ندبني الأستاذ رئيس تحرير مجلة (الوعي الإسلامي) إلى المشاركة في تحرير مقالات هذه المجلة المباركة التي أسست لإيقاظ المسلمين ونشر الوعي في نفوسهم ليزدادوا تبصراً واستنارة في أمر دينهم ودنياهم ويعيدوا للإسلام عزته ومجده ففكرت في الموضوع الذي أطرق بابه فبدا لي موضوع شريف يهم كل قارئ من المسلمين وكل طالب علم من المحصلين ألا وهو معرفة أهل الحديث نضر الله وجوههم فإنه موضوع مع شرفه وفضله قل من يشتغل به في هذا الزمان وإذا علمنا أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم هو خير الكلام بعد كلام الله تعالى ولا يمكن تدبر الكتاب العزيز ومعرفة معانيه إلا بالعلم بأحاديث نبيه الكريم لقوله تعالى في سورة النحل: {أنْزَلْنَا إِلًيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمُ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل: 44].
فالتفكر والتدبر للقرآن متوقفان على بيان الرسول صلى الله عليه وسلم والحديث هو الأصل الثاني من أصول الإسلام التي عليها تقوم الشريعة وبها تستنبط الأحكام. روى مالك في الموطأ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله” قال مؤلف تنقيح الرواة في تخريج أحاديث المشكاة: سنده هذا المرسل بحديث: “أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم” من رواية معقل بن يسار عند الحاكم بإسناد حسن. وأيضاً له شاهد عن ابن عباس يرفعه عند الحاكم والبيهقي “إني قد تركت فيكم ما أن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنة نبيه” الحديث وقال الحاكم: صحيح الإسناد. اهـ.
وفضائل علم الحديث كثيرة والمراد هنا ذكر نبذة في فضل أهل الحديث قبل ذكر تراجم أهل الحديث من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين فمن بعدهم.
قال أستاذي العالم الرباني عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري المتوفى سنة 1353هـ في مقدمة كتابه “تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي” ص:6 ما نصه: (وقد ورد في فضيلة علم الحديث وأهله أحاديث كثيرة وأنا أقتصر هنا على ذكر خمسة أحاديث.
الأول: روى الترمذي عن ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة” وقال: هذا حديث حسن غريب قال القاري في المرقاة شرح المشكاة: ورواه ابن حبان في صحيحه ذكره ميرك والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
قال ابن حبان عقب الحديث: في الخبر بيان صحيح على أن أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم في القيامة يكون أصحاب الحديث إذ ليس في هذه الأمة قوم أكثر صلاة عليه منهم.وقال غيره: لأنهم يصلون عليه قولاً وفعلاً.اهـ.
وقال الخطيب في كتابه شرف أصحاب الحديث: قال لنا أبو نعيم: هذه منقبة شريفة تختص بها رواة الآثار ونقلتها لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما يعرف لهذه العصابة نسخاً وذكراً.
وقال أبو اليمن بن عساكر: ليهن أهل الحديث هذه البشرى فقد أتم الله تعالى نعمه عليهم بهذه الفضيلة الكبرى فأنهم أولى الناس بنبيهم وأقربهم – إن شاء الله تعالى – وسيلة يوم القيامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنهم يخلدون ذكره في طروسهم ويجددون الصلاة والتسليم عليه في معظم الأوقات في مجالس مذاكرتهم ودروسهم فهم إن شاء الله تعالى الفرقة الناجية جعلنا الله منهم وحشرنا في زمرتهم. اهـ.
الحديث الثاني: روى الترمذي عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع” وقال هذا حديث حسن صحيح.
وفي الباب أحاديث أخرى وقال القاري: خص مبلغ الحديث كما سمعه بهذا الدعاء لأنه سعى في نضارة العلم وتجديد السنة فجازاه بالدعاء بما يناسب حاله وهذا يدل على شرف الحديث وفضله ودرجة طلابه حيث خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بدعاء لم يشرك فيه أحداً من الأمة ولو لم يكن في طلب الحديث وحفظه وتبليغه فائدة سوى أن يستفيد بركة هذه الدعوة المباركة لكفى ذلك فائدة وغنماً وجعل في الدارين حظاً وقسماً. اهـ.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: قال علماء الحديث: ما من رجل يطلب الحديث إلا كان على وجهه نضرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها”… الحديث.
