بشائر رحلة علمية:
لا أكاد أنسى ذلك اليوم الميمون في حياتي الندوية، الذي بشرني فيه أستاذي الكبير سماحة الشيخ العلامة أبي الحسن على الحسني الندوي بأنه قرر لي رحلة علمية خاصة بي، ذلك أن يبعثني للاستفادة العلمية والأدبية إلى أستاذ العربية الكبير العلامة تقي الدين الهلالي الذي يعتبر علما شامخا في النحو والبلاغة واللغة والأدب، ويتعذر نظيره في العواصم العربية، إذ ليس له اليوم صنو في تذوق اللغة العربية والالتزام بالأسلوب الأدبي والتعبير العربي الخالص، مع التحاشي من الأساليب الدخيلة والتعابير الركيكة التقليدية التي راجت بين الأوساط الأدبية والصحفية المعاصرة في البلاد العربية من غير تحفظ أو تدبر.
إعدادات في سبيل العلم:
كان ذلك في أحد أيام الأشهر الأخيرة من عام 1376هـ موافق 1957م، وكنت إذ ذاك مدرسا للغة العربية والأدب في دار العلوم ندوة العلماء، ومن ساعته أملى علي سماحة الشيخ الندوي كتابا باللغة العربية إلى العلامة الدكتور تقي الدين الهلالي الذي كان أستاذ العلوم الإسلامية في كلية التربية بجامعة بغداد، طلب فيه موافقته على قراره حول بعثي إليه للاستفادة العلمية والأدبية، وقد اهتزت جوانحي بالفرح والسرور، وأسرعت كي أرسل إليه الكتاب بالبريد الجوي المسجل، وبعد أسبوعين أو ثلاثة جاءه الرد بالموافقة على الموضوع، رحب فيه بهذا القرار، ولكته اعتذر عن تحمل أي مسؤولية من السكن والطعام للطالب الجديد، جاء في كتابه:
“يسرني أن يأتي إلي سعيد الأعظمي ويدرس عندي ما يقدر الله له من العربية والنحو، وبودي أن أقوم نحوه بواجب السكنى والطعام، ولكن…”.
بغداد، نهاية المطاف:
ومع نهاية العام الدراسي لفترة 1376-1377هـ سافرت في شعبان إلى بغداد عن طريق البصرة بحرا، ومنا بالقطار إلى بغداد حيث استقبلني صديقي الدكتور صالح مهدي السمرائي في محطة القطار، وأقمت معه في غرفة في مقر جمعية إنقاذ فلسطين التي كان رئيسها فضيلة الشيخ الداعية الإسلامي الكبير محمد محمود الصواف، وقد حملت إليه من سماحة أستاذي الشيخ الندوي رسالة يطلب فيها السماح لي بالنزول في الجمعية طوال فترة الاستفادة والإقامة هناك، ورحب بي فضيلة الشيخ الصواف، واهتم بي أكثر مما كنت أتوقع، نظرا إلى الروابط التي كانت بينه وبين سماحة الشيخ الندوي.
أول تحية إلى العلامة الهلالي:
وحضرت مع الدكتور السامرائي إلى العلامة الهلالي وهو في غرفة أساتذة الكلية بجامعة بغداد، فسلمت عليه وعرفته نفسي، وكان كفيفا لا يبصر، وقدمت له رسالة سماحة الشيخ الندوي، ففرح بذلك وأمرني بالقراءة، فقرأتها وأرشدني خلال قراءتي لها إلى بعض التصويبات الإعرابية وتصحيح النطق، وهنالك علمت أنه يتمتع بمنصب عال في اللغة العربية، ولما انتهيت من قراءتي خاطبني قائلا: ” إنك تأتي من الهند وتريد أن تستفيد علما وتستزيد جوانب جديدة في اللغة والإعراب، دون أن تهمك شهادة أو درجة علمية اصطلح عليها الناس، ولكن طلابا الآن لا يريدون من دراستهم إلا أن يعطوا شهادة ولو كانت مزورة كاذبة”.
وبعد ما قضيت وقتا قليلا عنده، حان موعد حضوره في أحد الفصول الدراسية، فودعني وقال لي: “غدا تأتي إلى منزلي وسنتفق على برنامج مناسب لدراستك، إن شاء الله”.
