في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور العلماء ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسًا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) أو كما قال (2) وعن ابن مسعود: (كل يوم ترذلون، لا أقول: عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير ولكن بذهاب علمائهم فيضعف الإسلام) أو كما قال (3).
أنعي إلى الأمة الإسلامية أحد أركان العلم والإسلام وأنا في غاية الحزن والأسى ألا وهو العلامة المتبحر في العلوم المجاهد العالم صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بن أمين الشنقيطي المغربي القاطن ببلد الزبير من أعمال البصرة.
مولده ومنشؤه في قبيلته (إذَ بَلْحسن) أي بني الحسن قبيلة عظيمة من قبائل العرب من أهل شنقيط معرفون بالعلم والشجاعة، وقد نبغ منهم خلق من العلماء والشعراء، رحل الفقيد إلى الشرق وهو شاب بعدما درس العلوم التي تدرس ببلاده ولما وصل إلى مكة وجد بها العلامة الكبير الحافظ الشيخ شعيب الدكالي بارك الله في حياته فألقى بها عصا التسيار، ولازم العلامة المذكور سنين، وكان أستاذه هذا معجبًا به حتى إنه كان يرد إليه المسائل الأدبية فيتكلم فيها أثناء الدرس، ثم زار الشيخ شعيبًا أحد أعيان أهل البصرة ممن كانوا يلقبون بكلمة (الباشا) التركية في عهد الترك، فسأل هذا الوجيه الحافظ الدكالي أن يبعث معه من يرتضيه من العلماء ليؤسس له مدرسة ومسجدًا ويقف عليهما ما يكفي للنفقة عليهما من المال، فندب لهذا الأمر صاحب الترجمة فامتثل أمره وتوجه إلى الزبير، وأقام بها ينشر العلم صابرًا على أذى شياطين المتفقهة ممن يشرقون بنشر العلم النافع المحمدي الصحيح؛ لأنه يبطل نواميسهم ومكرهم الذي نصبوه حبالة لصيد الحطام، وقد أجمعوا أمرهم على إخراجه وشكوه مرارًا، وهو صابر ثابت على خطته في نشر العلم والإعراض عن الجاهلين، وكان رحمه الله آية في الحلم، بعيني رأيت أكبر أعدائه الذي كان سببًا لكل ما أصابه من الأذى التجأ إليه في شدة أصابته فقابله الشيخ الفقيد بما جبل عليه من البشاشة وأخرج أوراقًا مالية فناوله إياها، ثم أمر أحد التجار أن يعطيه عدة أكياس من الرز على حسابه، هذا بعد ما فشل ذلك الشيخ المشاغب في جميع محاولاته. وواقعات حلمه مشهورة، وكان سراجًا منيرًا في الخليج الفارسي وبلاد العراق ونجد.
وفي زمن الحرب الطرابلسية شد الرحل من العراق إلى طرابلس للجهاد، وسافر إلى بلاد نجد ليستوطنها فرارًا من الكون تحت تأثير الأوربيين فلم يستقم له ما أراده، فرجع بعد ما أقام بعُنَيْزَة أربع سنين قضاها كلها في نشر العلم والعمل، وترك أهل عنيزة كلهم ألسنًا ناطقة بالثناء عليه، ثم توجه إلى الكويت وما مضت عليه هناك إلا ليلة واحدة حتى نُفِيَ لاتهامه بعداوة الإنكليز، فتوجه إلى الزبير ثانية، وأسس (مدرسة النجاة) هناك وكانت الأمية والجهل مخيمين على بلدة الزبير، فحاربتهما هذه المدرسة بأن ضمت بين جدرانها مئات من أولاد إسماعيل و قحطان، فهذبت من أخلاقهم، وتخرج فيها خلق من الكتاب والأدباء والعلماء، ولا تزال قائمة إلى الآن.
