قال الحافظ أبو عبد الله شمس الدين الذهبي في كتابه ” تذكرة الحفاظ ” ما نصه:
أبو بكر الصديق رضي الله عنه، أفضل الأمة وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤنسه في الغار وصديقه الأكبر وصديقه الأشفق ووزيره الأحزم، عبد الله ابن أبي قحافة عثمان القرشي التيمي قد أفردت سيرته في مجلد وسط، وكان أول من احتاط في قبول الأخبار، فروى ابن شهاب عن قبيصة بن ذويب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث، فقال ما أجد لك في كتاب الله شيئاً، وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لك شيئاً ثم سأل فقام المغيرة فقال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطيها السدس فقال له هل معك أحد فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه. ومن مراسيل ابن أبي مليكة أن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال أنكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد أختلافاً فلا تحدثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه.
فهذا المرسل يدلك على أن مراد الصديق التثبت في الأخبار والتحري، لا سد باب الرواية، ألا تراه لما نزل به أمر الجدة ولم يجده في الكتاب كيف سأل عنه في السنّة فلما أخبره الثقة ما اكتفى حتى استظهر بثقة آخر ولم يقل حسبنا كتاب الله كما تقوله الخوارج.
وحدث يونس عن الزهري أن أبا بكر حدث رجلاً حديثاً فاستفهمه الرجل إياه فقال أبو بكر هو كما حدثتك، أي أرض تقلني إذا أنا قلت ما لم أعلم ؟ وصح أن الصديق خطبهم فقال إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار.
وقال علي بن عاصم وهو من أوعية العلم لكنه سيء الحفظ أن إسماعيل ابن أبي خالد عن قيس ابن أبي حازم قال سمعت أبا بكر الصديق يقول إياكم والكذب فإن الكذب مجانب الإيمان، قلت صدق الصديق، فإن الكذب رأس النفاق وآية المنافق والمؤمن يطبع على المعاصي والذنوب الشهوانية لا على الخيانة والكذب، فما الظن بالكذب على الصادق الأمين صلوات الله عليه وسلامه، وهو القائل أن كذبا علي ليس ككذب على غيري، ومن يكذب على نبي له بيت في النار وقال من يقل على ما لم أقل… الحديث، فهذا وعيد لمن نقل عن نبيه ما لم يقله مع غلبة الظن أنه ما قاله فكيف حال من تهجم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعمد عليه الكذب وقوله ما لم يقل، وقد قال صلى الله عليه وسلم من روى عني حديثاً يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين، فإنا لله وإنا إليه راجعون ما ذي إلا بلية عظيمة وخطر شديد ممن يروى الأباطيل والأحاديث الساقطة المتهم نقلتها بالكذب فحق على المحدث أن يتورع في ما يؤديه وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكي نقلة الأخبار ويجرحهم جهبذاً إلا بإدمان الطلب والفحص عن هذا الشأن وكثرة المذاكرة والسهر والتقيظ والفهم مع التقوى والدين المتين، والأنصاف والتردد إلى مجالس العلماء والتحري والإتقان وألا تفعل.
فدع عنك الكتابة لست منها **** ولو سودت وجهك بالمداد
قال تعالى عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فإن آنست يا هذا من نفسك فهماً وصدقاً وديناً وورعاً وألا فلا تتعن، وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأي ولمذهب فبالله لا تتعب، وأن عرفت أنك مخلط مخبط مهمل لحدود الله فأرحنا منك فبعد قليل ينكشف البهرج وينكب الزغل ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله فقد نصحتك فعلم الحديث صلف، فأين علم الحديث ؟ وأين أهله ؟ كدت ألا أراهم إلا في كتاب أو تحت تراب.
نعم فرأس الصادقين في الأمة الصديق وإليه المنتهى في التحري في القول وفي القبول.
توفي الصديق رضي الله عنه لثمان بقين من جمادي الآخرة من سنة ثلاث عشرة وله ثلاث وستون سنة (63).
توضيحات وشروح لما تقدم:
1- قوله: مؤنس في الغار هذه فضيلة من فضائل الصديق خصه الله بها وذكرها في كتابه العزيز، قال تعالى في سورة التوبة آية 40: {إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا}.
