التعصب للعقيدة
قال تعالى في سورة الممتحنة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيل}.
تفسير الآية:
قال ابن كثير في تفسيره: كان سبب نزول هذه السورة الكريمة قصة حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أن حاطبا هذا كان رجلا من المهاجرين، وكان من أهل بدر أيضا، وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم، بل كان حليفا لعثمان.
فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة، لما نقض أهلها العهد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهيز وقال: اللهم عم عليهم خبرنا، فعمد حاطب هذا فكتب كتابا وبعثه مع امرأة من قريش إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم عليه رسول الله من غزوهم، ليتخذ بذلك عندهم يدا، فأطلع الله تعالى على ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم استجابة لدعائه وبعث في أثر المرأة فأخذ الكتاب منها. اهـ
وخبر حاطب هذا رواه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم، واللفظ لأحمد عن على بن أبى طالب قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة قلنا: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقن الثياب قال: فأخرجت الكتاب من عقاصها، فأخذنا الكتاب فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطب، ماهذا؟ قال: لا تعجل علي، إني كنت إمرأ ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتى، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: إنه صدقكم، فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل اللـه اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
نستفيد مما تقدم فوائد، الأولى: أنه كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وأعدائه المشركين من أهل مكة هدنة مدتها عشر سنين، وقعت المعاهدة عليها في صلح الحديبية على نحو عشرة أميال من مكة سنة ست للهجرة.
الثانية، أن أهل مكة نقضوا تلك المعاهدة. الثالثة أن النبـى صلى الله عليه وسلم عزم على غزو مكة لنقض أهلها العهد. الرابعة أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين الساكنين معه في المدينة ممن حضر غزوة بدر مـن خيار الصحابة اسمه حاطب بن أبى بلتعة كان له أهل ومال بمكة، ولم يكن من أهل مكة أنفسهم، بل كان غريبا، وكان حليفا لعثمان، وعثمان قد هاجر إلى المدينة أيضا فخاف على أهله وماله من أهل مكة، ولم تكن له فيهم قرابة تدافع عن أهله وماله، فعلم أن أهل مكة إذا سمعوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم متوجها لغزوهم ينتقمون مـن أولاد حاطب وينهبون ماله.
الخامسة أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله أن يعمى خبر غزوه لمكة عن أهل مكة حتى يأخذهم على غفلة فاستجاب الله دعاءه.
السادسة أن حاطبا أراد أن يتملق إلى أهل مكة فيخبرهم بغزو النبي صلى الله عليه وسلم أرضهم ليبقوا على أولاده وماله فلا يلحقون بهم أذى.
السابعة أنه كتب رسالة وبعثها مع امرأة مشركة كانت في المدينة فركبت بعيرها وتوجهت إلى مكة تبلغ الرسالة إلى المشركين.
الثامنة أن الله أطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على ما صنع حاطب. التاسعة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ثلاثة فرسان، هم على بن أبى طالب والزبير بن العوام والمقداد بن الأسود وقال لهم: توجهوا إلى روضة خاخ، وهو موضع في طريق مكة، فإنكم ستجدون هناك ظعينة، أي امرأة مسافرة تحمل رسالة إلى العدو لتنـذره فخذوا منها الرسالة.
العاشرة – أن الفرسان الثلاثة توجهوا إلى المكان المذكور فوجدوا المرأة راكبة على بعيرها تجد السير إلى مكة.
الحادية عشرة ـ أنهم قالوا لها: هاتى الرسالة التى معك فأنكرت وقالت ما معي رسالة، فهددوها بنزع ثيابها إن لم تخرج الرسالة، فلما رأت الجد أخرجت الرسالة من ضفائر شعر رأسها.
الثانية عشرة ـ أنهم أتوا بها الى النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعاقب المرأة، ولكنه دعا حاطبا فسأله، ما حملك على هذا العمل الذى هو خيانة ظاهرة.
