دين الحق لا يتنافى ولا يتعارض أبدا مع السنن الكونية لأن مصدرهما واحد، وهو مشيئة الله وحكمه الذي لا معقب، فمن أراد أن يحارب السنن الكونية باسم الدين كانت عاقبته الهزيمة، ومن الأمثلة على ذلك سنة التزاوج والتناسل التي سنها الله للحيوان والنبات، فمن أراد أن يعطلها زاعما أن تعطيلها من الدين ومما يتقرب به إلى الله يعجز ويقهر، ولا يتم له ما أراد أبدا، ويجني على نفسه وعلى من اتبعه شقاء عظيما في جسمه وعقله دون أن يحصل على طائل، ولا تنحصر الجناية في من انتحل ذلك ولا في أتباعه، بل تعم شعبه.
فقد زعم النساك من قدماء أهل الهند أن ترك الدنيا والزهد فيها هو الطريق الوحيد الذي يهذب النفس ويزكيها ويرفعها إلى الملأ الأعلى، فتركوا العمل والتزموا الجوع والعري، واعتزلوا الناس واستوحشوا منهم وسكنوا القفار مع الوحش وهجروا الأمصار وأطالوا الفكرة، وكانت أفكارهم عقيمة، نتائجها سلبية، فمنها القول بتناسخ الأرواح، وحاصله أن الأرواح محدودة لا تزيد ولا تنقص، سواء في ذلك أرواح الحيوان الناطق وأرواح الحيوان الأعجم، فمتى مات موجود حي انقلبت روحه من ذلك الجسم الفاني إلى جسم ناشئ يولد ساعة خروجها من الجسم الفاني، فكأنهما كانا على ميعاد، ولما رأوا أن العدالة الربانية التي عليها تقوم السموات والأرض والتي هي مقتضى حكمة الله وعلمه وقدرته، فكروا كيف يكون هذا الجزاء، فلم يجدوا حلا للمعضلة إلا أن يدّعو دعوى خيالية أخرى، وهي أن جزاء كل حياة من الحيوات التي يحياها الإنسان ويعبر عنها بالتجسدات تترقى فيها الروح في الدرجات العليا، أو تهبط إلى الدركات السفلى، على حسب عملها، فإن عملت في الحياة الأولى أي التجسد الأول عملا صالحا بحسن معاملتها للإنسان والحيوان، وتجنبت السيئات والآثام تنتقل بعد فناء جسمها إلى طبقة من طبقات البشر هي أجل وأعلى من الطبقة التي كانت فيها جزاء حسنا ومثوبة على عملها الصالح في الحياة المتقدمة وتفوز برضوان الآلهة، وإن اقترفت السيئات وخرجت عن شريعة الآلهة تعاقب في حياتها التالية بأن ترجع إلى الدنيا في جسم من طبقة منحطة حقيرة، وإن استمرت في ارتكاب الموبقات يستمر عقابها حتى تصل إلى دركة المنبوذين، وإن زادت في غيها تنحط حتى ترجع إلى الدنيا في جسم حيوان شريف كالفرس مثلا، فإن لم تنته عن جرائمها ترجع إلى الدنيا في جسم حيوان حقير، وهكذا دواليك حتى تصل إلى دركة الفيران، وربما انحطت إلى دركة الخنافس.
والطبقات عند الهنادك كثيرة، أعلاها طبقة البراهمة، فهؤلاء يولدون مقدسين من بطون أمهاتهم، وكل ما عملوه فهو حق، لا تكتب عليهم سيئة واحدة طول أعمارهم، وإذا ماتوا تلتحق أرواحهم بالملأ الأعلى، وليت شعري إذا كان عدد الأرواح محدودا فمن أين يجيء المدد الذي يخلف الطبقة العليا التي لا ترجع إلى الدنيا، وأسفل الطبقات طبقة المنبوذين، ولا يجوز أن تخالط طبقة عالية طبقة أخرى أسفل منها، فلا تؤاكلها ولا تشاربها ولا تجالسها ولا يجمعهما معبد واحد، فكل طبقة لها معابدها، ولا يجوز للطبقة السفلى أن تتزوج بأفراد الطبقة العليا، ولا أن تأكل أو تشرب في آنيتها، ولا أن تمس طعامها، والمسلم عندهم يعتبر نجسا إذا مس طعاما تنجس ذلك الطعام، وأذكر أني كنت متجولا في أسواق دلهي عاصمة الهند في أول سفرة سافرتها إلى الهند، فرأيت في حانوت كوما من الزبيب الذي ليس له نوى ويسمى عندهم(كشمش)، فأهويت بيدي لألمس ذلك الزبيب، وقبل أن تصل يدي إليه جذبت من خلفي جذبة قوية حتى سقطت على ظهري، فقمت وسألت الطالب الذي كان يرافقني من جذبني؟ فقال لي: أنا جذبتك خوفا عليك من أن تقع في مشكلة عويصة يعسر عليك حلها، انظر إلى صاحب الحانوت فهو غضبان يصيح ويشتم، ولو وقعت يدك عليه لألزمك بثمنه كله،