صلته ببلاد الهند:
وقبل أن ابدأ قصة دراستي لدى العلامة الهلالي أحب أن أشير إلى صلته ببلاد الهند وبجامعة ندوة العلماء بوجه خاص. ويرجع تاريخها إلى فجر الثلاثينات الميلادية، الفترة التي زار فيها الهند لتلقي علوم الحديث على علمائها البارزين في ذلك الحين، ومكث في دلهي التي كانت مركزا كبيرا للثقافة الإسلامية وإشعاع العلوم الدينية حينذاك، فلقي فيها علماء السنة بوجه خاص واستفاد منهم، وتجول في مدارسها الإسلامية واطلع على مناهج دراستها الدينية وطرق تدريس المواد الدينية واللغة العربية، وظهرت له فيها علل ونقائص كثيرة في هذه الطرق، تحدث عنها في كتاباته التي دبجها يراعه الأدبي الجميل ونشرتها مجلة “الضياء” العربية التي أصدرتها ندوة العلماء كلسان حال لها منذ شهر محرم 1351هـ المصادف مايو 1932م، بعنوان (علل التعليم في المدارس).
وتوثقت علاقته بالعلامة الأديب البارع عبد المجيد الحريري البنارسي الذي كان يتمتع بمكانة عالية في الأدب واللغة، وعلى دعوة منه زار “بنارس” وأقام عنده، وعن طريقه تعرف بمحدث الهند الكبير العلامة عبد الرحمن المباركفوري صاحب تحفة (الأحوذي شرح الترمذي) وزاره في منزله واستفاد منه في الحديث.
علاقته بندوة العلماء:
في عام 1930م-1349هـ ارتبط العلامة الهلالي بندوة العلماء كأستاذ للأدب والبلاغة والعربية على دعوة من مديرها العظيم سعادة الدكتور عبد العلي الحسني (رحمه الله) وهو الذي مهد الطريق لقدومه إلى دار العلوم ندوة العلماء وعكوفه على تدريس الأدب العربي والبلاغة وتعليم اللغة العربية بالعربية. فكان لنشاطه الكبير الذي ظهر منه في التدريس وحرصه الشديد على تعليم اللغة العربية تأثير عميق في بدء عهد أدبي جديد، ونشوء جو عربي في أوساط الطلاب والمدرسين جميعا، إنه بذل في سبيل ذلك مجهودات بالغة وصمد في وجه العوائق التي كادت تثبط همته لولا أن الله سبحانه قد من عليه بالصبر والمثابرة.
حكاية طريفة:
فقد حكى لي أنه بدأ يدرس كتاب “دلائل الإعجاز” للجرجاني، باللغة العربية وظن أنه سيلاقي ترحابا كبيرا من الطلبة بهذه الطريقة الطبيعية لتدريس هذا الكتاب، ولكنه رأى أنهم لم يفرحوا بتدريس الكتاب بالعربية وبدأوا يشمئزون من دراسته، ولمس ذلك الدكتور الهلالي فسألهم عما إذا كانوا يفهمون ما يشرح بهم بالعربية، فردوا عليه قائلين: لا نريد أن ندرس هذا الكتاب باللغة العربية، إنما نريد اللغة الأوردية، وما أن سمع منهم هذا الرد العجيب الذي لم يكن يتوقعه في أي حال، طلب منهم أن يصبروا على هذه الطريقة أسبوعا، عسى أن يشعروا فيها بفائدة أدبية، وبعد مضي أسبوع كذلك لم يتغير حالهم وظلوا يدرسون الكتاب في جو التوتر والكراهية، ولكن العلامة لم ييأس وطلب منهم أن يثابروا على ما هم عيه أسبوعا آخر، وفي خلال ذلك التزم ببعض أساليب الإغراء والتفهيم، وما كاد ينتهي الأسبوع الثاني حتى استأنس الطلاب بتدريسه واعترفوا باستساغة أسلوبه العربي، وأبوا إلا أن يدرسوا الكتاب باللغة العربية.
هكذا استطاع الشيخ الهلالي أن يغرس حب اللغة العربية في عقول الطلبة، وينشئ جوا عربيا طيبا يعيش فيه الطلبة والأساتذة جميعا، فما من طالب إلا ويتمرن على الكلام بالعربية، وكذلك الأساتذة يحاولون أن يدرسوا موادهم بالعربية، الواقع أن ذلك كان نواة طيبة لغراس اللغة العربية، في دار العلوم التي أثمرت فيما بعد ثمارا يانعة، ونشأ هناك جيل من الأدباء يتذوق اللغة العربية والأدب العربي ويعيش الاهتمامات العربية.