قال الإمام ابن كثير في تفسيره: يقول تعالى {إِلا تَنْصُرُوهُ} أي تنصروا رسوله فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه كما تولى نصره {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ} أي عام الهجرة لمّا همَّ المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه فخرج منهم هارباً صحبة صديقه وصاحبه أبي بكر بن أبي قحافة فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام حتى يرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهم ثم يسيروا نحو المدينة فجعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه يجزع أن يطلع عليهم أحد، فيخلص إلى الرسول عليه الصلاة والسلام منهم أذى فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يسكنه ويثبته ويقول: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ). أ.هـ.
فهذه المزية مع شهادة الله له بالصحبة من المناقب التي خصه الله بها !
2- قوله: وكان أول من احتاط في قبول الأخبار من المعلوم أن أعداء الإسلام الأولين والآخرين حاربوا الإسلام وكادوا له، فبعضهم حاربه، بوضع الأحاديث، وبعضهم حاربه بردها وعدم قبولها، وكلا الطرفين مذموم، وخير الأمور الوسط، فأهل الحق يثبتون في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومتى صح لهم حديث عضوا عليه بالنواجذ وتلقوه بالقبول، واعتقدوه وعملوا به وإمامهم في ذلك الصديق الأكبر، فلما جاءته الجدة تلتمس نصيبها من الميراث أخبرها أن كتاب الله لم ينص على شيء من الحق لها في الميراث، ولم ينف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل لها حقاً، ولكن نفى علمه بذلك وهذا شأن الأئمة المحققين المتثبتين ثم سأل أصحاب رسول الله هل عندهم علم بأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لها شيئاً فلما ثبت عنده الحديث برواية عدلين أعطاها حقها وهو السدس.
3- قوله: ما ذي إلا بلية… إلخ، إذا استمعنا إلى الخطباء في المساجد والوعاظ وما يذكرونه من الأحاديث وينسبونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدون عزو إلى مخرج ولا معرفة لصحيح أو ضعيف أو موضوع رأينا العجب العجاب، هذا مع أن كتب الحديث الصحيحة التي خدمها الأئمة بالشرح وبينوا صحيحها ومعانيها ميسورة، فلم يرد الخطباء والوعاظ بل والمدرسون في المعاهد الدينية أن يكلفوا أنفسهم دراسة تلك الكتب وأخذها من أهلها العارفين بها ونقل الأحاديث منها على نور وبصيرة، بل أقبلوا على دواوين الخطب التي تجمع كل غث وسقيم من فضائل الأيام والشهور، فتجد عندهم لكل شهر خطبة خاصة يجمعون فيها أحاديث واهية أو موضوعة في فضل ذلك الشهر أو يوم مخصوص منه، ولا يهمهم من شؤون الناس الذين يستمعون خطبهم إلا ذلك، وقد يذكرون خرافات وأباطيل يقطع كل من يسمعها ببطلانها، وقد أشتكى الأمام الذهبي من أهل زمانه فلو عاش إلى هذا الزمان لرأى ما لم يخطر له ببال فإلى الله المشتكى.
ذهب الرجـال المقتدى بفعـالهم **** والمنكـرون لكـل أمـر منـكـر
وبقيت في خـلف يزكى بعضهم **** بعضاً ليسكت معور عن معور
4-قوله: وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأي ولمذهب فبالله لا تتعب… إلخ.
ما أصدق هذا الكلام وأحسنه فإن طالب علم الحديث لا ينتفع به ويكون من أهله إلا إذا عقد العزم على إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما صح عنه لا يمنعه من ذلك رأي كان من قبل يراه أستاذه ولا مذهب ينتسب إليه بل ينشد دائماً قول القائل:
دعوا كـل قول غير قـول محمد **** فـما آمـن في دينه كمخـاطر
بل يجعل نصب عينيه قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].
5- قوله: أين علم الحديث وأين أهله ؟ كدت ألا أراهم… إلخ، هكذا يقول الإمام الذهبي المتوفى سنة 748هـ وكان عصره مشرقاً عامراً بحفاظ الحديث ونقاده فقد ألف الحافظ ابن حجر العسقلاني (كتاب الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) وذكر فيه جمعاً غفيراً من الحفاظ المحدثين وهو أحد أئمتهم، فكيف بزماننا هذا وماذا نقول فيه أكثر من (لا حول ولا قوة إلا بالله).