وكنت مرة في مدينة بمبي وهي مدينة مشهورة بناحية كجرات، وكان الوقت ليلا فرأيت قلة منتصبة فلمستها بيدي فغضب صاحبها وصاح صياحا كثيرا ورأيته أخذ القلة وصب الماء الذي كان فيها مع أني لم ألمس إلا جانبها، ولا أدري هل كسرها أو انتفع بها بعد غسلها، ومما يدل على الأول أن المتصدقين بالماء البارد من الهنادك في محطات السكة الحديدية يعدون آنية صغيرة بقدر ما يشرب الشخص الواحد من الخزف ويصبون الماء فيها لكل من يحتاج إليه من غير أهل طبقتهم، ومن شرب في إناء منها إن شاء أخذه، وإن لم يرده ألقاه لأن ذلك الهندكي لا يمسه بعد ذلك، فإن انقضت تلك الأواني وجاءه شخص من غير أهل طبقته يصب له الماء في يديه، هذا كله مع الطبقات المتنجسات تنجسا خفيفا من إخوانهم الهنادك أو من المسلمين والنصارى،
وأما الطبقة المنبوذة فأمرها أدهى وأمر، فلا يجوز لأهلها أن يسكنوا في مدينة ولا قرية، وإنما يتخذون أكواخا بعيدة من المدن ويسكنون فيها ويحفرون آبارا يشربون منها وإن كان بقربهم نهر عظيم تسير فيه السفن، لأنهم لا يسمح لهم بأخذ الماء منه لئلا يتنجس، وبحكم هذه العزلة والاستقذار الذي حكمت به الآلهة بزعمهم لا يجد المنبوذون عملا، مع أن عددهم ثمانون مليونا، فإن قلت وبما يعيشون؟ فالجواب أنهم يعيشون بنقل النجاسات من بيوت الخلاء في جوف الليل، ويخرجونها إلى مكان بعيد من المدينة فيحرقونها ويأخذون أجورا على ذلك يأتيهم بها شخص في كل شهر فيعطيهم إياها،
ولعل القراء الكرام لا يعلمون أن أهل الهند حتى في المدن الكبيرة ليس عندهم مراحيض إلا في النادر، فترى الديار الكبيرة الجميلة من بيوت الأغنياء المترفين فإذا سألت عن بيت الخلاء يدلونك على مكان قد بني فيه شبه الكوانين التي توقد فيها النار، وفي كل واحد منها إناء عليه غطاء يكشفه ويتخلى فيه ثم يغطيه، ولهذا المكان بابان، باب إلى داخل الدار وباب إلى الشارع، وهذا الباب الذي إلى الشارع له قفل ومفتاح يكون دائما عند المنبوذ ليأتي في جوف الليل ويفتح ذلك المكان ويخرج كل ما فيه ويجعله في عربة النجاسات ثم يغسل الأواني ويردها إلى مواضعها، وهذا شيء عام في جميع بلاد الهند، وسبب منع المنبوذين من دخول المدن نهارا هو نجاسة أجسامهم التي بلغت إلى حد أن ظل المنبوذ لو وقع على طعام لنجسه، وهذا الأمر ليس مفروضا على المنبوذين من قبل الطبقات العليا فقط، بل المنبوذون أنفسهم يعتقدون أنه أمر مبرم حكمت به الآلهة عليهم، للذنوب التي ارتكبوها في التجسدات السالفة ولا مرد لحكمها.
وقد حاول غاندي أن يغير هذه العقيدة ويطهر المنبوذين وزعم أنه نزل عليه الوحي يأمره بذلك، وقرر القول في مقالات نشرها في الصحيفة التي كان يصدرها واسمها (هرجان) وقال فيها: فإن طلبتم مني دليلا على أن الله أوحى إلي بذلك، أجيبكم ليس عندي دليل ولكني لا أشك في ذلك أبدا، ومع أن غاندي كان من الطبقة المقدسة وهي البراهمة، وكان وطنيا مخلصا متعبدا زاهدا في الدنيا، قضى جل حياته في سجون الاستعمار لم يقبل منه الهنادك هذه الدعوى، لأنها تفسد عليهم دينهم وتأتي بنيانه من القواعد وتجعل عاليه سافله.