الصحافة العربية في ندوة العلماء:
وازدهرت مجهودات العلامة الهلالي في مجال تعميم اللغة العربية وتكوين ذوق عربي خالص في جامعة ندوة العلماء، ونتيجة لذلك فقد تمهد الطريق إلى بدء صحافة عربية فيها، لتكون رابطة علمية وثقافية بينا وبين العالم الإسلامي، وذريعة لنشر الفكر الإسلامي والدعوة الإسلامية باللغة العربية في الناطقين بالضاد، ولتحقيق هذا الهدف الهادف قررت ندوة العلماء في عهد مديرها الكبير فضيلة الدكتور السيد عبد العلي الحسني، إصدار مجلة عربية شهرية باسم “الضياء” وصدر العدد الأول منها في شهر محرم 1351هـ – مايو 1932م، بإشراف العلامة الكبير السيد سليمان الندوي والعلامة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي، وكان رئيس تحريرها الأستاذ مسعود الندوي، ومعه زميله المخلص سماحة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي.
وقد كانت هذه المجلة نموذجا طيبا لمستوى الصحافة العربية الرفيع، وجديرا بأن تمثل ندوة العلماء الهلالي بهذه المجلة تأثير كبير في ازدهارها واتساع نطاق قراءتها في مراكز الثقافة في البلدان العربية، ولذلك فإنها لم تستمر أطول في أداء رسالتها بعد مغادرة الدكتور تقي الدين الهلالي ندوة العلماء إلى بلاده، ومما يعلم أن مدة إقامته في دار العلوم أربع سنوات كما أن عمر المجلة لم يمتد أكثر من أربع سنوات ولو أنها لم تحتجب إلا بعده بمدة.
معطيات عهده في ندوة العلماء:
غادر العلامة الهلالي دار العلوم لندوة العلماء، ولكنه وفق -بإذن الله- إلى إنشاء جيل من الأدباء والكتاب باللغة العربية ممن يتذوقون اللغة ويتقنونها كأحد أبنائها، منهم العلامة الأديب سماحة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي، وأديب العربية الكبير الأستاذ مسعود الندوي، والأديب العالم الشيخ محمد ناظم الندوي، وفضيلة الشيخ أبي الليث الندوي، والأديب الفاضل الأستاذ أحمد إسماعيل الحسني وغيرهم، وقدر الله سبحانه أن يثمر شجرة الأدب والبلاغة العربية التي غرسها الشيخ الهلالي في ندوة العلماء على أيدي هؤلاء الأدباء والكتاب، وخاصة سماحة الشيخ الندوي الذي أدى أمانة أستاذه بكل دقة وبراعة، وأصبحت ندوة العلماء في عهده منارا شامخا للعناية باللغة العربية كتابة وخطابة وتأليفا وتدريسا وصحافة، وهو الذي أعاد الثقة إلى أوساط علماء الهند ورجال المدارس الإسلامية باللغة العربية، وأثبت لهم بكتاباته الحية النابضة ومؤلفاته القيمة وخطاباته والقوية الدافقة، وبوضعه منهجا تعليميا باللغة العربية، يصلح من الابتدائية إلى العالية والدراسات العليا، أن اللغة العربية لغة حية عالمية صالحة لكي يعيش فيها الانسان من لحظة حياته الأولى إلى آخرها، كما أنه هو الذي وفقه الله تعالى لتربية وتخريج أجيال من الأدباء والكتاب والناطقين باللغة العربية والعائثين فيها، وازدهرت في عهده الذهبي الصحافة العربية الموضوعية ذات الطابع الأدبي واللون الدعوي، ولا يزال نطاق تأثيره العلمي والأدبي يتسع في ندوة العلماء ومدارسها على مر الأيام.
مدى إعجاب التلاميذ بالأستاذ المربي:
وقد ظل العلامة الهلالي مصدر استفادة كبير لتلاميذه الذين التفوا حوله، ولازموه طوال إقامته في ندوة العلماء، ولاسيما سماحة أستاذنا العلامة الندوي الذي لم يأل جهدا في الاستفادة العلمية والأدبية منه، ولازمه حتى في جولاته التي قام بها خلال هذه المدة، ذلك لكي تتم منه الإفادة في اللغة والتعبير الذي يعتمد عليه المرء في حياته المدرسية وحياته اليومية، وفي أوقات السفر والإقامة وفي المجالس العلمية والمناسبات الدعوية والأدبية.
ولما قام الشيخ الهلالي بزيارة المدارس الإسلامية في بنارس ومئو وأعظم كره ومباركفور (مدن شرقي الولاية الشمالية) رافقه سماحة الشيخ الندوي، كمترجم ودليل، واستفاد منه ما أمكن في هذه الجولات، إنه يعترف بصلته معه ولا يزال يعتز بإفادته العلمية والأدبية التي قيضها الله له منه، ولم تنقطع علاقته عنه يوما، بل وكلما واجهته مشكلة لغوية أو مسألة أدبية راجعه فيها، ولا أدر على ذلك من رسائل العلامة الهلالي التي تتضمن كتابه (رسائل الأعلام) الذي صدر منذ سنتين فقط.
