وسمت هذه السلسلة التي نسأل الله إتمامها على أحسن وجه بأهل الحديث وجعلت الحلقة الأولى في ذكر نبذة وجيزة في فضل أهل الحديث على أن تليها تراجم أهل الحديث وذكر أخبارهم التي ينشرح لها صدر كل مؤمن وكل طالب علم منصف فمن هو أول أهل الحديث وأحقهم بالتقدم؟
الجواب: هو أول المسلمين من هذه الأمة وسيد ولد آدم أجمعين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فتح له الله فتحاً مبيناً ونصره نصراً عزيزاً وأرسله مبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وجعل النصر والعزة مقرونين برايته ورايات من اتبعه إلى الأبد وجعل الذلة والصغار حليفين لمن خالف أمره ونبذ ما جاء به وراء ظهره. وإن كان كالرمل في العدد قال تعالى في سورة المؤمن (غافر) رقم 51-52:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} والظالمون المتعذرون يوم القيامة هم الذين عارضوا دعوته وسلكوا سبيلاً غير سبيلها وتولوا فريقاً غير فريقها قال تعالى في أول سورة النمل: {طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآَخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُون} ولما كان نسبه الشريف وسيرته الكريمة وغزواته المظفرة مشهورة ومعلومة عند القراء ومراجعتها سهلة في كل وقت أردت أن أذكر بدلها براهين صدق دعوته وكمال رسالته وإتمام نعمة الله عليه وعلى من اتبعه إلى يوم القيامة فإن كثيراً من الأغمار الجاهلين بهذه الدعوة ظنوا أن ما وعد الله لها من النصر والعلو خاص بزمان دون زمان ومكان دون مكان وقوم دون آخرين. وأول ما ابتدئ به حديث ابن عباس الذي أخرجه البخاري في صحيحه بإسناد كالشمس ليس دونها غمام وهو مما شهد به أبو سفيان بن حرب مما شاهده قبل إسلامه من الآيات.
فإن هذا الحديث مبني على أدق قواعد الجدل وموزون بالقسطاس المستقيم يجله الباحثون ويجهله السفهاء الجاهلون قال البخاري رحمه الله: حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع قال: أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم ودعا بترجمانه، فقال أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، فقال أبو سفيان فقلت: أنا أقربهم نسبا، فقال أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه ثم كان أول ما سألني عنه أن قال كيف نسبه فيكم قلت: هو فينا ذو نسب قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله قلت لا قال: فهل كان من آبائه من ملك قلت لا قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم فقلت: بل ضعفاؤهم قال أيزيدون أم ينقصون قلت: بل يزيدون قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه قلت لا قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول: ما قال: قلت لا قال: فهل يغدر قلت لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها قال ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة قال: فهل قاتلتموه قلت: نعم قال: فكيف كان قتالكم إياه قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه قال: ماذا يأمركم قلت: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة، فقال للترجمان قل له سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول فذكرت أن لا فقلت لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتسي بقول قيل قبله وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول: ما قال: فذكرت أن لا فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون وكذلك أمر الإيمان حتى يتم وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} قال أبو سفيان فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا فقلت لأصحابي حين أخرجنا لقد أمَر أمر بن أبي كبشة إنه يخافه ملك بني الأصفر فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام.
في هذا الحديث مباحث:
الأول هو حديث صحيح أخرجه البخاري في عشرة مواضع من صحيحه قاله الكرماني وقاله الحافظ في الفتح فرواية صالح وهو ابن كيسان أخرجها المؤلف في كتاب الجهاد بتمامها من طريق إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس وفيها من الفوائد الزوائد ما أشرت إليه في أثناء الكلام على هذا الحديث من قبل ولكنه انتهى حديثه عند قول أبي سفيان حتى أدخل الله علي الإسلام زاد هنا وأنا كاره ولم يذكر قصة ابن الناطور وكذا أخرجه مسلم بدونهما من حديث إبراهيم المذكور ورواية يونس أيضاً عن الزهري بهذا الإسناد أخرجها المؤلف في الجهاد مختصرة من طريق الليث وفي الاستئذان مختصرة أيضاً من طريق ابن المبارك كلاهما عن يونس عن الزهري بسنده بعينه ولم يسقه بتمامه وقد ساقه بتمامه الطبراني من طريق عبد الله بن صالح عن الليث وذكر فيه قصة ابن الناطور ورواية معمر عن الزهري كذلك ساقها المؤلف بتمامها في التفسير. أ هـ. وقد تبين لك أيها القارئ الكريم أن إسناد هذا الحديث في غاية الصحة أتفق على روايته البخاري ومسلم ولما كنت في برلين سنة 1941م كنت أطالع كتاباً لأحد السويديين المتعصبين ألفه باللغة الجرمانية وذكر فيه هذا الحديث فكذب به واستبعده وقال كلاماً قبيحاً لا أستطيع حكايته بتمامه وسبب تكذيبه الحقيقي هو شدة بغضه للإسلام ونظره إليه بعين السخط التي تبدي المساوئ.