وحاول الدكتور امبدكار وأصله من المنبوذين وقد كفر بعقيدتهم وتعلم حتى حصل على شهادة الدكتوراه، حاول أن يقنعهم ببطلان عقيدة التنجس ويفهمهم أنهم بشر كسائر البشر فلم يفلح، ولا يزال الدعاة من المسلمين والنصارى يدعونهم إلى تغيير عقيدتهم فيستجيب لهم من قدر له منهم أن يخرج من ذلك الشقاء، إلا أن دعوة المسلمين أكثر نجاحا، لأن المنبوذ إذا أسلم يمتزج مع المسلمين في الحين ويستطيع أن يخالط جميع المسلمين في مساجدهم ومدارسهم ومجالسهم لا يترفع عليه أحد منهم وإن كان ملكا أو أميرا، أما النصارى فقد يستقذر بعض الأروبيين مجالسة المنبوذين والصلاة معهم في كنيسة واحدة فيأمرونهم ببناء كنائس خاصة بهم.
ومما حدث من قبيل دعوة المسلمين المنبوذين إلى الإسلام أن أحد علماء المسلمين عكف على دعوة جماعة من المنبوذين وأقام عندهم زمانا طويلا يشرح لهم فضل الإسلام وبطلان ما هم عليه حتى هداهم الله جميعا فأسلموا واحتفلوا بيوم إسلامهم فخرجوا من أكواخهم رجالا ونساء وصبيانا، وقد حمل كل واحد منهم قلة وانطلقوا إلى النهر وهم يكبرون الله أكبر الله أكبر، حتى ملئوا القلل وحملوها على أكتافهم ورجعوا إلى بيوتهم فرحين مستبشرين، يحمدون الله الذي أزال عنهم تلك اللعنة وطهرهم وهداهم إلى الإسلام.
وقد جرتهم عقيدة التناسخ إلى عقيدة أخرى تضاهيها في الفساد والشر وهي تحريم ذبح الحيوان وأكل لحمه مخافة أن يكون ذلك الحيوان قد حلت فيه أحد أجدادهم، فلا يجوز عندهم قتل أي حيوان وإن كان مؤذيا كالقردة مثلا، ولذلك ترى القردة تسير في مدن الهند أسرابا وتتسلق جدران البيوت وتنزل إلى السطوح وتخيف النساء والصبيان، وتفسد كل ما وصلت إليها أيديها من طعام وثياب وغير ذلك.
وقد اتفق أني كنت في الهند ساكنا في مدينة لكناو طبعت خمسمائة غلاف بعنواني، وكانت موضوعة في غرفة فجاءت القردة وفتحت نافذة الغرفة فدخلت وأخذ كل واحد منها قبضة يده من الأغلفة وخرجوا بها وألقوها في الهواء، فتشتت في كل مكان من المحلة التي كنت أسكنها، فجمع أهل المحلة ما أمكن جمعه منها وجاءوني به، ومن أذاها للناس أنها تجتمع بالمآت عند قبة صنم لتنال من صدقات الزائرين من عباده، ولما كان القراء الكرام لا يعرفون الأصنام لأنهم لم يشاهدوها أرى من المستحسن أن أصف لهم هذا الصنم، فهو تمثال رجل واقف على قدميه عليه ثيابه وعمامته وله لحية وافرة سوداء ووجهه أبيض مشرب بحمرة يظن الرائي أنه حي، وقد جلس عنده ناسك وهو عريان أسود الجسم نحيله جدا، حتى كأنه هيكل عظمي، فيجيء الزائر ويسجد لذلك الصنم سجدة واحدة ثم يقوم ويقدم النذر أو الصدقة لذلك الناسك وينصرف فيتصدق على القردة بما تيسر له من الطعام، وهذه القردة تقطع الطريق على المارة فمتى رأت شخصا يحمل طعاما، والعادة جارية بأن الموظفين يبعث إليهم الطعام من بيوتهم وقت الظهر، متى رأت القردة شخصا يحمل طعاما وليس عنده ما يدافع به عن نفسه هجمت عليه وخمشته بأظفارها وانتزعت منه ذلك الطعام، ولا يستطيع المسلمون أن يمسوا القردة بسوء خوفا من نقمة الوثنيين الذين يدافعون عن كل حيوان ويمنحونه حمايتهم ورعايتهم مخافة أن يكون أحد أجدادهم قد تقمص جسمه، ولذلك لا يستطيع أحد أن يظهر لحم الحيوان، لأن الهنادك لا يستطيعون رؤيته، ومن أجل ذلك صارت المجزرة في بلدانهم يحيط بها سور، ولكل باب من أبوابها دهليز طويل حتى لا تقع عين هندكي على لحم يقطع أو يباع.
