مناظرة في مسألة القبور والمشاهد: (1) (2) (3) (4) (5) (6)
(المقام الثلاثون) قوله سيما أن أول من شيد قبر أمير المؤمنين (عفى الله عنه) هو هارون الرشيد خليفة المسلمين في عصره، وتابَعه على ذلك سائر الخلفاء حتى عبد الحميد خان التركي، فإنهم لم يزالوا يجددون عمارته.
أقول: لم يأت السيد مهدي بدليل يصح به ما نقله عن الرشيد، وأنا لا أدري أول من بنى القبر المنسوب إلى أمير المؤمنين علي (كرم الله وجهه). ولكني أذكر أني قرأت في بعض كتب شيخ الإسلام – وهو من أثبت الناس في النقل – أن أول من بنى المشاهد وسنها للناس هم الشيعة، وظني بهارون الرشيد أنه لا يفعل ذلك، ولا يبلغ به الجهل إلى هنالك، فإن صح ذلك عنه قلنا كان ماذا ؟ غير معصوم فعل ذنبًا فهو إلى الله، وأقوال هارن الرشيد وأفعاله ليست شرعًا يحتج بها إلا عند الشيعة الذين يعتقدون أنه من أظلم الناس إن لم يكفروه، بل المفهوم من كلام بعضهم تكفيره، ولا عند أهل السنة الذين يعتقدون أنه خليفة المسلمين وأفعاله كأفعال غيره من الأمة، ليست حجة ولو لم تخالف نص الرسول، فكيف إذا خالفته، وليت شعري أي فائدة في الاحتجاج بأفعال الملوك، وقد حبس الرشيد الكاظم رضي الله عنه حتى مات في حبسه، فلو قال لك قائل: هذا خليفة المسلمين يجوز له تعزير من خرج عليه أو توقع خروجه بالنصوص الصحيحة، بل يجوز له قتل من خرج عليه، لا نعلم في ذلك خلافًا بين أهل السنة، فهل كان في حبسه للكاظم محسنًا أم مسيئًا ؟ فما جوابك ؟ وبالاحتجاج بفعل الملوك يتأول المتأولون قتل من قتله بنو أمية وبنو العباس في دولتيهم من أهل البيت وغيرهم، مع أن أكثرهم قُتَلوا بلا حق، وبلغ ببعضهم التأول إلى أن قال في قتل الحسين إنما قُتل بسيف جده يريد بذلك أنه خرج على الإمام، وقد أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بقتل من خرج، وهذه زلة من الزلات صدرت ممن قالها. وسبب ذلك كله هو الغلو في الملوك، وجعل كل ما صدر منهم شرعًا يدان به، وهذا مسلك وخيم لا يرضى به أهل العلم، بل يجب أن تعرض أقوال الناس وأفعالهم كائنين من كانوا على ما جاء به الرسول، فما وافقه فهو الحق وما خالفه فهو باطل، ولو فعله أو قاله خليفة أو إمام كبير، فلا معصوم إلا النبي (صلى الله عليه وسلم).
أما قوله: إن ما شيده المنتسبون إلى السنة من القباب أكثر مما شيده الشيعة، فقد يكون صحيحًا، والظاهر أن المبتدعين من المنتسبين إلى السنة والشيعة في بناء القباب والغلو في المقبورين فيها سواسية، وبدعة القباب ضلالة أتباعها شياطين الجن وشياطين الإنس {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (الأنعام: 112).
(المقام الحادي والثلاثون) أطال السيد مهدي في لوم صاحب المنار وتعنيفه والنيل منه، وليته تجنب ذلك لا لأنه لا يجدي نفعًا في الحجاج، وإنما يوغر الصدور ويكثر به اللجاج. ومن العجائب قوله: يحق للشيعة ولكل مسلم أن يعدوا تشييد تلك القبور الشريفة من أعظم القربات؛ لأن الجهات القاضية برجحان زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور أهل بيته تستدعي اجتماع المؤمنين من سائر الأقطار والكون فيها؛ للصلاة وسائر العبادات، وذلك موجب لإعداد محال واسعة حول القبور تكون مجمعًا للزائرين، وهي تفتقر إلى بناءات فخمة واقية لنفس القبور والفُرش التي حولها، والقناديل المسرجة ليلاً لقراءة القرآن والأدعية، وحافظة لمن يزور القبور من الحر والبرد والمطر وعواصف الرياح.