أما السبب الذي أظهره فهو أن هرقل في الوقت الذي وصله كتاب النبي صلى الله عليه وسلم كان على أشد ما يكون من القوة وكان يستعد لغزو كسرى عظيم الفرس فكيف يخاف هذا الرجل البدوي.. وهذا كلام من أعمى الله بصيرته وطبع التعصب على قلبه فليس في الحديث أن هرقل خاف أن يغزوه النبي صلى الله عليه وسلم بجيش عرمرم ويخرجه من بلاد الشام في ذلك الوقت بعينه ولكنه علم بما عنده من العلم بالكتب السماوية من ظهور خاتم النبيين ولِوُفور عقله بعد ما سمع صفات النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه حق أرسله الله ليظهره على الدين كله وينسخ به الأديان المحرفة السابقة ونتيجة ذلك الحتمية خروج الروم من بلاد العرب وكذلك وقع ولما وصلت في القراءة إلى ذلك الكلام القبيح غضبت وألقيت الكتاب على الأرض وكانت عندي كاتبة جرمانية فنظرت إلي نظرة استنكار وكأنها تقول هب أن المؤلف تعسف وعدل عن الحق فما ذنب الكتاب؟ فأخذت الكتاب وفتحته وقلت لها اقرئي فلما فرغت من قراءة ذلك الكلام عذرتني فيما فعلت إما مداراة وهو الظاهر أو اقتناعاً بما فعلته أنه صواب.
البحث الثاني في سرد البراهين العقلية التي استدل بها هرقل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم:
البرهان الأول: المدة التي ماد فيها النبي صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب هي صلح الحديبية وما بعده إلى أن نقضت قريش العهد فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم وتم فتح مكة واختيار هرقل لأقربهم نسباً لا يخلو من حكمة. فإن القريب سواء أكان صديقاً أم عدواً يعرف من أخبار قريبه ما لا يعرفه البعيد وكذلك أمره أن يجعل أصحابه من ورائه وأن يكذبوه أن كذب فإن هرقل كان يعلم أن العرب حتى في جاهليتها وخصوصاً أشرافها يستقبحون الكذب ولا يرضون به أن يؤثر عنهم وقد صرح أبو سفيان لشدة عداوته للنبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يمنعه من الكذب إلا الخوف من أن يحدث أصحابه أهل مكة إذا رجعوا إليهم أنه كذب وهذا البرهان هو سؤال هرقل عن نسب هذا الرجل الذي يدعي أنه نبي أهو شريف أم وضيع فأخبره أبو سفيان أن نسبه شريف وإنما سأل هرقل هذا السؤال علماً منه بأن الله أرحم بعباده من أن يبعث رسولاً ذا نسب وضيع في قوم ويكلفهم أتباعه وطاعته لأن النفوس تنفر من ذلك كل النفور ولذلك نرى الملوك دائماً من ذوي الأنساب الشريفة بخلاف الفقر فإنه لا يضر النسيب الحسيب كما قال الشاعر:
قال تعالى في قصة طالوت من سورة البقرة رقم 247:{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أهـ. ولم نر رسولاً أرسله الله من أهل بيت وضيع محتقر في قومه وبهذا احتج المهاجرون على الأنصار حين قالوا منا أمير ومنكم أمير فقال المهاجرون: أن العرب لا تذعن إلا لهذا الحي من قريش ولذلك كانت الإمامة في قريش بنص الحديث الصحيح ولم يخف هذا على هرقل فقال للترجمان: قل له سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.
البرهان الثاني: قال هرقل في سؤاله لأبي سفيان بن حرب فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ ذكرت أن لا قال هرقل في الأجوبة وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول ذكرت أن لا فقلت لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يتأسى بقول قيل قبله. أ هـ.
قال كاتب هذا المقال كل من نظر بإمعان في تاريخ المقالات والدعوات والطرائق والمذاهب يجد أكثرها قد اتبع فيه اللاحق السابق حذوك القذة بالقذة حتى في الأمم التي ينتشر فيها العلم فكيف بأمة أمية ! فلذلك سأل هرقل أبا سفيان هل دعا أحد من العرب عموماً ومن أهل مكة خصوصاً إلى دعوة مماثلة لدعوة هذا الرجل فلم يسمع أبا سفيان إلا أن أجاب بالنفي فضم هرقل هذه الحجة إلى سابقتها وأخذت نفسه تميل إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم استناداً إلى هذه الحجج المنطقية التي هي الغاية في الدقة والاستقصاء.
