سمعنا في هذه الأيام الإذاعات المحورية تردد بجميع اللغات كلمة “مصر للمصريين”. وهذه الكلمة حلوة في آذاننا، لأنها حق، والحق يحلو سماعه. ونسأل الله أن يقر أعيننا وأعين إخواننا المصريين بتحقيقها، هذا ما نقوله نحن وأما درسها واعتبارها فهو من حق المصريين وحدهم.
قال لي صاحبي وهو يحاورني ويشاغبني: لماذا لم يقولوا أيضا المغرب للمغاربة؟
فقلت: أي المغارب تعني فقد صارت ويا أسفاه مغارب، بعدما كانت مغربا واحدا؟
فقال: أما عندي أنا فلم تزل كلها مغربا واحدا وهو للمغاربة وحدهم.
فقلت: ويحك، فمن أنت حتى يكون لك (عند) لقد ذكرتني ببيت قديم يحق لي أن أورده فيك وهو:
يقولون هذا ليس بالرأي عندنا *** و من أنتم حتى يكون لكم عند
فقال: لي (عندي) ولك (عندك) {إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي}.
فقلت: صلاة الله وسلامه عليك، متى نزل عليك الوحي؟
فقال: لو غيرك قالها يا أبا شكيب… ألا تعلم أن الوحي بمعناه اللغوي ليس خاصا بالأنبياء بل ولا ببني آدم؟ ألا تقرأ قوله تعالى: {و أوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا}.
فقلت: اللهم غفرا، صدقت ولعمري إنك في اللغة والأدب لفقيه وإنك بهما لخبير. ولكنك في السياسة قاصر. أما تعلم أن لكل مقام مقالا، وأن لكل شيء سببا داعيا؟
قال: أجل، فما سبب جعل مصر للمصريين دون أن يكون المغرب للمغاربة؟
فقلت: سبب ذلك فيما أرى أن مصر بيد بريطانية ولو كان المغرب بيدها أيضا لسمع تلك الكلمة بجميع اللغات.
فقال: وما دليلك على ذلك؟
فقلت: دليلي أن هذه الكلمة العذبة قد سمعها العراق والشام ومعهما فلسطين وسمعها الهنود وكلهم بيد البريطانيين.
فقال: فالمغرب بيد فرنسة، وهي شر كما زعمت أنت في مقال نشرته من بريطانية ألف مرة.
فاعترتني حدة لقوله زعمت فقلت: كأنك لم تصدقني،
فقال: لم أكذبك. والعرب تقول زعمت دون أن تقصد التكذيب، كما تقولها مع التكذيب.
قلت: قد قال الشافعي رحمه الله: كل زعم في كتاب الله فهو باطل. قال تعالى: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا}.
فقال: صدق الشافعي. ذلك في القرآن. وقد ورد في الحديث وكلام العرب استعمال زعم بدون قصد التكذيب. فدع الحدة وأخبرني لماذا لم تهتم دول المحور بالمغرب، مع أنه يعاني شرا مما تعاني البلدان التي في يد بريطانية ؟
فقلت: لأن المغرب في يد فرنسة. وفرنسة اليوم منهدمة مطحونة (مخلي دار بوها) لا يعبأ بها ولا بما تحت يدها. والعبد وما كسب لسيده.
فقال: آه، ما أبلدني، الآن عرفت. سامحني يا أخي لقد أتعبتك.
فقلت: سامحك الله. وعلى كل حال فإن تحرير بلدان إخواننا العرب والهنود إذا تم يسرنا كثيرا. وقد قال الصوفية: الناجي منا يأخذ بيد صاحبه وإن لم يأخذوا بأيدينا فقد قال الشاعر:
حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا *** خراش وبعض الشر أهون من بعض
هذا ولم تقتصر دولتا المحور على التصريح باستقلال مصر بل ضمتا إليها السودان أيضا. وقالتا إن هذا الاستقلال لن يكون مقيدا أعزل كالاستقلال الذي أعطته إياها بريطانية. بل يكون مطلقا ومعززا بجيش مسلح يحمي الحمى، ولو كان المغاربة اليوم في يد بريطانية بدلا من فرنسة لم يكن لهم بد من الصلي بنار الحرب. وهم قوم يحبون العافية على حال، ويفضلونها على الغنيمة.
فقال لي صاحبي: وهل سلم المغاربة من ويلات الحرب؟ ألم تقدم فرنسة رجالهم وأموالهم طعمة لحربها الخاسرة؟ ثم رجعت عليهم بعد كسرتها فأكلت ما بقي بأيديهم ولا تزال تنهب حتى الآن. فيا ويلتي من فرنسة إن غلبت ويا ويلتي منها مرتين إن هزمت وغلبت فهي بئس القرين. من قرن معها لا يفارقه الشقاء أبدا حتى تفارقه الحياة أو تفارقه فرنسة.
ثم قال لي صاحبي: الآن تذكرت لك مسألة عويصة فاشدد حيازيمك للجواب.
فقلت: هات مسألتك ولا أدعي أني بكل شيء عليم. فإن كان عندي جواب قلته، وإلا فإن “لا أدري” دائما حاضرة عندي لا يشق علي أن أقولها.
فقال: ما تقول في بلاد الشام التي سماها الترك في عهدهم سورية تبعا للفرنج، لو بقيت بيد الفرنسيين، هل كانت توعد اليوم بالاستقلال أم لا؟
فقلت : يا أخي من أين تأتي بهذه المعضلات؟ لقد عنيتني وأتعبتني بمسائلك. وما لنا وللجواب عن الفرضيات المقدرة؟ حسبنا أن بلاد الشام الآن بيد بريطانية. وقد وعدت وستوعد بالاستقلال كما وعد جيرانها وكفى.
فقال: دع الروغان. أنا لا أطلب منك أن تنظر إلى اللوح المحفوظ فتخبرني به، كما يزعم بعض المتصوفين المستقطبين أنه يفعل ذلك. قل رأيك في هذه المسألة كما قلته في غيرها.
فقلت: أما إذ أبيت إلا أن تسمع رأيي فدونكه، وأنا بريء من المهدة، {إن أظن إلا ظنا وما أنا من المستيقنين}. في ذلك تفصيل، فأما لو اتفقت فرنسة التي كانت ملتهمة بلاد الشام مع دولتي المحور وحمت بلاد الشام بسيفها من غزو بريطانية فإن بلاد الشام لا تسمع من الوعود إلا ما سمعه المغرب أي لا تسمع شيئا. هكذا يقتضي القياس وهو يصيب ويخطيء.
قال: وما رأيك في مستقبل المغرب، فقلت:
و أعلم ما في اليوم والأمس قبله *** ولكنني عن علم ما في غد عم
جريدة الحرية: العدد 795 السنة 6 – 22 جمادى الثانية 1361 – 7 يوليه 1942 – ص 1