ولما زار العلامة الندوي جامعة دمشق كأستاذ زائر في عام 1956م وألقى فيها محاضرات حول أعلام التاريخ الإسلامي على دعوة من عميد كلية الشريعة فضيلة الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله، اختار طريق بغداد في عودته منها إلى الهند، حرصا على أن يتشرف بزيارة أستاذه العلامة الهلالي في بغداد، ويستفيد منه ما أمكنه في المشكلات اللغوية والأدبية، وحكى لنا سماحته، أنه لما وصل إلى منزل أستاذه الهلالي في بغداد عرف الأستاذ تلميذه بعد مدة طويلة بصوته، من شدة ما كان يحبه ويؤثره على غيره، وسر غاية السرور بهذه الزيارة، رغم أنه كان قد فقد بصره في ذلك الحين، وما كان يراه بعينه، وبالمناسبة طلب منه سماحة الشيخ أن يقرأ عليه كتابا كما كان يقرأ عليه أيام دراسته وهو يتناوله بالتصويب والتصحيح دون مراعاة أو تكلف، وقد فعل.
شهادة وجيهة لمكانته العالية في العلم والأدب:
جاء ضمن ما تحدث عنه سماحة أستاذنا الكبير العلامة الندوي حول قدوم الهلالي إلى دار العلوم وتأثيره في أوساط الطلبة والأساتذة، اعترافا بمكانته العالية ونظره الواسع العميق في العلم والأدب، يقول:
“من معطيات عهد العلامة الدكتور السيد عبد العلي الحسني لإدارة ندوة العلماء، التي كان لها تأثيرها العميق في وضع دار العلوم التعليمي واتجاهها الأدبي، قدوم العلامة الهلالي المراكشي في دار العلوم وتعيينه كأستاذ كبير للأدب العربي ورئيس قسم له، والحق يقال: إن الأثر العلمي العميق الذي خلفه العلامة الهلالي في دار العلوم فريد من نوعه، إنه استطاع في خلال مدة قصيرة أن ينشئ فيها جيلا من كتاب العربية وأدبائها، وفي عهده الميمون صدرت مجلة “الضياء” العربية التي نالت اعترافا وإعجابا من الأدباء البارزين في العالم العربي، ومنذ ذلك الوقت افتتح في دار العلوم عهد جديد وأسلوب حديث لتعليم اللغة العربية والأدب العربي، وكان الدكتور السيد عبد العلي الحسني رحمه الله السبب الأكبر في استقدامه غلى دار العلوم، وفي نشاطه الكبير وشغفه بالتعليم والتربية فيها، ولا يزال العلامة الهلالي يعترف بما بذل هو والعلامة السيد سليمان الندوي من اهتمام كبير وتشجيع وتعاون في اشتغاله بالمنصب التعليمي بدار العلوم وإقامته في لكنهو، وقل من يعرف أن المجلس التنفيذي لندوة العلماء حينما اعتذر عن استمرارية وظيفته نظرا إلى الظروف المالية، تحمل هذان العالمان مصاريف الشيخ الهلالي لمدة ستة أشهر، وكان يهتم به سعادة الدكتور السيد عبد العلي بوجه خاص ويتعاون معه في كل الشؤون، حتى عينه المجلس التنفيذي من جديد في دورته القادمة بعد ستة أشهر”(1)
ويقول في كلمة تعريفية له في كتابه (رسائل الأعلام) ويصفه بأحسن ما يصف تلميذ أستاذه:
“هو العلامة الدكتور محمد تقي الدين بن عبد القادر الهلالي الحسيني المغربي من أساتذة المكتوب إليه وشيوخه، ومن كبار علماء العربية في هذا العصر وأصحاب التحقيق والإتقان في صحة الكلمات العربية وأصالتها وقواعد اللغة العربية، من صرف ونحو، واشتقاق وبلاغة، ومن أقوى الناس إنكارا على التغييرات المستحدثة المنقولة من اللغات الأجنبية، كان يرجع غليه أكير البيان المرحوم شكيب أرسلان والعلامة السيد رشيد رضا صاحب مجلة “المنار” ويتحاكمان إليه عند الاختلاف في صحة التعبير العربي (راجع “السيد رضا، أو إخاء أربيعين سنة” للأمير شكيب أرسلان).