أقول هذا الكلام فيه منكرات تقشعر منها الجلود، فيا أسفا لصدوره من أحد العلماء المتبوعين في الدين، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وسأختصر الجواب عنه اختصارًا، فقد طال الكلام جدًا. كيف يكون ما لعن النبي فاعله وأخبر باشتداد غضب الله عليه مباحًا؛ فضلاً عن أن يكون قربة؛ فضلاً عن أن يكون من أعظم القربات ؟ وأما زيارة القبور فهي مشروعة ولا تشد لها الرحال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى)، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري عيدًا وصلوا عليّ حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني)؛ ولنهي حسن بن حسن وعلي بن الحسين عن إتيان قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم سندًا، ولقول الله تعالى {لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (النساء: 171)، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) وغير ذلك، ومن وصل قبر نبي أو صالح فليسلم، ويدعو لصاحب القبر وينصرف كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل وكذا أصحابه، فلا حاجة إلى قبة أو فرش ولا قنديل إلا من أراد أن يحادّ الرسول فيتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد وأعيادًا، ويتعرض للعنة الله واشتداد غضبه، ويتخذ القبور أوثانًا، فإنما حسابه عند ربه وجزاؤه عليه {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (يوسف: 21).
متى شرع الله الحج لغير البيت العتيق ؟ ومتى شرع الله الاجتماع لذكر في غير المساجد المأذون فيها ؟ ولِم يسافر إلى قبر نبي أو صالح ؟ إن كان مراده الاتعاظ والتذكرة فهي حاصلة برؤية قبور بلده كفارًا كانوا أو مسلمين، وإن كان قصده الدعاء لصاحب القبر فليدع في مكانه والله سميع عليم، وتقدم حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره (صلى الله عليه وسلم) عيدًا، ونهي أهل البيت (عم) عن إتيانه للسلام والدعاء، فلا حاجة إلى القباب ولا منفعة فيها، بل فيها مضرة وأي مضرة؛ لأنها نفق منها يتنزل إلى دركات الشرك، فالخير والقربة والبر في هدمها وتسوية القبور، وتركها كما كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء، وما أحدث الناس بعدهم في الدين إلا شرًّا.
(المقام الثاني والثلاثون) قوله: فإن بيت النبي وبيوت أهل بيته من أعاظم البيوت التي أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه كما روى السيوطي ما دل عليه في تفسير هذه الآية الكريمة، وإن تلك البيوت مما يجب احترامها وتعظيمها في حال حياتهم فكذا قبورهم، وإن تعظيم بيوتهم في حال حياتهم إنما هو لوجودهم فيها فكذا قبورهم؛ لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون.