ومما يتصل بهذا ويحسن ذكره هنا عبادتهم للبقرة وتقديسهم لها فمتى بلغهم ولو كذبا أن المسلمين أو النصارى ذبحوا بقرة أعلنوا عليهم الحرب، وأزهقت بسبب ذلك نفوس كثيرة، والبقرة تشعر بذلك فتراها لا تسير إلا في الرصيف، ولا تسير في قارعة الطريق كسائر الحيوان، ومتى مرت بصاحب دكان وقفت ونظرت إليه، فإن كان وثنيا خرج إليها وقدم الحلوى وقبّلها وتمسح بها، ومن عادة المتمسكين بالدين عندهم أنهم يخلطون خثي البقرة بتراب مقدس عندهم ويضعونه خطا على جباههم للتبرك والحفظ، أخبرني بذلك المسلمون حين سألتهم عن تلك الخطوط التي كنت أراها على جباه المشركين، وهذه العقيدة ليست قديمة جدا عند الوثنيين من أهل الهند، فقد ثبت في التاريخ أن راما وهو أعظم آلهتهم كان ملكا وكان يصيد الحيوان، وقد بلغ من تعظيمهم لرام أنهم جعلوا اسمه تحية، فمتى التقى اثنان منهم يرمرم كل واحد منهما للآخر بقوله (رام) فيحييه الآخر بمثل ذلك.
وكان أبو العلاء المعري على هذه العقيدة، فإنه لم يأكل اللحم أربعين سنة، وزعم أن ذبح الحيوان وأكل لحمه وبيضه وشرب لبنه كل ذلك عدوان وظلم، وهذا يدل على جهله بالسنن الكونية، وذلك أن الله جلت قدرته وبلغت حكمته جعل استمداد الحياة من الحياة، فجعل غذاء الحيوان من الحيوان ومن النبات في البر والبحر ولن تجد لسنة الله تبديلا، وكل ما يأكله ويشربه الإنسان والحيوان مملوء بأنواع الحيوان من الجراثيم التي لا ترى بالبصر، فكل حيوان آكل ومأكول، والإنسان الذي هو أشرف الحيوان يأكله الدود، وهو من أحقر الحيوان، وليس في قدرة الإنسان أن يمتنع من استهلاك الحيوان، فتورع أبي العلاء عن أكل لحم الحيوان تورع باطل وفلسفة فاسدة، فالأنبياء هم أعلم الناس وأرحمهم وأورعهم كانوا يأكلون اللحم، بل الله وهو أرحم الراحمين أباح لجميع الناس أكل اللحوم والانتفاع بلبن الحيوان وبيضه وصوفه ووبره وشعره وجلده، فمن أراد تعطيل تلك المنافع فقد سفه نفسه وأراد تغيير سنة الله ولن يجد إلى ذلك سبيلا، وقد أخبرني المسلمون في الهند أن كثيرا من الهنادك يأكلون اللحم سرا، فيكلفون أصدقاءهم من المسلمين أن يشتروا لهم اللحم ويأتوهم به خفية، وهكذا كل من أراد أن يبدل سنة الله أهلك نفسه ولم يحصل على طائل..
فلم يضرهـا وأوهـى قرنه الوعـل *** كناطـح صخـرة يوما ليـوهنهـا
نبذة من التصوف الهندي الوثني
جاء في كتاب مقارنة الأديان للدكتور أحمد شلبي صفحة 70 ما نصه مع تغيير الألفاظ الركيكة: (إن أعلى ما يرغب فيه البرهمي هو الفناء في برهما (وهو إله الآلهة عندهم) والفناء فيه، والطريق الموصل إلى هذا الغرض هو الزهد والتقشف المفرط بالصوم وأرق الليل وتعذيب النفس وحرمانها من كل ما تشتهيه وتحميل المرء نفسه أنواع البلاء، ويبدو دائما كثير الهموم والخوف والتشاؤم وهو لا يتمنى الموت لأن الموت ينقله إلى دورة جديدة من دورات حياته كما تقدم في ذكر تناسخ الأرواح بل يرجو لنفسه الفناء في برهما، ومن ذلك حفلت حياة نساك الهند الوثنيون بالبؤس ومحاربة الملاذ بترك الاكتساب والاكتفاء بسؤال الناس عند الضرورة القصوى، وفي كتبهم المقدسة عندهم ما معناه أن الذي تغلب على نفسه فقد تغلب على حواسه التي تقوده إلى الشر، والنفس لا تشبع أبدا بل يزداد جشعها بعد أن تنال مشتهاها، فالذي أوتي كل ما يشتهي وأعطى نفسه هواها فقد أهلكها وأشقاها، أما الذي ترك كل ما تشتهيه نفسه، وتخلى عن الدنيا فقد أنقذ نفسه وقادها إلى السعادة، على طالب العلم أن يهذب نفسه بأن يتجنب الحلوى واللحوم والروائح الطيبة والنساء، وكذلك يجب عليه ألا يدلك جسده بما له رائحة طيبة، ولا يكتحل ولا يلبس حذاء ولا يتظلل من الشمس، وعليه أن لا يهتم برزقه بل يحصل رزقه بسؤال الناس، وعندما تدخل في الشيخوخة عليك بالعزلة وعدم قرب النساء والأهل والإقامة في الغابة، وإذا أقمت في الغابة فليس لك أن تقص شعرك ولحيتك وشاربك ولا أن تقلم أظفارك، وليكن طعامك مما تنبته الأرض وتثمره الأشجار، ولا تقطف الثمر بيدك بل كل منه ما سقط من الشجرة، وعليك بالصوم تصوم يوما وتفطر يوما، وإياك واللحم والخمر عوّد نفسك على تقلبات الفصول فاجلس تحت الشمس المحرقة، وابق أيام المطر تحت السماء، وارتد الرداء المبلل في الشتاء، لا تفكر في الراحة البدنية، اجتنب سائر الملذات، نم على الأرض ولا تأنس بالمكان الذي أنت فيه، إذا مشيت فامش حذرا حتى لا تتخطى عظما أو شعرا، وحتى لا تطأ حشرة، وإذا شربت الماء فاحذر أن تبتلع بعوضة أو نحوها، لا تفرح باللذيذ ولا تحزن للرديء).