قال: وهذا دعاء منه عليه السلام لمحلة علمه ولا بد بفضل الله تعالى من نيل بركته. اهـ.
وإلى هذه النضرة أشار أبو العباس العزفي بقوله:
أهل الحديث عصابة الحق *** فازوا بدعـوة سيـد الخلق
فوجوههم زهـر منضـرة *** لألاؤهـا كتألق البـرق
يا ليتني معـهم فيـدركني *** ما أدركـوه بها مـن السبق
الحديث الثالث: روى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اللهم أرحم خلفائي قلنا يا رسول الله ومن خلفائك ؟ قال: الذين يروون أحاديثي ويعلمونها الناس”.
قال القسطلاني في أرشاد الساري بعد ذكر هذا الحديث: ولا ريب أن أداء السنن إلى المسلمين نصيحة لهم من وظائف الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فمن قام بذلك كان خليفة لمن يبلغ عنه وكما لا يليق بالأنبياء عليهم السلام أن يهملوا أعاديهم ولا ينصحوهم كذلك لا يحسن لطالب الحديث وناقل السنن أن يمنحها صديقه ويمنعها عدوه فعلى العالم بالسنة أن يجعل أكبر همه نشر الحديث فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه حيث قال: “بلغوا عني ولو آية”. الحديث رواه البخاري.
قال المظهري: أي بلغوا عني أحاديثي ولو كانت قليلة. قال البيضاوي: قال: ولو آية ولم يقل: ولو حديثاً لأن الأمر بتبليغ الحديث يفهم منه بطريق الأولوية فإن الآيات مع انتشارها وكثرة حفظتها تكفل الله تعالى بحفظها وصونها عن الضياع والتحريف. اهـ.
وقال مالك رحمه الله تعالى: بلغني أن العلماء يسألون يوم القيامة عن تبليغهم العلم كما تسأل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وقال سفيان الثوري: لا أعلم علماً أفضل من علم الحديث لمن أراد به وجه الله تعالى أن الناس يحتاجون إليه حتى في طعامهم وشرابهم فهو أفضل من التطوع بالصلاة والصيام لأنه فرض كفاية. اهـ.
الحديث الرابع: روى البيهقي في المدخل عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين” كذا في المشكاة.
قال القسطلاني بعد ذكره من حديث أسامة بن زيد: وهذا الحديث رواه من الصحابة علي وابن عمر وابن عمرو وابن مسعود وابن عباس وجابر بن سمرة ومعاذ وأبو هريرة وأورده ابن عدي من طرق كثيرة كلها ضعيفة كما صرح به الدارقطني وأبو نعيم وابن عبد البر. لكن يمكن أن يتقوى بتعدد طرقه ويكون حسناً كما جزم به العلائي وفيه تخصيص حملة السنة بهذه المنقبة العلية وتعظيم لهذه الأمة المحمدية وبيان لجلالة قدر المحدثين وعلو مرتبتهم في العالمين لأنهم يحمون مشارع الشريعة ومتون الروايات من تحريف الغالين وتأويل الجاهلين بنقل النصوص المحكمة لرد المتشابه إليها.
وقال النووي في أول تهذيبه: هذا أخبار منه صلى الله عليه وسلم بصيانة هذا العلم وحفظه وعدالة ناقليه وأن الله تعالى يوفق له في كل عصر خلفاء من العدول يحملونه وينفون عنه التحريف فلا يضيع وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر هكذا وقع ولله الحمد وهو من أعلام النبوة ولا يضر كون بعض الفساق يعرف شيئاً من علم الحديث فإن الحديث إنما هو أخبار بأن العدول يحملونه لا أن غيرهم لا يعرف من شيئاً. اهـ.
على أنه قد يقال ما يعرفه الفساق من العلم ليس بعلم حقيقة لعدم عملهم كما أشار إليه سعد الدين التفتازاني في تقرير قول التلخيص وقد ينزل العالم بمنزلة الجاهل وصرح به الشافعي: ولا علم إلا مع التقى ولا عقل إلا مع الأدب ونظمته فقلت من بحر الطويل:
ولا خير في علم إذا لم يكن تقى *** ولا خير في عقل إذا لم يكن أدب
ولعمري أن هذا الشأن من أقوى أركان الدين وأوثق عرى اليقين لا يرغب في نشره إلا صادق تقي ولا يزهد فيه إلا كل منافق شقي.
