الرد على رسالة العالم الشيعي
للأستاذ الشيخ محمد عبد القادر الهلالي
وهو عالم سلفي مستقل لا يتعصب لمذهب من المذاهب مطلقًا
مناظرة في مسألة القبور والمشاهد: (3) (4) (5) (6) (7)
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى العالم الجليل، المحقق النبيل، السيد مهدي الكاظمي القزويني سلمه الله ووقاه، وبلغه مناه، وسلام عليكم ورحمة الله: أما بعد فقد وافاني جوابكم الكريم المؤرخ في 22 شعبان سنة 1345، فتلقيته بكامل التجلة وعظيم الارتياح، وأثنيت على همتكم الشماء وعنايتكم السامية بما يقتضيه المنصب الذي ولاكم الله إياه، ومن كمال لطفكم ووافر ظرفكم أن استسمحتموني في تطويلكم الجواب عما في المنار، وإلا فهو رياض بهيجة، وموارد عذبة، وثمار بحث شهية، بعبارات رائقة طلية، فبها يحق لكم أن تفتخروا لا أن تعتذروا.
ولما التمستم مني القضاء بينكم وبين المنار بعد الإمعان فيما كتبتم في الرد عليه؛ وجب علي أن ألبي التماسكم معترفًا بقصور باعي وقلة اطلاعي متجردًا من الهوى ما استطعت وما توفيقي إلا بالله، غير متحيز إلى مذهب، ولا واقف مع مشعب، إذ لا مذهب لي إلا الحق، وأتمثل بقول الشاعر البليغ الشيعي:
وما لي إلا آل أحمد شيعة… وما لي إلا مشعب الحق مشعب
وهذا الجواب الذي سأجيب به عن كلامكم هو الذي أنوي أن أجيب به بين يدي الجبار سبحانه وتعالى إن سألني – والملائكة والأنبياء والصالحون شهود – فإذا تحققتم إخلاصي؛ فلا أظن أنكم تجدون من شيء من كلامي، وإن باين مذهبكم { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } (البقرة: 148).
(المقام الأول) قولكم: إن مكاتب المنار حرف الكلم عن مواضعه، ولم ينقله على وجهه.
أقول: لا يمكنني أن أبدي رأيي في هذه القضية؛ لعدم اطلاعي على الكتاب المنقول منه.
(المقام الثاني) تكذيبكم إياه في قوله (1): (إنه لا يوجد كتاب من كتب فقه الشيعة إلا وبه :، أنه لا يجوز البناء على القبور)، يعكر عليه ما نقلتم عن كتاب جواهر الكلام أنه ذكر خبرًا عن أبي الحسن الكاظم عليه السلام قال: (لا يصلح البناء عليه).
ونفي الصلاح فيما يتعبد به؛ يستلزم الفساد، إذ لا واسطة بينهما، والفاسد شرعًا لا يجوز التعبد به، وعليه فمن قال: إن عدم جواز البناء على القبور موجود في كتب فقه الشيعة صادق في قوله. نعم إذا كان عدم جواز البناء على القبر يوجد في بعض كتب الفقه دون بعض لم يصح كلامه.
(المقام الثالث) تأويلكم الخبر فيه نظر بيّن لأن الإمام سئل عن البناء على القبر: هل يصلح أم لا ؟ فقال لا يصلح البناء عليه ولا الجلوس ولا تجصيصه ولا تطيينه. هذه أربعة أشياء نفَى عنها الإمام الكاظم (عم) الصلاح في مقام السؤال عن حكمه شرعًا فلزم أن فعلها فساد عند الإمام (والله لا يحب الفساد) والفساد محرم لقوله تعالى { وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ } (الأعراف: 56).
وقولكم: (وجه الاستدلال به على كراهة التجصيص أن الجلوس على القبر ليس محرمًا عندنا فتكون سائر الأمور المذكورة معه ليست محرمة للزوم تساوي المتعاطفات في الحكم) في غاية البعد مع ما فيه من الإبهام إذ لم تبينوا دليل جواز الجلوس على القبر: أهو البراءة الأصلية أم نص من القرآن أو من حديث إمام معصوم، أما القرآن فليس فيه دليل على جواز ذلك فإن كان هناك نص صريح عن النبي أو أحد من الأئمة كان ينبغي لكم أن تذكروه لنضعه إلى جانب كلام الإمام الكاظم فإن تعارضا ولم يمكن الجمع بينهما ولا ترجيح لأحدهما على الآخر بشيء من المرجحات توقفنا عن العمل بهما جميعًا وطلبنا دليلاً من الخارج، فإن وجد؛ حكمنا به، وإلا، قلنا: لا نص معتبر في الجلوس على القبر، ويسلم لنا نص الإمام الكاظم على عدم جواز البناء على القبر بغير معارض، وظاهره الحرمة لأن عدم الصلاح في مقام السؤال عن الحكم شرعًا يستلزم الفساد، وهو حرام كما تقدم.