فوائد من سيرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
الأولى: ولد أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر، وفي الإصابة للحافظ ابن حجر أن عائشة رضي الله عنها قالت: تذاكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ميلادهما عندي فكان النبي صلى الله عليه وسلم أكبر. أهـ.
ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل أي في العام الذي غزا فيه الحبش مكة بالفيلة فردهم الله على أعقابهم خاسرين (أنظر تفسير سورة الفيل).
الثانية: صحب النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وكان أول من آمن به من الرجال على الصحيح واستمر معه طول إقامته بمكة ورافقه في الهجرة وفي الغار وفي المشاهد كلها إلى وفاته عليه الصلاة والسلام، وكانت الراية معه يوم تبوك وحج في الناس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع، واستقر خليفة بعده، ولقبه المسلمون خليفة رسول الله، فمن ينتقصه يريد أن يستر الشمس بالغربال فهو
كناطح صخرة يوماً ليوهنها **** فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
وفي مثله ينشد أيضاً:
يا ناطح الجبل الراسي بهامته **** أشفق على الراس لا تشفق على الجبل
وما أحسن قول المتنبي:
وفي تعب من يحسد الشمس ضوءها **** ويجهد أن يأتي لها بضريب
الثالثة: روى أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه الجم الغفير من الصحابة والتابعين منهم عمر وعثمان وعلي، وهم الخلفاء بعده وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عمر وحذيفة وزيد بن ثابت وخلق لا يتسع المقام لذكرهم.
الرابعة: روى سعيد بن منصور بسنده إلى عائشة قالت: اسم أبي بكر الذي سماه به أهله عبد الله ولكن غلب عليه اسم عتيق.
الخامسة: كان أبو بكر رضي الله عنه أبيض نحيفاً خفيف العارضين معروق الوجه ناتئ الجبهة يخضب بالحناء والكتم – والخضاب بالحناء والكتم قريب من السواد وهو إلى السواد أقرب منه إلى الحمرة التي تنشأ عن الخضاب بالحناء – وقد صح عن جماعة من الصحابة أنهم كانوا يخضبون بالحناء والكتم هو الذي يسمى (بالوسمة) وقد قلت في ذلك شعراً:
إني لأخضب بالحناء والكتم **** أقفوا بذلك خير العرب والعجم
محمداً وأناساً من صحابته **** كانوا مصابيح تجلو داجي الظلم
السادسة: قال الحافظ في الإصابة: وأخرج أبو يعلى بسنده إلى عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بفناء البيت إذ جاء أبو بكر فقال صلى الله عليه وسلم (من سره أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى أبي بكر ).
السابعة: قال الحافظ: وقال ابن إسحاق كان أبو بكر مؤلفاً لقومه محبباً سهلاً، وكان تاجراً ذا خلق ومعروف وكانوا يألفونه لعلمه وتجاربه، وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به. فأسلم على يديه عثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف. أهـ.
قال الحافظ: وأخرج أبو داود في الزهد بسند صحيح عن هشام بن عروة أخبرني أبي قال: أسلم أبو بكر وله أربعون ألف درهم وأخبرتني عائشة أنه مات وما ترك ديناراً ولا درهماً.
الثامنة: قال الحافظ: وأخرج يعقوب بن سفيان في تاريخه بسنده إلى هشام عن أبيه قال: أسلم أبو بكر وله أربعون ألفاً فأنفقها في سبيل الله، وأعتق سبعة كلهم يعذب في الله أعتق بلالاً وعامر بن فهيرة ونذيرة والنهدية وابنتها وجارية بني مؤمل وأم عبيس.
التاسعة: قال الحافظ: وأخرج الدارقطني في الإفراد من طريق أبي إسحاق عن أبي يحيى قال لا أحصي كم سمعت علياً يقول على المنبر أن الله عز وجل سمى أبو بكر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم صديقاً، انتهى مستفاداً من الإصابة.
فوائد أخرى من الاستيعاب للحافظ أبي عمر يوسف بن عبد البر رحمه الله:
الأولى: كان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله هذا قول أهل النسب الزبيري وغيره.