الثانية عشرة ـ أن حاطبا اعترف بذنبه، واعتذر بخوفه على أهله وماله من أهل مكة، وانه ثابت على الايمان الله ورسوله، ولـم يرد بذلك أن يخون المسلمين وأن يعين عليهم عدوهم، ولكن غلب عليه حب المال والأولاد.
الرابعة عشرة ـ أن عمر بن الخطاب الذى كان معروفا بشدته في الحق، التمس من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن له في قتله.
الخامسة عشرة – أن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عن حاطب، ولم يأذن لعمر في قتله، وعلل ذلك بأن له حسنات كثيرة وأعمالا في الخير عظيمة، أعظمها أنه كان ممن قاتل في غزوة بدر، فتلك الحسنات الكثيرة تشفع في هذا الذنب الواحد كما قال الشاعر:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد *** جاءت محاسنه بسالف شفيع
وهذا يدلنا على بعد نظر النبي صلى الله عليه وسلم وحسن قيادته، وكمال عقله وحكمته، فكيف يخسر فارسا من أفضل فرسانه لهفوة ارتكبها.
السادسة عشرة ـ أن الله استجاب دعاء رسوله، فأخفي خبر الغزو عن أهل مكة، ولم يخسر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بفعلة حاطب شيئا.
السابعة عشرة – أن حب المال والأولاد قد يفتن الرجل، فيوقعه في الخطيئة، وإن كان من الصالحين.
الثامنة عشرة، وهى من أجل الفوائد تفسير اتخاذ الاعداء اصدقاء وأولياء، وهذا يخفى على كثير ممن يدعى العلم، فضلا عن غيرهم، فإن كثيرا من الناس يخطئون في فهم أعداء الإسلام خطأ فاحشا، فيظنون أن كل من لم يكن مسلما، كاليهود والنصارى والمجوس والصابئة وغيرهم هو عدو للإسلام، ثم يضيفون إليه خطأ آخر، وهو أنه يجب على المسلم أن يضمر له العداوة، وأن ينفذها متى قدر عليها، ولو الغش والكذب والخداع والغدر. وقد علمت مما تقدم فساد هذا الظن، وان أعداء الإسلام. الذين لا توجد بينهم وبين المسلمين معاهدة، والحرب بين الفريقين قائمة كما كان الأمر بين أهل مكة والمسلمين. واتخاذهم أولياء وأصدقاء إنما هو إعانتهم على محاربة المسلمين بالتجسس وكشف أسرار المسلمين، وإرشاد الاعداء الى مكان الضعف في المسلمين وما أشبه ذلك كما سيأتى ذلك فيما بعد إن شاء الله.
أما اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الاديان الذين يعيشون مع في دولة واحدة، وقد أمنهم أولوا الأمر على عقيدتهم وأنفسهم وأموالهم، وهم في عداد الرعايا المواطنين فإن كل اعتداء عليهم يعد خيانة للإسلام، وخفرا لذمة المسلمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة. بمعنى أن من استحل إلحاق الضرر بالمعاهدين الذين لهم ذمة الله ورسوله فقد كفر بالله وخان الله ورسوله، فهو مستحق لدخول النار والخلود فيها.
وليس هذا استنباطا مني أو من المفسرين يحتمل أن يكون خطأ وأن يكون صوابا، بل هو صريح نص القرآن. قال تعالى بعد الآيات الأولى من هذه السورة مباشرة 8- 9 {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين، وأخرجوكم دياركم، وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم، فأولئك هم الظالمون}.
قال القاسمي في تفسيره: هذا ترخيص من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم. فهو في المعنى تخصيص لقوله {يا أيها الـذيـن آمنوا لا تتخذوا عدوي…} الخ أي لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين من أهل مكة، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم، وتقسطوا إليهم، أي تفضوا إليهم بالبر، وهو الإحسان، والقسط، وهو العدل فهذا القدر من الموالاة غير منهي عنه، بل مأمور به في حقهم.
مجلة البعث الإسلامي: العدد 10 – المجلد 11 – 22 ربيع الأول 1387 هـ – يوليو 1967م – ص: 45