(المقام الرابع) قولكم: (ولكن مكاتب المنار لم يذكر من الحديث (2) إلا قوله: لا يصلح البناء على القبر، وأسقط منه الباقي؛ ليوهم القارئ أن الحديث دال على التحريم، ولا شك أن إسقاط بعض الحديث خيانة في النقل) فيه نظر أيضًا لأنه ليس كل إسقاط موهمًا، وإنما يكون الإسقاط تحريفًا وخيانة إذا كان مخلاًّ بالمعنى المقصود، أما الاقتصار على ذكر دليل المسألة من الخبر وحذف سائره إذا كان لا يتغير المعني بحذفه كما هنا؛ فليس بخيانة، بل هو اختصار، وهو مقبول عند أهل العلم، موجود في كتب الثقاة الأمناء كالبخاري وغيره.
(المقام الخامس) قولكم: ثم قال صاحب الجواهر: وربما يشعر بكراهة التجصيص (3) قول الصادق (ع) كل ما جعل على القبر من غير تراب القبر، فهو ثقل على الميت: قلتم: وهذا الحديث لا دخل له بموضوع المسألة؛ لأن المفهوم منه كراهة أن يهال على الميت من غير تراب القبر فالصادق (ع) كأنه قال: لا يهال على القبر إلا التراب الذي استخرج من نفس القبر عند حفره، ولا يُؤْتَى بشيء من غيره، فيوضع في القبر إلخ.
أقول: كلام الإمام يقتضي قطعًا أنه لا يوضع على القبر شيء إلا تراب القبر سواء أكان ذلك الشيء ترابًا أم جصًّا أم تابوتًا وستورًا ومباخر وشموعًا وغيرها؛ لأن الإمام لم يقل: كل تراب يهال على القبر من غير تراب القبر، فهو ثقل بل عبر (بما) التي هي من ألفاظ العموم، فلا يصح تخصيصها بجنس التراب بلا دليل، ولذلك فهم منه صاحب الجواهر النهي عن التجصيص، وحمله على الكراهة، والظاهر الحرمة؛ لأنه من جنس البناء على القبر، وتقدم الدليل على حرمته.
(المقام السادس) قولكم: وقال صاحب الجواهر: وكذا يشعر بالكراهة حديثه عليه السلام(4) قال أمير المؤمنين (عم): بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدم القبور، وكسر الصور.
أقول: استدلال صاحب الجواهر بهذا الحديث على كراهة التجصيص يدل على أنه فهم منه مشروعية هدم القبور مطلقًا سواء أكانت للكفار، أو المؤمنين، وكسر الصور مطلقاً ولو كانت صور الأنبياء والأئمة، وينافي ما ملتم إليه فيما بعد من أن مشروعية الهدم خاصة بقبور الكفار.
(المقام السابع) اعترافكم بأن تجديد القبور بعد اندراسها مكروه في مذهب الشيعة (5) وهو يرشد إلى أن المشروع عند سلف الشيعة هو إهمال القبور وتركها لأيدي الزمان؛ تعفوها، وتمحو آثارها، وأن تجصيصها وتطيينها والبناء عليها واتخاذها مساجد، وأعياداً، ومواسم، وجعل التوابيت المزخرفة المذهبة، والستور المزركشة الموشاة، وتبخيرها واتخاذ السرج عليها، والحج لها والعكوف عندها، والطواف بها، وتقبيلها والتسمح بها وأخذ ترابها للاستشفاء، والنذر لها، وتقريب القرابين لها، والإقسام على الله بأهلها؛ وغير ذلك مما يجعلها أوثانًا تعبد من دون الله، كل ذلك بريد الكفر بل الكفر بعينه، وقد عمت البلوى بهذا الداء العضال الذي هو أعظم أسباب شقاء المسلمين واستيلاء العدو عليهم وضرب الذالة والمسكنة عليهم وضلالهم ضلالاً بعيدًا، حتى صار المخلوق في صدورهم أعظم من الخالق، وصاروا أكثر توكلاً، وأخضع وأرجى للمخلوق منهم للخالق، حتى إنك إذا اتهمت أحدهم، فسألته أن يحلف بالله ويجمع أسماءه، وصفاته يفعل ذلك بدون مبالاة ولا خجل ولا وجل، وإذا قلت له: احلف بالشيخ فلان إن كان ممن ينتسب إلى السنة أو بالإمام فلان إذا كان ممن ينتسب إلى الشيعة ظهرت عليه علامات الاهتمام والرعب، وخاف أن يحلف بها كاذبًا، وبعضهم يخاف أن يحلف بالمخلوق، ولو صادقًا، ولا يبالي أن يحلف بالملك القهار ألف مرة كاذبًا.