الثانية: قال فيه حسان بن ثابت يمدحه:
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة **** فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها **** بعد النبي وأوفاها بما حملا
والثاني التالي المحمود مشهده **** وأول الناس من صدق الرسلا
وثاني أثنين في الغار المنيف وقد **** طاف العدو به إذ صعدوا الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا **** خير البرية لم يعدل به رجلا
وقال فيه أبو محجن الثقفي:
وسميت صديقاً وكل مهاجر **** سواك يسمى باسمه غير منكر
سبقت إلى الإسلام والله شاهد **** وكنت جليسا بالعريش المشهر
وبالغار إذ سميت بالغار صاحبا **** وكنت رفيقاً للنبي المطهر
قوله: وكنت جليسا بالعريش المشهر، يعني أن أبا بكر يحرس النبي صلى الله عليه وسلم في العريش الذي جعل له في غزوة بدر، فرافقه في العريش كما رافقه في الغار.
الثالثة: قال أبو عمر قال صلى الله عليه وسلم: (ما نفعني مال، ما نفعني أبي بكر) معناه ما نفعني مال مثل ما نفعني مال أبي بكر لأن ما الأولى نافية والثانية مصدرية.
الرابعة: قال أبو عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوا لي صاحبي أي أبا بكر، فانكم قلتم لي كذبت وقال صدقت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلام البقرة والذئب آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر).
ومعنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه أن بقرة تكلمت وأن ذئباً تكلم ثم قال لهم آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر، فشهد لهما بتصديقه في ما أخبر به من هذا الأمر الخارق للعادة، وهذه منقبة لهما، فويل لمن يعاديمها ويجحد فضلهما أنه لمن الخاسرين.
الخامسة: قال أبو عمر: قال عمرو بن العاص يا رسول الله من أحب الناس إليك، قال عائشة، قلت: من الرجال، قال أبوها، وروى مالك عن سالم بن أبي النضر عن عبيد بن حنين عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام، لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر).
السادسة: قال أبو عمر روى سفيان بسنده إلى أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها أنهم قالوا لها ما أشد ما رأيت المشركين بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان المشركون قعوداً في المسجد الحرام فتذاكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقول في آلهتهم فبينما هم كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فقاموا إليه وكانوا إذا سألوه عن شيء صدقهم فقالوا ألست تقول في آلهتنا كذا وكذا، قال: بلى، قال: فتشبثوا به بأجمعهم فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقيل له أدرك صاحبك فخرج أبو بكر حتى دخل المسجد فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس مجتمعون عليه فقال {ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم} قال فلهوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبي بكر يضربونه، قالت: فرجع إلينا فجعل لا يمس شيئاً من غدائره إلا جاء معه وهو يقول تباركت يا ذا الجلال والإكرام.
السابعة: قال أبو عمر وروينا من وجوه عن أبي أمامة الباهلي قال: حدثنا عمرو بن عبسة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بعكاظ فقلت يا رسول الله من اتبعك على هذا الأمر قال (حر وعبد، أبو بكر وبلال) قال: فأسلمت عند ذلك. أ.هـ.
الثامنة: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مبايعته بالخلافة، لما ظهر لهم من أمارات تدل دلالة قاطعة على أن النبي صلى الله عليه وسلم ارتضاه للخلافة بما تقدم من كونه أحب الناس إليه وتقديمه للصلاة بالناس، وروى أبو عمر بسنده إلى محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن شيء فأمرها أن ترجع إليه فقالت يا رسول الله أرأيت إن جئت فلم أجدك تعنى الموت فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم تجدني فأتي أبا بكر، قال الشافعي في هذا الحديث دليل على أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر.
التاسعة: قال أبو عمر بسنده ذكره عن عبد الله بن زمعة بن الأسود قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عليل فدعاه بلال إلى الصلاة فقال: لنا مروا من يصلي بالناس، قال: فخرجت فإذا عمر في الناس وكان أبو بكر غائباً فقلت: قم يا عمر فصل بالناس، فقام عمر فلما كبر سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته، وكان مجهراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين أبو بكر ؟ يأبى الله ذلك والمسلمون، فبعث إلى أبي بكر فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس طول علته حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أيضاً واضح في ذلك.
ومناقب أبي بكر رضي الله عنه أكثر من أن يتسع لها هذا المقال، والمقصود هنا أنه رضي الله عنه هو أول أهل الحديث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسأل الله أن يجعلنا منهم وينفعنا بمحبتهم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المصدر: مجلة الوعي الإسلامي، السنة السابعة – العدد 80 – شعبان 1391 هـ – 21 سبتمبر 1971 م