ولما ازدهرت هذه المدرسة التهبت قلوب المتفقهة حسدًا، وكبر عليهم مقام الشيخ وتذكيره بآيات الله، فأجمعوا أمرهم ليقضوا عليه ولا ينظروه، فرموه بأنه يعلم تعليمًا وهابيًّا يسمِّم أفكار شبان العراق، زخرفوا هذه الوشاية إلى ولاة الأمر ليقطعوا الإعانة التي كانت تتلقاها المدرسة من وزارة الأوقاف العراقية، ومن وزارة المعارف ومجموعهما اثنا عشر ألف روبية، فكادت المكيدة تنجح ولكن الشيخ بادر بالتوجه إلى بغداد وعرض عليهم منهاج الدروس ولم يكن فيه شيء مما يسميه الجهلة وهابية إلا العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية (ولا يخفى أن الجهلة يعدون ابن تيمية وهابيًّا) فحذفها الشيخ من المناهج وجعل محلها عقيدة الإمام ابن أبي زيد القيرواني المالكي فبطل كيدهم واستمرت الإعانة جارية.
ثم بعد سنة جدَّد أولئك الشياطين الكرة فنجحوا وقطعت إعانة الأوقاف؛ ولأمر آخر نذكره؛ لأن فيه عبرة للمسلمين قطعت إعانة المعارف أيضًا، وذلك أن الشيخ كان عضوًا في إدارة المعارف بالبصرة، وكان قد بقي في المدارس الابتدائية بالعراق درس ديني ودرسان في الأسبوع وهذه الدروس الدينية كلها لا تزيد على بضع كراريس بقطع صغير في العقائد إجمالاً والطهارة والصلاة والصوم والحج، وكانوا يُعَيِّنُونَ لتدريس هذه الدروس عالمًا أو مُلاَّ كما يقولون من المتدينين أو المعممين كما يسميهم المتنورون! !! فاجتمع هؤلاء المتنورون بنورة أعداء العروبة والإسلام وقرروا تطهير المدارس من هؤلاء المعممين وأجمعوا على أن يعينوا بدلهم شبانًا من المتنورين، فعقدوا اجتماعًا دَعَوْا فيه الأستاذ الفقيد للحضور وعرضوا عليه هذا المكر الذي بَيَّتُوهُ، وأضافوا إليه من سب المعممين والوقيعة بهم ما شاءت لهم النورة، فامتنع الشيخ من الموافقة امتناعًا كليًّا، وكان رحمه الله على ما فيه من الحلم النادر إذا وصل الأمر إلى هدم الأصول يتصلب فلا تلين قناته لغامز، فجعل بعض المتنورين يجادله فتكلم الشيخ وقال: أنا أعرف الشبان وأعرف المعممين فَهَبُوا أنهم بلغوا في البلادة والجمود كل مبلغ ولكنهم يعملون بما يعلمون، يعلمون التوحيد وصفات الله وهم بها مؤمنون، وأما هؤلاء الشبان فإنا نراهم متى ذكروا العقائد بادروا إلى السخرية التي لقنهم أعداء العرب والإسلام. ثم يعلمون أركان الإسلام وهم يؤدونها، وأما هؤلاء الشبان فلا يتوضئون ولا يصلون ولا يصومون ولا يحجون، فهل تظنون أن الإسلام لعبة يصح بمجرد الدعوى الفارغة! وبعد هذا انصرف من مجلسهم فتسببوا في قطع الألفين اللذين كانت تعطيهما وزارة المعارف وبقيت المدرسة على تبرعات المحسنين وقليل ما هم، فنقصت حتى صارت على الثلث، وكم حاول قوم من الأعيان أن يقنعوا الشيخ بالخضوع إلى سلوك منهاج المعارف والسير تحت مراقبة مفتشها وترد النفقات التي قطعت فأبى وجمع من يظن بهم الإخلاص من المدرسين وخطب فيهم وذكرهم بما يجب عليهم من خدمة الأمة فقنعوا كلهم أن يأخذوا ربع أو ثلث ما كانوا يأخذون من الرواتب ولا ينهزمون. وكان رحمه الله قدوتهم في ذلك فإنه كان يأخذ في زمان ميسرة المدرسة 150 روبية فأنزلها إلى 50 وبقيت المدرسة عامرة إلى الآن، ولكنها لا تستطيع أن تقبل من الطلبة إلا نحو نصف العدد الذي كانت تحويه من قبل. ومناقب هذا الإمام كثيرة يضيق هذا المقام عن عشر معشارها.