وكذا يتصدق لوجه المخلوق بكرائم الأموال، ولا يتصدق لله إذا سئل به بفلس، وهذا أعظم الشرك والكفر، وهو مشاهد في العوام، وفي أكثر الخواص معلوم بالضرورة إنكاره جحد للضروريات، ومكابرة فيها لكنه عام في الشيعة وأهل السنة ما رأيت فرقًا بينهم في ذلك إلا أن كثيرًا من أهل السنة متجنبون لذلك متبرئون منه، وأما الشيعة فلم أختبر خواصهم كثيرًا، ويغلب على ظني أنهم لا يجمعون على ذلك الضلال البعيد، وهم يتلون كتاب الله ويدرسون أحاديث النبي وآثار الأئمة، هذا ظني بهم والله أعلم.
(المقام الثامن) إنكاركم على المكاتب قوله: لا يوجد كتاب من فقههم إلا، وفيه: لا يجوز البناء على القبور وتجديدها والسرج عليها (6)، وقولكم: إنه لم يتعرض أحد من فقهاء الشيعة لذكر الإسراج على القبر، وذلك يقتضي أنه غير مكروه عندهم، فادعاء المكاتب وجود ذلك في كل كتاب من فقههم بهتان عظيم، هذا معنى كلامكم.
أقول: الذي يغلب على ظني أنكم أنتم أعلم بما في كتب الشيعة من المكاتب، ولو كان ذلك في كل كتاب؛ لما خفي عليكم، وعليه فظاهر كلامه غير صحيح، لكن يمكن أن يكون قد اطلع على النهي عن الإسراج في بعض كتب الشيعة، ولم تطلعوا عليه أنتم، أو سهوتم عنه حين كتابتكم هذا الجواب، فظن أن ذلك موجود في جميع كتبهم؛ فأطلق في كلامه، ولا غرابة في ذلك، فقد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر، وعلى كلٍّ؛ فالواجب عليه ألا يطلق إلا بعد تحقق وجود ذلك في كل كتاب من فقههم.
(المقام التاسع) تشنيعكم على المنار ومكاتبه ورميه بالافتراء والتحريف والتحامل على الشيعة والسعي في تشويه سمعتهم (7).
أقول: أما مكاتب المنار؛ فلا أعرف حاله، وأما صاحب المنار فالذي أعتقده فيه هو الصدق فيما ينقله، وأنه لا يتحامل على الشيعة، ولا يغضي عن عيوب أهل السنة ويبحث عن عيوب الشيعة، بل كل من طالع المنار علم يقينًا أنه انتقد على أهل السنة، وأنكر عليهم أكثر مما أنكر على الشيعة، وهذه مجلدات المنار شاهدة بذلك، وقولكم: وكم من فرق بين بناء نفس القبر وبين القبة المبنية على أساسات لا دخل لها بالقبر أصلاً (8).
أقول: لو لم يرد في الأحاديث إلا النهي عن البناء على القبر؛ لخص النهي به، ولم يتناول القبة، أما وقد عزز الشارع النهي عن البناء بالنهي عن اتخاذ المساجد عليها ولعن فاعل ذلك في مرضه الذي توفي فيه فواضح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن كل بناء على القبر أو حوله ويأمر بهدمه، وكذلك فعل عليٌّ (عم) بعده وسائر الأئمة، ولم يتجرأ أحد على بناء قبة على قبر في زمانهم.
والذي أعتقده في علي عليه السلام أنه لو رأى ما يفعله الغلاة عند القباب التي ابتدعوها لحرقهم كما حرق الغلاة، وحاشا للسلف الصالح أن يرضوا بهذه الأوثان، وهذا الذي أعتقد وأدين الله به.