البرهان الثالث: قال هرقل لأبي سفيان فهل كان من آبائه من ملك؟ قال أبو سفيان: لا قال هرقل: وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه. أ هـ.
ولا يخفى أن من أعظم الحوافز والدوافع للدعوات أن يقصد الرجل بها استرداد ملك أبيه أو أمارته أو رئاسته أو مشيخته والأمثلة في التاريخ كثيرة وفي الزمان الحاضر أيضاً وهذا من طبيعة البشر التي لا يكادون ينفكون عنها في كل زمان ومكان حتى أهل الثروة إذا ورثوها عن آبائهم يرون أنفسهم أهلاً لها وإذا رأوا رجلاً غنياً حديث الثروة احتقروه وذموه واستكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً حتى أن الأقرع والأبرص الواردين في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري حين جاء الملك ليختبر شكرهما وذكرهما بما كانا عليه من القرع والبرص مع الفقر قال كل واحد منهما كاذباً إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر فعاقبهما الله وردهما إلى ما كانا عليه من العاهة والفقر وهذا يدل على دقة نظر وعلم بأحوال البشر.
البرهان الرابع: قوله فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفائهم؟ قال أبو سفيان بل ضعفائهم قال هرقل وسألتك أشراف الناس أتبعوه أم ضعفائهم فذكرت أن ضعفائهم اتبعوه وهم أتباع الرسل.
قال محمد تقي الدين كاتب هذا المقال كل من درس الدعوات والمبادئ يرى أن الطبقة الفقيرة تكون مهضومة الحق مظلومة مستعبدة موطوءة بالأقدام فهم يتربصون الدوائر بظالميهم ومستعبديهم ليتخلصوا من نير ظلمهم ويفكوا من أسرهم فمتى رأوا دعوة إلى تأسيس حكم جديد بادروا إلى الاستجابة راجين أن يكون خلاصهم على يد صاحب تلك الدعوة وبرهان هذا في كتاب الله عز وجل قال تعالى في سورة هود رقم 27: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}. وقال تعالى في سورة الأنعام رقم 52: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: قال الإمام أحمد بسنده إلى ابن مسعود قال: (مر الملأ من قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وبلال وعمار وخباب وغيرهم من ضعفاء المسلمين وفيه فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك، أهؤلاء الذي منّ الله عليهم من بيننا ونحن نصير تبعاً لهؤلاء أطردهم فلعلك أن طردتهم نتبعك فنزلت الآية) وهذا المعنى مذكور في مواضع من كتاب الله سبحانه.أهـ.
ودعاة الشيوعية في هذا الزمان ينادونهم بلغاتهم العجمية بما معناه: أيها المعدمون في جميع البلدان اتحدوا يعنون بذلك أن المعدمين أكثر عداداً من الموسرين والموسرون يستغلون جهودهم ويعيشون على حسابهم عيشة ترف وبذخ مع أن هؤلاء المعدمين لو أتحدت كلمتهم وامتنعوا من العمل لساءت حال الموسرين وصار الأمر بيد المعدمين يتصرفون في الأموال التي هي ثمرة جهودهم ولكن شتان ما بين دعوة الرسل ودعوة الشيوعيين فإن الرسل عليهم الصلاة والسلام يعدلون بين الناس ويأخذون للضعيف حقه من القوي ولكنهم يتركون أمر الغنى والفقر بيد الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر فدعوتهم تسعد الأغنياء والفقراء ولا تحاول تغيير سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً. أهـ.
البرهان الخامس: قال هرقل لأبي سفيان أيزيدون أم ينقصون؟ قال أبو سفيان: بل يزيدون قال هرقل: وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. أ هـ. أقول كل دعوة كتب لها النجاح فإن أتباعها يزيدون ولا ينقصون ومن لم يكن في زيادة فهو في نقصان وذلك أن المستجيبين للدعوة تتحسن أحوالهم وأخلاقهم فيراهم نظراؤهم من الأشقياء فيرغبون أن يصيروا مثلهم وبذلك تنتشر الدعوة وتضطرد الزيادة !. أهـ.