أقول الاحتجاج بما رواه السيوطي محتاج إلى ذكر الإسناد وتصحيح الخبر، والسيوطي في الدر المنثور ذكر الخبر المشار إليه، وحاصله أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر قول الله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} (النور: 36) ببيوت الأنبياء، فسأله أبو بكر عن بيت علي وفاطمة أهو منها ؟ فقال: (نعم من أفاضلها) وعزاه لابن مردويه بلا سند كعادته، ولم يلتزم أن لا يذكر فيه إلا الصحيح، بل يذكر فيه ما ورد صحيحًا كان أم ضعيفًا، فالاحتجاج به والحال هذه فيه ما فيه، سلمنا أنه صحيح فأي علاقة له في مسألة النزاع؛ لأن الله لم يقل في قبور أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، ولا فسرها النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره بذلك، وأكثر المفسرين على أنها المساجد، وفسرت ببيت النبي صلى الله عليه وسلم وببيت عليّ في الخبر المتقدم، وعلى هذا التفسير يكون المراد بالرفع الاحترام، وهو أن لا يدخلها أحد إلا بإذن كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} (الأحزاب: 53) فدلت الآية على تحريم دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه وتحريم كل ما يؤذي النبي فيها كالاستئناس للحديث، ويلحق بيوت النبي في ذلك بيت علي وفاطمة وبيوت سائر بناته، بل وسائر بيوت المسلمين لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (النور: 27) ولا يخفى أن بيوت النبي وبيوت آله أعظم حرمة من بيوت عامة الناس، وأي دلالة في ذلك على جواز البناء على القبور والصلاة عندها، وقد امتثل الصحابة ما أُمروا به من تعظيم بيوت النبي ورفعها، ولم يبن أحد فيها قبة، ويقصدها للصلاة والدعاء، وإنما يصلي فيها أهلها ومن أذنوا له في دخولها، أما تحري الصلاة والدعاء فيها كالمساجد فلم يشرع لا في حياتهم ولا بعد مماتهم، ولو سلمنا أن تحري الصلاة والدعاء مشروع في بيوت النبي وآله، ما دل ذلك على مشروعية الصلاة والدعاء عند قبورهم، وقياس قبورهم على بيوتهم في مشروعية الصلاة والدعاء عند قبورهم فاسد؛ لأنه مصادم للنصوص الناهية عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد؛ ولأنه قياس مع الفارق، فإن البيوت يستحب لأهلها أن يتخذوا فيها مساجد كما تقدم في حديث عائشة، والقبور ليست كذلك والبيوت يستحب لأهلها أن يجعلوا فيها نوافلهم أو شيئًا منها كما تقدم في حديث (لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا) ولا كذلك القبور؛ فإن الصلاة عندها محرمة وإن قصد بها التبرك والتعظيم كانت أحرم، وأيضًا البيوت ينتفع بها غير أهلها ولا كذلك القبور والبيوت يجلس فيها وتوطأ بإذن أهلها وتُبنى وتشيد بخلاف القبور، وكون الأنبياء والشهداء أحياء في قبورهم لا يقتضي جواز إتيانهم للصلاة والدعاء، والنظر إلى وجوههم وسؤالهم، وتلقي العلم منهم، والشكوى إليهم من أفعال الكفرة والمنافقين والظلمة والتحاكم إليهم، وسؤالهم أخذ الحق من الظالم وتغيير المنكر وغير ذلك مما هو مختص بالحياة الدنيوية، وقد ورد أن الناس يأتون الأنبياء واحدًا بعد واحد يسألونهم الشفاعة في فصل القضاء يوم القيامة؛ لأنهم حينئذ يرونهم ويسمعون كلامهم كما في الحياة الدنيا بخلاف الحياة البرزخية، فلا يجوز ولا يمكن ذلك فيها؛ ولذلك لم يشرعه الله تعالى ولا فعله السلف الصالح ولا من تبعهم بإحسان، وبقية كلام السيد مهدي يفهم جوابه مما سبق.
وليكن هذا آخر ما أكتب في الحكم بهذا القضية؛ راجيًا أن يكون مقبولاً عند الله والمؤمنين، وأسأل الله أن يشرح صدور من كتبوا في هذه القضية جميعًا إلى اتباع ما أنزل الله على رسوله بلا تغيير ولا تبديل، وأن يجمعنا وإياهم على الهدى وينزع ما نزغه الشيطان في صدور المسلمين من الغل، حتى يكونوا كالبنيان المرصوص وكالجسد الواحد، فيحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، ويغفر لنا ما طغى به القلم {ربنا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا} (البقرة: 286) إلى آخر السورة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
قال كاتبه محمد بن عبد القادر الهلالي عفا الله عنه: كتبته في مدة يسيرة وأنا مشغول البال بالتأهب للسفر إلى الحج – يسره الله على أحسن حال – ومكتنف بأشغال وافرة، وكل ذلك يمهد لي سبيل المعذرة عند من يقف عليه من الأفاضل، فيغضي عما فيه من القصور والتقصير {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق: 7).