يقول كاتب هذا الحديث محمد تقي الدين الهلالي: عجبا للبراهمة يتورعون عن بلع البعوضة مع الماء الذي يشربون، وعن الوطء على النمل بأقدامهم حين يمشون، أما سفك دماء المسلمين رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا فإنه عندهم من أقرب القربات التي ترضي آلهتهم، وتصعد أرواحهم إلى الملأ الأعلى.
كنت في لكنو عام 1343 ضيفا عند الدكتور محمد نعيم الأنصاري فوقعت معركة بين المسلمين والمشركين واستمرت ثمانية أيام، وتعطلت الأسواق وعجزت الشرطة التي يدير شؤونها الإنجليز عن إخماد نار تلك الفتنة، فإنهم كانوا يركبون بأعداد كبيرة في السيارات ولا يضعون شيئا، لأن الشرطة أيضا وإن كانوا تحت القيادة الإنجليزية فأكثرهم وثنيون والقليل منهم مسلمون، وجعل أغنياء الوثنيين عشر ربيات لكل من يأتيهم برأس مسلم أو مسلمة سواء أكان شيخا أو شابا، رجلا أو امرأة أو صبيا، صحيحا أو مريضا، فبقينا تلك المدة ليس لنا طعام إلا العدس، مع أن الدكتور الأنصاري كان يعيش معيشة المترفين، وكان غاندي موجودا، وكان له أتباع وأنصار وتلامذة في تلك المدينة فلم يهتم هو ولا غيره من البراهمة بإزهاق أرواح المسلمين، والمسلمون في مدينة لكنو لا يزيد عددهم على ربع سكانها، فقتلوا تقتيلا وكان الذين بدأوا بالعدوان وأوقدوا نار الحرب هم الوثنيين، وهذا يذكرنا بقول ابن عباس رضي الله عنهما لأهل العراق حين سألوه عن المحرم يقتل بعوضة ماذا عليه، فقال لهم: عجبا لكم يا أهل العراق سفكتم دم الحسين ومن معه من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ولم تتورعوا عنه ثم جئتم تسألونني عن قتل البعوض، ولا حاجة لنا إلى ذكر الماضي، فحوادث هذه الأيام فيها كفاية، فكلنا يعلم أن الدولة الوثنية الهندية التي تدين بدين البراهمة هجمت على خمسة وسبعين مليونا في باكستان الشرقية وأعملت فيهم السيف والقنابل والإحراق والتعذيب تحت سمع الدنيا وبصرها، فلم يغثهم أحد لا من المسلمين ولا من غيرهم، وهاهم يسرحون ويمرحون ويملون شروط الصلح على من بقي من المسلمين في باكستان الغربية، فقبح الله من زعم أن هذا عصر النور والحرية والمساواة وفي مثله ينبغي أن ينشد:
فـأقـد منهـا حافرا للأدهـم *** يا ليت لي مـن جلد وجهك رقعـة
اقتفاء جهلة المتصوفة آثار الهنادكة في تعذيب أنفسهم
من المعلوم أن الوثنيين في الهند لا يؤمنون بالأنبياء فعقائدهم ناشئة عن الجهل والرعونة فلا يستغرب منهم ذلك، والعجب كل العجب من قوم نشئوا في بلاد الإسلام في زمان كانت البلاد الإسلامية مشرقة بأنوار الكتاب والسنة ورايات الإسلام منصورة وأيامه في أيامهم مشهورة، ومع ذلك تركوا الكتاب والسنة وسيرة السلف الأمة واقتدوا بالبراهمة في تنسكهم السخيف، وسأورد هنا ما يتسع له المقام من حكاياتهم المضحكة المبكية.