البرهان السادس: قال هرقل لأبي سفيان فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه قال أبو سفيان: لا قال هرقل: وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب أقول كل من دخل في دين أو عقيدة على علم وبصيرة واطلاع تام يغتبط به ويزداد له حباً على مر الإيمان هذا إذا كان ذلك حقاً ففي كل يوم ينكشف للداخل فيه من فضائله ما يزداد به غبطة وابتهاجاً بخلاف العقائد الباطلة المظلمة إذا زخرفها المزخرفون فإن الداخل فيها تنكشف له كل يوم ظلمة جديدة ويبدو له عيب كان خافياً عليه فيسوء ظنه ويرتد عن ذلك الدين أو العقيدة أو المذهب فالإسلام كمال قال الشاعر:
البرهان السابع: قال هرقل لأبي سفيان فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، قال أبو سفيان: لا قال هرقل: وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا فقد أعرف أن لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. أ هـ.
أقول وهذه الحجة من أقوى الحجج العقلية التي لا يرتاب فيها عاقل لأن الكذب رذيلة يتنزه عنها كل إنسان له شرف ومروءة وقد رأينا أن أبا سفيان بن حرب على كفره وطغيانه ورغبته في محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذله في ذلك كل مرتخص وغال لم يرض لنفسه أن يكذب على عدوه أمام هرقل ومن سما بنفسه وضن شرفه ومروءته فامتنع من الكذب على الناس يستحيل أن يسمح لنفسه بالكذب على الله ولما رأى عبد الله بن سلام الحبر الإسرائيلي وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فما هو إلا أن رأيته فعلمت أن وجهه ليس بوجه كاذب. أ هـ.
البرهان الثامن: قال هرقل لأبي سفيان فهل يغدر؟ قال أبو سفيان: لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها قال ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة قال هرقل وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر. أهـ.
استدل هرقل في جملة ما استدل به على صدق النبي صلى الله عليه وسلم بتنزهه عن الغدر فالملوك والرؤساء قد يغدرون إذا وجدوا فرصة في إهلاك عدوهم يخافون أن لا يجدوا مثلها.
أما الرسل عليهم الصلاة والسلام فإنهم منزهون عن الغدر لأن دعوتهم إلى مكارم الأخلاق تتنافى مع الغدر ولا تجتمع معه البتة ولأن الله ضمن لهم النصر وجعل لهم العاقبة فلا حاجة بهم إلى الغدر لأنهم واثقون بوعد الله كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ } وقول أبي سفيان فلم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة يدلنا على شدة بغضه للنبي وحرصه أن يتنقصه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً فإن أقراره بهذه الفضائل حجة عليه وعلى كل مخالف وقوله منه ونحن في مدة أي في معاهدة على الهدنة لا ندري أيفي بما عاهدنا عليه في المستقبل كما فعل في الماضي أم يغدر.
البرهان التاسع: قال هرقل لأبي سفيان فهل قاتلتموه قال أبو سفيان: نعم قال فكيف قتالكم إياه قال: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه. أهـ.
أقول وهذا شأن رسل الله مع أعدائهم إذا اقتتلوا معهم لأن حكمة الله اقتضت أن يدعو الرسول إلى الإيمان بالله وإقامة دين الله فإذا آمنت به جماعة من الناس قاتل بهم من كفر به ليثبت الأجر للمجاهدين ويعذب الله الكافرين بأيدي المؤمنين كما قال تعالى في سورة التوبة رقم 14-15: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ولو أن الله أرسل على الكافرين صواعق فأحرقهم لكان ذلك إجبارا لمن آمن على الإيمان والله لا يجبر الناس على الإيمان لأن المجبر لا يستحق ثواباً وإنما يستحق الثواب من أختار طاعة الله واتباع رسله بعد أن تبين صدقهم وعرف الحق فاتبعه والباطل فاجتنبه.
البرهان العاشر: قال هرقل لأبي سفيان ماذا يأمركم قال يقول أعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً واتركوا ما يقول آبائكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة قال هرقل وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين. أ هـ.
عرف هرقل بعلمه وعقله زيادة على ما تقدم من البراهين أن الذي يأمر بهذه الأمور وهو متصف بتلك الصفات هو صادق فيما أدعاه من النبوة والرسالة.