توفي إلى رحمة الله ضحى يوم الجمعة 14 جمادى الآخرة سنة 1351 على رأس ستين سنة كلها جهاد وصلاح وخير للمسلمين، ولم يتخلف عن جنازته أحد من أهل الفضل من البلدين البصرة والزبير، ولو كانت البلاد محتوية على وسائل النقل لحضر جنازته الجم الغفير من أهل نجد وأهل الخليج الفارسي وأهل العراق، فالله يلهم ذويه الصبر الجميل ويخلفه على المسلمين وإن كان كما قال الشاعر:
حلف الزمان ليأتين بمثله… حنثت يمينك يا زمان فكّفِّر
ولكن الله يفعل ما يشاء.
(المنار)
لله در أخينا الأستاذ الهلالي أتى بخير خلاصة لترجمة هذا الإمام المصلح بأدق عبارة وأجمعها للفوائد، وأنزهها في التعبير، ولا سيما موقف الرجل بين فريقي الشيوخ الجامدين، والشبان المتفرنجين، اللذين يكاد يضيع الإسلام بينهما، فالشيوخ على محافظتهم على التقاليد الخرافية المنفرة عن الإسلام ومحاربتهم للإصلاح الديني والدنيوي لا يزالون يقومون بشعائر الإسلام وأركانه علمًا وعملاً، وبهذا فضلهم الشيخ رحمه الله على الشبان الذين ليس لهم من الإسلام إلا الجنسية السياسية، وأسماء الأعلام ولكنهم يعنون بالإصلاح الإداري والسياسي، ونراهم ينتصرون على الشيوخ في الحكومات التي ترى نفسها مضطرة إلى نظام المدنِيَّة العصري، وبهذا حملوا حكومة العراق على إلغاء الإعانتين اللتين كانت تساعد بهما (مدرسة النجاة) من وزارتي المعارف والأوقاف. وهي خير من جميع مدارس العراق، فعسى أن تعيد النظر إلى ذلك وزارة العراق الجديدة التي هي أرجى وزارة ألفت في دولتها الجديدة وتعيد إليها الإعانتين، فلن ينفعها الإصلاح المدني بدون الإصلاح الديني، والله الموفق.
—————————–
(*) البيت مضاف في مقال مجلة الفتح: العدد 319 السنة 7 – 18 رجب 1351 – ص:3-4.
(1) كتب هذا التأبين والترجمة للمنار والفتح صديقنا الأستاذ العلامة الشيخ محمد تقي الدين الهلالي المدرس في مدرسة دار العلوم الندوية في الهند.
(2) المنار: الحديث متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ (ينتزعه من العباد) والباقي كما قال.
(3) في المقاصد الحسنة ومختصره، وفي الدرر المنتثرة أن كلمة: (كل عام ترذلون) من كلام الحسن البصري وفي معناها حديث البخاري وغيره (لا يأتي عليكم زمان وفي رواية عام إلا والذي بعده شر منه) وفي بعض الروايات من البيان له مثل ما ذكر عن ابن مسعود.
مجلة المنار: الجزء الثاني مجلد 33، عدد ذو الحجة 1351هـ موافق أبريل 1933م، ص: 130-133.
مجلة الفتح: العدد 319 السنة 7 – 18 رجب 1351 – ص:3-4.