الحكاية الأولى
ابن الكريتي ومرقعته، قال الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس على الطوائف المختلفة بسنده إلى نصر عبد الله السراج ذكر عن ابن الكريتي وكان أستاذ الجنيد أنه أصابته جنابة وكان عليه مرقعة ثخينة فجاء إلى شاطئ دجلة والبرد الشديد فحزنت نفسه عن الدخول في الماء لشدة البرد فطرح نفسه في الماء مع المرقعة ولم يزل يغوص ثم خرج، وقال عقدت ألا أنزعها عن بدني حتى تجف عليّ فلم تجف عليه شهرا، ثم روى الحكاية بسند آخر إلى الجنيد قال سمعت أبا جعفر ابن الكريتي يقول: أصبت ليلة جنابة فاحتجت أن أغتسل وكانت ليلة باردة فوجدت في نفسي تأخرا وحدثتني نفسي لو تركت حتى تصبح يسخن لك الماء أو تدخل حماما وإلا اعبأ على نفسك، فقلت واعجبا أنا أعامل الله في طول عمري يجب على حق لا أجد المسارعة إليه، وأجد الوقوف والتباطؤ والتأخر، آليت لا أغتسل إلا في نهر وآليت لا أغتسل إلا في مرقعتي هذه، وآليت لا أعصرها وآليت لا أجففها في شمس أو كما قال، ثم قال ابن الجوزي: وكان وزن كُم هذه المرقعة وحده أحد عشر رطلا، قال محمد تقي الدين الهلالي الرطل اثنتا عشرة أوقية، والأوقية أربعون درهما، فإذا كان كُم المرقعة يزن أحد عشر رطلا، والكم الثاني مثله يصير الكمان فقط اثنين وعشرين رطلا، ونسبة الكمين إلى الجبة كلها نجعلها ربعا فيكون وزن الجبة ثمانية وثمانون رطلا، فإذا غمست في الماء يعلق بها من الماء مثل ذلك.
ونترك التعليق للحافظ ابن الجوزي، قال الحافظ ابن الجوزي بعد ذكر هذه الحكاية التي رواها بإسنادين اثنين ما نصه: وإنما ذكر للناس أني فعلت الحسن الجميل وحكوه عنه ليبين فضله، وذلك جهم محض لأن هذا الرجل عصى الله سبحانه وتعالى بما فعل، وإنما يعجب هذا الفعل العوام الحمقى لا العلماء، ولا يجوز لأحد أن يعاقب نفسه، فقد جمع هذا المسكين لنفسه فنونا من التعذيب .. إلقاؤها في الماء البارد، وكونه في مرقعة لا يمكنه الحركة فيها كما يريد، ولعله قد بقي من مغابنه ما لم يصل إليه الماء لكثافة هذه المرقعة، وبقاؤها عليه مبتلة شهرا وذلك يمنعه لذة النوم، وكل هذا الفعل خطأ وإثم وربما كان ذلك سببا لمرضه.
الحكاية الثانية
وحكى أبو حامد الغزالي عن ابن الكريتي أنه قال: نزلت في محلة فعرفت فيها بالصلاح فنشب في قلبي أي شعرت بأنني من الصالحين الذين يستحقون التعظيم، فدخلت الحمام فرأيت ثيابا فاخرة فسرقتها ولبستها ثم لبست مرقعتي وخرجت فجعلت أمشي قليلا قليلا، فنزعوا مرقعتي وأخذوا الثياب وصفعوني، فصرت بعد ذلك أعرف بلص الحمّام فسكنت نفسي، قال أبو حامد: فهكذا كانوا يرضون أنفسهم حتى يخلصهم الله من النظر إلى الخلق ثم من النظر إلى النفس وأرباب الأحوال، وربما عالجوا أنفسهم بما لا يفتي به الفقيه مهما رأوا إصلاح قلوبهم، ثم يتداركون ما فرط منهم من صورة التقصير كما فعل هذا في الحمّام.