ولد في سجلماسة (المغرب) وتعلم ودرس في المغرب بعدما شب عن الطوق وسافر إلى مصر والعراق والبلاد السعودية، ومكث هناك مدة في أيام المرحوم الملك عبد العزيز يدرس ويفيد، ثم قصد الهند لوحشة وقعت بينه، وبين المسؤولين، وأقام في مباركفور، وقرأ الحديث على العلامة عبد الرحمن المباركفوري صاحب تحفة الأحوذي، شرح سنن الترمذي (م1353) وأحبه، وأقر له بالفضل وكان في إحدى قدماته مقيما في بنارس عند صديقه الأستاذ الفاضل عبد المجيد البنارسي، وكان الشيخ خليل بن محمد قد تعرف عليه، وعرف فضله ومكانته في العلوم العربية، فذكره لمدير الندوة الدكتور السيد عبد العلي الحسني، فاستدعاه ليكون أستاذا للأدب العربي في دار العلوم، وذلك في سنة 1349هـ – (1930م)، فأجابه إلى ذلك، ومكث في دار العلوم نحو اربع سنوات 1349-1352هـ (1930-1933م) وأفاد مالا يفيد كثير من المعلمين في مدة أطول من ذلك (2).
كتاباته في مجلة “الضياء” :
لقد أسهم الأستاذ الهلالي في تعميم الذوق الأدبي في ندوة العلماء بكتاباته العربية الموضوعية في مجلة “الضياء” الشهرية، وحلى جيدها بمقالاته وبحوثه القيمة، حول مواضيع علمية وأدبية وتاريخية وثقافية، ففي العدد الأول عدد محرم 1351هـ نشر له مقال قيم عن اللغة العربية ما اقتبست من غيرها، بعنوان (سائح في اللغة العربية) في حلقات عديدة، وكتب عن الرموز العربية والهندية، وقارن بينهما مقارنة علمية وتاريخية ذات أهمية كبيرة، بعنوان (عود إلى الرموز العربية والهندية) في عدة حلقات كذلك، وكشف عن أغلاط مترجمي القرآن باللغة الانجليزية وبينها بغاية من الدقة والبراعة بعنوان (أغلاط مترجمي القرآن بالإنجليزية) وتحدث عن علل التعليم العربي في مدارس الهند الإسلامية بشيء كثير من الإيضاح ووصف علاجها في مقال ذي حلقات كثيرة بعنوان (المدارس الإسلامية في الهند وعللها) و (المعاهد الإسلامية في الهند) وتحدث عن اللغة العربية ومناهج تعليمها في مقال مستقل بهذا العنوان نفسه، وسجل ملاحظاته اللغوية والأدبية وفوائدها في عدة مقالات، بعناوين مختلفة، هكذا كان شديد العناية بالتعليم والتربية وبإخراج ما في إنائه بكل طريق ممكن، ولم يبخل بعلمه وغزارة مادته في أي حين ولا مناسبة، مع صراحته بقول (لا أدري) إذا أشكل عليه أمر أو مسالة لغوية، ذاك أنه كان مرهف الشعور بأمانة العلم ومسؤولياته، ولم تكن رؤيته التعليمية قاصرة أو محدودة.
وبعدما استقر الهلالي في ندوة العلماء بنشاطه التعليمي وإفاداته المنوعة، العلمية، والأدبية واللغوية، لمدة أربع سنوات من عام 1349 إلى 1352هـ الموافق (1930 إلى 1933م الميلادي) غادر إلى وطنه، وقدر له بعد ذلك أن يقيم في ألمانيا في مدينة “بون” ويحصل على درجة الدكتوراه من جامعتها، وفي خلال إقامته هناك اختار وظيفة المترجم العربي في القسم العربي للإذاعة الألمانية، ثم انتقل من هناك بعد الحرب الكونية الثانية إلى العراق حيث توطن في بغداد وعين أستاذ العلوم الإسلامية في كلية التربية بجامعة بغداد.
وسأتحدث في الحلقة القادمة ـ بإذن الله تعالى ـ عن زيارتي له في بغداد وملازمتي إياه للاستفادة العلمية والأدبية.
“للحديث بقية” (اضغط لقراءة الجزء الثاني)
الهوامش:
(1) تاريخ ندوة العلماء ج 2/ ص 416-417 (معربا)
(2) “رسائل الأعلام” ص 16-17.
سعيد الأعظمي الندوي
مجلة البعث الإسلامي: العدد 5، المجلد 32، محرم الحرام 1408هـ/ سبتمبر 1987م – ص: 80-90