(المقام العاشر) في قولكم: قال المكاتب: وفي كتاب محمد بن يعقوب الكليني عن سماعة قال: سألت الصادق عن زيارة القبور وبناء المساجد عليها، فقال: (أما زيارة القبور فلا بأس، ولا يبنى عليها مساجد). قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجدًا، فإن الله لعن اليهود حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) اهـ.
ثم قلتم: ولكن العجب منه أنه ذكر الحديث النبوي عقيب حديث سماعة بصورة توهم أن الصادق (ع) استشهد به على قوله مع أن الحديث النبوي لا وجود له في كتاب الكليني أصلاً.
نعم توجد رواية مرسلة في بعض كتب الشيعة وكيف كان؛ فليعلم أن جميع ما جاء من بناء المساجد واتخاذها على القبور أو فيها أو عندها حسب اختلاف النقل؛ إنما يراد به النهي عن جعل نفس القبر مسجداً، أي موضعاً يسجد عليه، وليس المراد ما هو معروف بين المسلمين من المكان الذي يصلى فيه.
أقول: فيه اعترافكم بأن الإمام الصادق (ع) أفتى بأنه لا يبنى على القبور مساجد، وهو صريح في المنع من بناء المساجد على القبور، ولكن تأولتموه على أن النهي إنما هو عن جعل القبر مسجدًا أي محلاًّ للسجود لا عن بناء المسجد على القبر؛ لأن ذلك كما قلتم: لا يتصور إلخ.
أقول: هذا تأويل بعيد جدًّا كنت أربأ بكم عن ارتكابه ويرده :
(أولاً) أن قوله: لا يبنى عليها مساجد نهي عن البناء لا عن السجود، فإن السائل سأله عن الزيارة والبناء؛ فأثبت الزيارة ونفى البناء، ولم يتعرض السائل ولا المجيب للسجود على القبر ولا تشم رائحته من كلامهما، فحمل كلام الصادق عليه من أبعد التأويل، بل هو سلب لمعنى اللفظ الذي يدل عليه دلالة مطابقة، وتحميله معنى آخر لا علقة بينه وبينه.
(ويرده ثانيًا) أن بناء المسجد على القبر نفسه لا يتصور ولا يعقل كما قلتم، وكذلك لا يعقل أن يريد الصادق وجده صلى الله عليه وسلم النهي عن السجود على القبر، ويعبر عن ذلك بالنهي عن بناء المساجد على القبور، والنبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، والصادق من أفصح العرب، ولو أراد عالم اليوم أن ينهى عن السجود على موضع فقال للمخاطب: لا تبن مسجدًا على هذا الموضع؛ لعيب عليه ذلك، وعد غالطًا، أو جاهلاً باللغة، فكيف يقع ذلك من أبلغ الناس.
(ويرده ثالثًا) أنكم اعترفتم بأن أحاديث الباب وردت بألفاظ في بعضها النهي عن اتخاذ القبور مساجد، وفي بعضها النهي عن اتخاذ المساجد على القبور، وفي بعضها النهي عن اتخاذها عندها، وفي بعضها النهي عن اتخاذها فيها، وفي بعضها النهي عن بناء المساجد عليها، فهذه خمسة ألفاظ.
(اللفظ الأول) يحتمل معنيين: (أولهما) النهي على بناء المساجد عند القبور، كما تدل عليه بقية الألفاظ.
(والثاني) ما ذكرتم وهو اتخاذ القبور نفسها موضعًا للسجود، ويتوجه أن يكون دالاًّ عليهما معًا فتكون فيه فائدة زائدة على ما بعده.
(اللفظ الثاني) النهي عن اتخاذ المساجد على القبور، هذا اللفظ واضح المعنَى، وهو يفسر سائر الألفاظ ويقطع النزاع لورود مثله في كتاب الله تعالى، وذلك قوله سبحانه: { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً } (الكهف: 21)، قال الإمام الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير في تفسيره عند هذه الآية ما نصه: حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين (أحدهما) أنهم المسلمون منهم، (والثاني) أهل الشرك منهم، والله أعلم.
والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هل هم محمودون في ذلك ؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد)، وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر أن يخفى على الناس، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده فيها شيء من الملاحم وغيرها انتهى.