قال الحافظ ابن الجوزي بعد ذكر هذه الحكاية: سبحان من أخرج أبا حامد من دائرة الفقه بتصنيفه كتاب الإحياء فليته لم يحك فيه مثل هذا الذي لا يحل، والعجب منه أنه يحكيه ويستحسنه ويسمي أصحابه أرباب أحوال، وأي حالة أقبح وأشد من حال من يخالف الشرع ويرى المصلحة في مخالفته، وكيف يجوز أن يطلب صلاح القلوب بفعل المعاصي وقد عدم في الشريعة ما يصلح به قلبه حتى يستعمل ما لا يحل فيها، وهذا من جنس ما تفعله الأمراء الجهلة من قطع من لا يجب قطعه وقتل من لا يجوز قتله ويسمونه سياسة، ومضمون ذلك أن الشريعة ما تفي بالسياسة، وكيف يحل للمسلم أن يعرض نفسه لأن يقال له سارق، وهل يجوز أن يقصد وهن دينه ونحو ذلك عند شهداء الله في الأرض، ولو أن رجلا وقف مع امراته في طريق يكلمها ويلمسها ليقول فيه من لا يعلم هذا فاسق لكان عاصيا بذلك، ثم في مذهب أحمد والشافعي أن من سرق من الحمّام ثيابا عليها حافظ وجب قطع يده، كلا والله إن لنا شريعة لو رام أبو بكر الصديق أن يخرج عنها إلى العمل برأيه لم يقبل منه، فعجبي من هذا الفقيه المستلب عن الفقه بالتصوف أكثر من تعجبي من هذا المستلب الثياب.
الحكاية الثالثة
قال ابن الجوزي بسنده إلى أبي الحسن المديني أنه سمعه يقول: خرجت مرة من بغداد إلى نهر الناشرية، وكان في إحدى قرى ذلك النهر رجل يميل إلى أصحابنا، فبينا أنا أمشي على شاطئ النهر، رأيت مرقعة مطروحة ونعلا وخريقة فجمعتها وقلت هذه لفقير، ومشيت قليلا فسمعت همهمة وتخبطا في الماء فنظرت فإذا بأبي الحسن الثوري قد ألقى نفسه في الماء والطين وهو يتخبط ويعمل بنفسه كل بلاء، فلما رأيته علمت أن الثياب له، فنزلت إليه فنظر إليّ وقال: يا أبا الحسن أما ترى ما يعمل بي قد أماتني موتات وقال لي ما لك إلا الذكر الذي لسائر الناس، وأخذ يبكي ويقول: ترى ما يفعل بي، فما زلت أرفق به حتى غسلته من الطين وألبسته المرقعة وحملته إلى دار ذلك الرجل، فأقمنا عنده إلى العصر، ثم خرجنا إلى المسجد فلما كان وقت المغرب رأيت الناس يهربون ويقفلون الأبواب ويصعدون السطوح، فسألناهم فقالوا السباع بالليل تدخل القرية، وكان حوالي القرية أجمة أي غابة عظيمة، وقد قطع منها القصب وبقيت أصوله كالسكاكين، فلما الثوري هذا الحديث قام فرمى بنفسه في الأجمة على أصول القصب المقطوع، ويصيح ويقول: أين أنت يا سباع، فما شككنا أن الأسد قد افترسه، أو قد هلك في أصول القصب، فلما كان قريب الصبح جاء فطرح نفسه وقد هلكت رجلاه فأخذنا بالمنقاش ما قدرنا عليه فبقي أربعين يوما لا يمشي على رجليه، فسألته أي شيء كان ذلك الحال فقال: لما ذكروا السبع وجدت في نفسي فزعا، فقلت لأطرحنك إلى ما تفزعين منه.
قال الحافظ ابن الجوزي بعد ذكر هذه الحكاية: قلت لا يخفى على عاقل تخبيط هذا الرجل قبل أن يقع في الماء والطين (يعني أن الشيطان تخبطه) وكيف يجوز للإنسان أن يلقي نفسه في ماء وطين، وهل هذا إلا فعل المجانين، وأين الهيبة والتعظيم من قوله ترى ما يفعل بي (يعني أن الله فعل به ذلك فكأنه يشكو الله تعالى إلى من كان يخاطبه) وما وجه هذا الانبساط، وينبغي أن تجف الألسن في أفواهها هيبة، ثم ما الذي يريده غير الذكر وقد خرج عن الشريعة بخروجه إلى السبع ومشيه على القصب المقطوع، وهل يجوز في الشرع أن يلقي الإنسان نفسه، أترى أراد منها أن يغير ما طبعت عليه من خوف السباع، ليس هذا في طوقها ولا طلبه الشرع منها.
تعذيب أنفسهم بالجوع
ذكر الحافظ ابن الجوزي في الكتاب المذكور حكايات كثيرة في تعذيب المتصوفة أنفسهم بالجوع زادوا فيها على نساك الهند الوثنيين أضعافا كثيرة، أذكر منها شيئا يسيرا فمن ذلك ما ذكره الحافظ ابن الجوزي في الكتاب المذكور صفحة 200 حكى أبو حامد الطوسي عن سهم يعني ابن عبد الله التستري قال: كان سهل يقتات ورق النبق مدة، وأكل دقائق التبن مدة ثلاث سنين، واقتات بثلاثة دراهم في ثلاث سنين.
ومن ذلك الترهب بترك التزوج وتعاطي أسباب المعيشة للتفرغ إلى عبادة الله بزعم المنتحلين لذلك، وهذا من الجهل بسنة الله وفطرته ومحاولة تغييرها، وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عبادة الله ليست منحصرة في الصيام والصلاة، بل كل قول أو عمل يراد به وجه الله هو عبادة، وقد أوجب الله على عباده واجبات كثيرة فمن ضيع بعضها كمن ضيع كلها، عن أنس بن مالك قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالها، وقالوا أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم أما أنا فأصلي الليل أبدا ولا أنام، وقال الآخر وأنا أصوم الدهر أبدا ولا أفطر، وقال الآخر وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني” رواه البخاري.
وإنما غضب النبي صلى الله عليه وسلم على أولئك الرجال لأمور: منها أنهم جهلوا الأصل العظيم وهو أن كل قول وعمل يراد به وجه الله فهو عبادة، وذلك خطأ عظيم يجر صاحبه إلى الضلال، ومنها أنهم ظنوا أنهم أقوى على العبادة وأقدر عليها من النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الخطأ أعظم مما قبله، ومنها أنهم إذا شغلوا أنفسهم بنوع واحد من العبادة ضيعوا واجبات وحقوقا أخرى فكانوا كمن قضى الدين بالدين، وما أحسن قول الشاعر:
إذا ما قضيت الدين بالدين لم يكـن *** قضـاء ولكـن ذاك غـرم على غرم
يوضح هذا المعنى حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو ذر أن أناسا قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم قال: “أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ” رواه مسلم، وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق” رواه مسلم، وعنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يصبح على كل سلامى من أحدكم فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة” رواه مسلم.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، تعدل بين الاثنين صدقة وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة” متفق عليه.
وفي حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: “إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في امرأتك” والآثار في هذا المعنى كثيرة اقتصرنا منها على ما يتسع له المقام.
وإذا تأملنا أنواع البر الواردة في هذه الأحاديث وحدها نجدها كثيرة، أولها ذكر الله بالقلب واللسان، وثانيها الأمر بالمعروف وهو كل أمر مستحسن شرعا، وثالثها النهي عن المنكر وهو كل أمر محرم كالظلم والعدوان وتعدي حدود الله، ورابعها التزوج ومباشرة الأهل لأن فيها طلبا للولد، ومنعا للزوجين من الوقوع في الموبقات والاستغناء عن الحرام بالحلال، وخامسها حق الضيف والزائرين كما في حديث سلمان وأبي الدرداء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: “إن لربك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، وإن لضيفك عليك حقا فاعط كل ذي حق حقه”.
وهناك حقوق كثيرة كحق الأولاد والوالدين وسائر ذي القربى واليتامى والمساكين والأصحاب وابن السبيل إلى غير ذلك، والترهب يضيع كل هذه الحقوق، وقوله عليه الصلاة والسلام: يصبح على كل سلامى من الناس صدقة السلامى العضو من أعضاء الجسم، ففي كل صباح تكون على الإنسان واجبات اجتماعية بقدر عدد أعضاء جسمه، فإذا وجد اثنين متخاصمين فأصلح بينهما بالعدل فقد أدى واجب عضو من أعضاء جسمه، وإذا وجد إنسانا يريد أن يركب دابته أو سيارته أو سفينته أو يحمل عليها متاعه وأعانه على ذلك فقد أدى واجب عضو آخر، وإذا وجد في طريق الناس ما يؤذيهم فأزاله فقد أدى واجب عضو آخر، والأنواع التي تؤذي الناس في طريقهم كثيرة، منها الشوكة والحجر والنجاسات وقطع الطريق والسباع وكل ذوات السموم، ويدخل في هذا بناء القناطر والسدود وتعبيد الطرق أي تسويته وتبليطه وإزالة الأوحال والثلوج وغير ذلك، ومن القربات جمع المال من طريق الحلال حتى يغني الإنسان نفسه وأهله ويترك لورثته ما يغنيهم، ومنها ملاطفة الزوجة باختيار لقمة شهية أو ثمرة ووضعها في فمها كما مضى في الحديث، والمتبتل المنقطع للصلاة والصيام المعتزل عن الناس يفوته ذلك كله، وغيره من التعلم والتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله وتشييع الجنازة وغير ذلك من القربات الاجتماعية.
وهذا الموضوع واسع لا يستوعبه مجلد، فنمسك عنان القلم ونكتفي بهذا القدر.
مجلة الجامعة الإسلامية: السنة 4 – العدد 3 – محرم 1392هـ – فبراير 1972م