والأمور المذكورة هنا ستة أمور:
أولها عبادة الله وحده لا شريك له فلا يصلح دين ولا دنيا إلا بجعل العبادة خالصة لله وحده لا يعبد معه أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا صالح ولا طالح وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم لهرقل يوضح هذه الأمور كل التوضيح فإنه قال فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى). فوصف نفسه بالعبودية لله التي هي أعلى منزلة عند رسل الله والرسالة التي كلفهم بها، وجعل في قبولها سعادة البشر، ووصف هرقل بعظيم الروم أي كبيرهم وسيدهم، ثم قال على من اتبع الهدى وهذا إنصاف وحزم، والسلام هو السلامة وهي لا تكون إلا لمن اتبع الهدى وهرقل يزعم أنه يتبع الهدى ولا يكون متبعاً للهدى حتى يؤمن بجميع رسل الله ومنهم خاتم النبيين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن آمن به وبمن قبله فله السلامة وإلا فلا سلامة له وقوله أسلم تسلم من جوامع الكلم في غاية البلاغة وهو مبين للذي قبله ومؤكد له فلا يسلم من عذاب الله إلا من أسلم لله وآمن بما جاءت به رسله كلهم ويؤتك الله أجرك مرتين أجر الإيمان بعيسى وأجر الإيمان بمحمد فإن توليت أي أعرضت عن قبول دعوة الإسلام فإن عليك أثمك وأثم الأريسيين أي الفلاحين أتباعك ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم أصل دعوته وأساسها وهو توحيد الله تعالى: يا أهل الكتاب يعني اليهود والنصارى تعالوا إلى كلمة أي أقبلوا إلى كلمة مستوية بيننا وبينكم ليس فيها تحيز لجانبنا ولا جانبكم وهي كلمة لا إله إلا الله ومعناها أن نعبد الله مخلصين له الدين ولا نشرك به شيئاً كيفما كان ذلك الشيء ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً آلهة من دون الله كما فعلتم أنتم معشر النصارى فإنكم اتخذتم عيسى وأمه إلهين من دون الله ثم اتخذتم غيرهما من رهبانكم آلهة من دون الله فإن تولوا أي أعرضوا فقولوا أيها المسلمون لهم اشهدوا بأنّا مسلمون موحدون لا نعبد إلا الله ونؤمن بكل ما جاء به رسل الله من آدم إلى محمد لا نفرق بين أحد منهم وهذا هو الدين القيم والصراط المستقيم.
الأمر الثاني ترك ما كان يعبده آبائهم وهو يقتضي ترك الشرك جملة وتفصيلاً فإن من عبد الله وعبد معه غيره ولو شيئاً قليلاً لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً قال تعالى يخاطب سيد خلقه محمداً صلى الله عليه وسلم في سورة الزمر رقم 65: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وإذا تأملنا هذا الخطاب وشددته علمنا أنه موجه إلينا لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الذنوب كلها والأدلة المحذرة من الشرك كثيرة في كتاب الله وسنة رسوله.
الأمر الثالث الصلاة وهي بعد التوحيد أعظم الفرائض وأنفعها كتب عمر ابن الخطاب رضي الله عنه إلى عماله يقول أن أهم أمركم عندي الصلاة فمن حافظ عليها كان لما سواها أحفظ ومن ضيعها كان لما سواها أضيع. أ هـ.
ومن المعلوم أن العامل مكلف بحفظ الأمن وإقامة العدل بين الناس وأخذ الزكاة والخراج وإقامة الحدود والجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتنفيذ كل ما أمر الله به ورسوله من الشريعة الغراء وقد علمنا من كلام عمر أن صلاح الدين والدنيا يتوقفان على المحافظة على الصلاة ومتى اختلت المحافظة على الصلاة اختل كل شيء والآيات والأحاديث التي تحث على المحافظة على الصلاة وتبين فضلها كثيرة في كتاب الله وسنة رسوله وأما الصدق فهو خلق شريف ما شاع في أمة إلا سادت وعزت وانتصرت على عدوها في الداخل والخارج وضده الكذب والفجور ما شاع في أمة إلا هبطت إلى الدرك الأسفل وذلت وتشتت أمرها وهذا مشاهد بالعيان في كل زمان ومكان وأدلته في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصى.
الأمر الرابع العفاف وهو حفظ البطن والفرج واللسان وسائر الجوارح من الفواحش ما ظهر منها وما بطن وبه تنال سعادة المجتمع وتقع بين الناس الألفة والمحبة والتعاون وتلك هي أسباب السعادة:
الأمر الخامس: الصلة وهي البر والإحسان إلى الأقارب قال الله تعالى يخاطب سيد الخلق صلى الله عليه وسلم في سورة الإسراء 26: {وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} وقال تعالى في سورة النساء رقم 36: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى… الآية}.
وأخرج البخاري في كتاب الأدب ومسلم في كتاب البر والصلة بالإسناد المتصل إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى قال فذلك لك” ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرءوا أن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} وفي رواية للبخاري قال الله تعالى: {من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته}.
المصدر: مجلة الوعي الإسلامي، السنة السابعة – العدد 76 – غرة ربيع الأخر 1390 هـ – 25 مايو 1971 م