ولم يفهم أحد من المفسرين فيما علمت أنهم أرادوا أن يسجدوا على أجسادهم، أو يبنوا فوقها مسجدًا، بل فهموا ورووا عمن قبلهم أنهم أرادوا أن يتخذوا مسجدًا أي يبنون عند باب كهفهم تبركًا بهم وتعظيمًا لهم، وذلك مخل بالتوحيد، ولذلك رجح الحافظ ابن كثير أنهم مذمومون على ذلك، ويظهر لي أن الذين غلبوا على أمرهم هم أهل الشرك؛ لأن أهل التوحيد لا يتخذون المساجد عند قبور الأنبياء والصالحين؛ لأن الله حرم ذلك، ولعن فاعله على لسان نبيه.
وهذا من دقة نظر الإمام ابن كثير وسعة اطلاعه وجمعه بين الكتاب والسنة، وقد اتضح أن المراد بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد على القبور هو بناؤها حولهم أو بالقرب منهم خوفًا عليهم من الفتنة والوقوع في الشرك كما وقع للذين من قبلنا، وقد اتبع سننهم من أراد الله فتنته من هذه الأمة؛ فوقعوا في مثل ما وقع فيه من قبلهم من الشرك، ومن تأول الحديث على النهي عن السجود فوق القبر؛ لزمه أن يفسر الآية بذلك، وتأويلها بذلك ظاهر الاستحالة.
(اللفظ الثالث) النهي عن اتخاذ المساجد عند القبور، وإذا أردنا أن نعرف معنى هذا اللفظ على التحقيق؛ ينبغي لنا أن ننظر علام يدل لفظ (عند) في اللغة ؟
قال المختار بن بونا في أرجوزته الممزوجة بألفية ابن مالك: وعند للحضور والقرب وقد… تضم عينها وفتحها ورد قال في حاشيتها: للحضور حسًّا أو معنى، واجتمعا في قوله تعالى: { قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِراًّ عِندَهُ } (النمل: 40)، والقرب نحو { عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى } (النجم: 14-15) انتهى.
وإذا تحقق هذا؛ فكلمة عند في الحديث إما بمعنَى القرب أو الحضور، وكلا المعنيين موجود في القباب والمشاهد المبنية حول القبر أو بقربه فهي داخلة في النهي، وهذا واضح لا يحتمل التأويل.
(اللفظ الرابع) النهي عن اتخاذ المساجد في القبور هو بمعنى اللفظ الثاني؛ لأن (في) فيه بمعنى (على)، كما في قوله تعالى: { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } (طه: 71)، وتقدم بيانه.
(واللفظ الخامس) النهي عن بناء المساجد على القبور، وهو بمعنى اللفظ الثاني سواء؛ لأن المراد باتخاذ المساجد عليها بناؤها عليها.
فتضافرت الألفاظ الخمسة على معنى واحد، وهو النهي عن بناء المساجد عند القبور أي بحضرتها أو بقربها، وإذا صحب البناء قصد التبرك والتعظيم؛ اشتد تحريمه لعظم مفسدته حينئذ، وكونه ذريعة موصلة لا محالة إلى اتخاذ قبر ذلك النبي أو الصالح وثنًا يعبد، كما هو واقع في غالب الأقطار التي ينتسب أهلها إلى الإسلام، وهم عاكفون على عبادة الخشب وستور الحرير والجدران تبعًا لعبادة المقبور فيها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(ويرده رابعًا) أننا لو سلمنا أن أحد الألفاظ وحده لا يدل على تحريم بناء القباب على القبور؛ لكانت الألفاظ بمجموعها دالة أوضح دلالة على ذلك، ومن عرف المعنى الذي لأجله خص النبي صلى الله عليه وسلم قبور الأنبياء والصالحين بالذكر دون سواهم، وإن كان داخلا في النهي؛ علم يقينًا أن هذه القباب المشيدة المزخرفة بأنواع الزخارف على قبور الأنبياء والصالحين وغير الصالحين شر على الإسلام مِنْ سقم على بدن، وعرف مقدار حماية النبي صلى الله عليه وسلم لجانب التوحيد إن في ذلك لآيات لقوم يفقهون.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
الهوامش:
(1) هو في ص 350 و 351 من الجزء الماضي.
(2) ص 352 أيضًا.
(3) (ص 353).
(4) (ص 353).
(5) يعني ولا تجديدها ولا وضع السرج عليها – راجع آخر ص 353.
(6) راجع ص 354.
(7) ص 345.
(8) ص 355.