قال ابن القطان: ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث.
وقال الحاكم: لولا كثرة طائفة المحدثين على حفظ الأسانيد لدرس منار الإسلام ولتمكن أهل الإلحاد والمبتدعين من وضع الأحاديث وقلب الأسانيد. اهـ.
واقتصر على هذا في ذكر أقوال أهل العلم في فضائل أهل الحديث نثراً وأما النظم فمن أجمل ما قيل في ذلك ما أنشده القسطلاني في مقدمة شرحه لصحيح البخاري لأبي بكر حميد القرطبي الأندلسي رحمه الله:
نور الحديث مبين فادنُ واقتبس *** واحد الركاب له نحو الرضى الندس
واطلبه بالصين فهو العلم أن رفعت *** أعلامه برباها يا ابن أندلس
فلا تضع في سوى تقييد شارده *** عمراً يفوتك بين اللحظ والنفس
وخل سمعك عن بلوى أخي جدل *** شغل اللبيب بها ضرب من الهوس
إلى أن قال:
واقف النبي وأتباع النبي وكن *** من هديهم أبدا تدنو إلى قبس
والزم مجالسهم واحفظ مجالسهم *** واندب مدارسهم بالأربع الدرس
واسلك طريقهم والزم فريقهم *** تكن رفيقهم في حضرة القدس
تلك السعادة أن تعلم بساحتها *** فحط رحلك قد عوفيت من تعس
وقد اقترح علي العالم السلفي محمد حسين الفقي الحجازي الجدي سنة 1341هـ حين حججت أول حجة تخميس هذه القصيدة وكنت مشغول البال بالاهتمام بالسفر إلى الهند في طلب علم الحديث فلما وصلت إلى دلهي عاصمة الهند واستقررت فيها استجابت القريحة لطلب العالم المذكور فنظمت تخميسها ونشرته في دلهي مع قصائد أخرى سميتها (الهدايات) وقد نقله بتمامه أستاذنا الأحوذي المتقدم ذكره مصدراً له بقوله: وقال بعض الأعلام أثبته هنا إلا بيتاً واحداً وهذا نص التخميس.
أن كنت تطلب علماً جد ملتمس *** وحرت إذ غم عنك الرطب باليبس
فاسمع لنصح لبيب أي محترس
نور الحديث مبين فادنُ واقتبس *** واحد الركاب له نحو الرضى الندس
واقطع علائق من تحصيله منعت *** تنظر شموس الهدى في الأفق قد طلعت
وحجب غي ترى عن قلبك ارتفعت
فاطلبه بالصين فهو العلم أن رفعت *** أعلامه برباها يا ابن أندلس
ولازم الدرس واغنم من فوائده *** لا تقنع الدهر من حلوى موائده
واشرب فديتك علا من موارده
ولا تضع في سوى تقييد شارده *** عمراً يفوتك بين اللحظ والنفس
دع الكلام فما فيه سوى الخطل *** وانبذ مجالسه تحفظ من العلل
فذاك شر ابتداع جاء بالخلل
وخل سمعك عن بلوى أخي جدل *** شغل اللبيب بها ضرب من الهوس
الله يعلم كم سيق من ضرر *** للناس من أجله في البدو والحضر
أقبح بها بدعة تدنى إلى سقر
إلى أن قلت:
ورد بقــلـبك عـــذباً مـن حـيـاضـهما *** تغسل بماء الهدى ما فيه من دنس
شد الرحال إليهم كي تجالسهم *** واحذر فديتك يوماً أن تعاكسهم
لا تحسدنهم ولكن كن منافسهم
والزم مجالسهم واحفظ مجالسهم *** واندب مدارسهم بالأربع الدرس
واطلب مودتهم وكن صديقهم *** وكن مجالسهم تشرب رحيقهم
وقرهم كلهم واعرف حقوقهم
واسلك طريقهم واتبع فريقهم *** تكن رفيقهم في حضرة القدس
في الشريعة فانظر في سماحتها *** كفيلة للنفوس باستراحتها
في حظرها حكمة وفي إباحتها
تلك السعادة أن تلمم بساحتها *** فحط رجلك قد عوفيت من تعس
المصدر: مجلة الوعي الإسلامي، السنة الرابعة – العدد 39 – غرة ربيع الأول 1388 هـ – مايو 1968 م
أصل المقال: