العقلي كقول المؤمن أنبت الربيع البقل، وشفى الدواء المريض لأنه يعتقد أن الله هو الذي أنبت البقل، والربيع سبب، وأن الله هو الذي شفى المريض، والدواء سبب، ومن المجاز العقلي قول الشاعر – وهو أبو النجم:
قَد أَصبَحَت أُمُّ الخَيارِ تَدَّعي
عَليَّ ذَنباً كُلُّهُ لَم أَصنَعِ
مِن أَن رَأَت رَأسي كَرَأسِ الأَصلَعِ
مَيَّزَ عَنهُ قُنزُعاً عَن قُنزُعِ
جَذب اللَيالي اِبطِئي أَو اِسرِعِ
والدليل على أنه مجاز قوله بعد ذلك:
أَفناهُ قيلُ اللَهِ لِلشَمسِ اِطلعي
حَتّى إِذا داراكِ أُفقٌ فَاِرجِعي
هذا الشعر من مشطور الرجز وهو لأبي النجم العجلى وأم الخيار زوجته، وكانت تعيب عليه صلع رأسه لكبر سنه وكانت ابنة عمه بدليل قوله في موضع آخر من القصيدة:
يا اِبنَةَ عَمّا لا تَلومي وَاِهجَعي
لا تُسمِعيني مِنكِ لَوماً وَاِسمَعي
يَمشي كَمَشيِ الأَهدَإِ المُكَنَّعِ
أَلَم يَكُن يَبيضُ إِن لَم يَصلُعِ
فهي تعيب عليه شيخوخته وما يلازمها من الإحناء والإكباب فإن الأهدا هو الذي يمشي منحنيا مكبا كأنه راكع، والمكتع المتقبض: يقول يا ابنة عمي لا تلوميني على كبر سني وضعفي وصلع رأسي فإنه لو لم يصلع وبقى فيه شعره لصار أبيض بالشيب، وأنت تكرهين رؤية الشيب، كما تكرهين الصلع. فالشاهد في قوله ميز عنه قنزعا عن قنزع، جذب الليالي أي فرق شعر الرأس حتى صار قنازع مجموعة شعيرات هنا، أخرى هناك، جذب الليالي: اختلافها ذهابا ومجيئا، يعني أن سبب الصلع كثرة الليالي التي مرت عليه، حتى طعن في السن فإسناد ميز إلى جذب الليالي من المجاز العقلي، لأن الشاعر لا يعتقد أن شيخوخته هي التي جعلته أصلع وإنما هي سبب الصلع، والفاعل الحقيقي هو الله سبحانه بدليل قوله فيما بعد: – أفناه قيل الله للشمس اطلعي يعني أفني شعر رأسه قول الله للشمس اطلعي كل يوم – وقوله حتى إذا واراك أفق فارجعي، دليل قطعي على أن العرب من قديم الزمان وإن لم يشتهروا بتعاطي العلوم بل كانوا أمة أمية أكثرهم لا يكتبون ولا يقرؤون، كانوا يعرفون أن الأرض كرة وأن الشمس حين تغيب عن قوم تكون مشرقة عند قوم آخرين لأنها لم تنعدم، وإنما سترها أفق، أي جانب من الأرض، وأن الله هو الذي أمرها بذلك، كما كانوا يعلمون أن المطر ينشأ سحابا من البحر حتى إذا علا السحاب في الجو وبرد، ساقته الرياح إلى الأرض التي يريد الله أن ينزل فيها المطر فينزل المطر، بقدرة الله يدلك على ذلك قول شاعرهم:
شَرِبْنَ بِماءِ الْبَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَت
مَتى لُجَــجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئِيجُ
قال الخضري في حاشيته على شرح الألفية لابن عقيل ما نصه: قوله شرب الخ… ضمنه معنى روين فعداه بالباء أو هي بمعنى مِن التبعيضية، واللجج من لجة بالضم، وهي معظم الماء، ونئيج: بنون فهمزة فياء فجيم، كصهيل أي صوت عال، وجملة لهن نئيج: حال من نون شربن العائد للسحاب، لزعم العرب والحكماء أنها تدنو من البحر الملح في أماكن مخصوصة منها خراطيم عظيمة كخراطيم الإبل، فتشرب من مائه بصوت مزعج ثم تصعد في الجو فيلطف ذلك الماء ويعذب بإذن الله تعالى في زمن صعودها في الهواء ثم تمطره حيث شاء الله تعالى اهـ.
حكاية الخراطيم التي ذكر للسحاب وأنها تدنو من البحر في أماكن مخصوصة فتشرب بصوت عال تدل على أن الخضري لم يفهم قول الحكماء، والذي قاله الحكماء: هو أن ماء البحار يتبخر بحرارة الشمس فيصعد في الجو بخارا فإذا بلغ أعالي الجو برد ثم نزل مطرا كما تقدم، وقول الخضري يلطف ويعذب يريد أنه يصفى من الأملاح، فيصير ماء عذبا صالحاً للشرب ولسقي الأشجار والنباتات، وقد أخبرني بعض الإخوان في الكويت أن الماء الذي يصفى في معامل التصفية، يصير عذبا كماء المطر ولكنه لا يصلح لسقي الزرع والأشجار إلا إذا مزج بماء الآبار وهذا، إن صح، يدلنا على أن السر الكامن في تصفية الله تعالى والفرق بينها وبين تصفية الإنسان بالآلة والصنعة أما العذوبة أما العذوبة فهي كماء المطر ولا فرق وقد شربت الماء المصفى بالآلات في مطار الظهران بالمملكة العربية السعودية فوجدته كما ذكرت، ولله في خلقه شؤون.
مكناس: تقي الدين الهلالي
مجلة دعوة الحق: العدد 113 (العدد 1 – السنة 12) – شعبان 1388هـ – نوفمبر1968م – ص: 57-60.