2- تعريف الأدب
تقدم أن هذا الناقد الذي نسميه بصيرا -كما تسمي العرب اللديغ سليما- إنما قصد شتم العرب وتنقيصهم وهو في ذلك كما قال شاعرهم:
كناطح صخرة يوما ليوهنها *** فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
وكيف ينتقد أدبهم بلا أدب وهو صفر الوطاب، خاوي الوفاض، يتعب المصحح في إصلاح أخطائه بله ركاكة نظمه؟ وهذا مضرب المثل “تزبب وهو حصرم” ويا ليته حين سولت له نفسه هذه المجازفة أتى بيوت البحث من أبوابها، ونقل عن أئمة الأدب العربي أقوالهم فيه، ونماذج من منظومهم ومنثورهم، ثم ذكر ما يعن له من الشبهات وما يتخيله من الخلل. ولكن لم يفعل ذلك وإنما أورد نتفا مبثورة، وتهور فزعم أن أدباء العرب في جميع الأعصار والأمصار والأطوار أطبقت عليها، حسبما فهمه هو منها، فأخطأ خطأ مزدوجا، وجاء بإثم مضاعف، لأن ما نقله لا يمثل رأي أدباء العرب، وما فهمه هو غير ما يفهمه أهل العلم حتى من الأجانب فضلا عن أدباء العرب في العصر الحاضر. فإن توهم أن الجو خلا له كما قيل:
خلا لك الجو فبيضي *** واصفري و نقري ما شئت أن تنقري
لا بد من أخذك يوما فاحذري
فقد أخطأ حسابه، فليعلم أن ريحه لاقت إعصارا، وأن للأدب العربي حماة وأنصارا.
وقد أغرى أعداء العرب كثيرا من الأدعياء الأقوياء قبله ليستنقصوا أدبهم ويصدوهم عنه فلم يتركوا وسيلة إلا استعملوها، فباءوا بالفشل والخزي، ووقعوا على صخرة الأدب العربي فتحطموا وحق عليهم الخزي وانقلبوا خاسرين، والعرب قناتهم لا تلين لغامز، كما قال قائلهم:
فإن قناتنا يا عمرو أعيت *** على الأعداء قبلك أن تلينا
وسننظر تعريف هذا النابغة للأدب، ثم نورد بحول الله تعريف العرب والعجم له، حتى يعلم المسكين أنه نفخ في غير ضرم، ونقول له مؤنبين:
أطرق كرا اطرق كرا *** إن النعامة في القرى
قال الناقد البصير: “ولم يعلموا أن الأدب فن يمثل ألوان الحياة من خير وشر وحسن وقبح، ويكشف عن خوالج النفس ولواعج القلب” قال حضرته “فذلك شيء لا يكاد يعرفه أدباء العرب الأقدمين (لحن)”
(أ) هذا التعريف العبقري لك، أم لأخيك، أم للذئب؟ فمن ذا الذي وضعه، وهل أجمع عليه أدباء العصر أم هم فيه مختلفون؟ أو ليس الأجدر بك أن تتأنى بعد ما نزل عليك الوحي من سماء العبقرية تحمله ملائكة سحر البيان فتعرضه أولا على أدباء العراق ولا تزال بقية منهم باقية، وإن كانت ثقافتهم في نظر الجاهل المتهور قديمة بالية، ثم تعرضه على المجمع اللغوي بمصر، ويطرح وحيك الأدبي على بساط البحث فإما خضعت له الأعناق، فصعدوا بالوحي والموحي إليه إلى السبع الطباق، وإلا كان حقه أن يرجم بالبصاق ولعل هذا العبقري في غنى عن أدباء العصر لأنهم أيضا لا يكادون يفقهون له حديثا.
بأي لغة نزل عليك الوحي؟ لعله بالسريانية، إذ الحياة في لغة العرب وعند كل عاقل لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، ضرورة أنها أمر معنوي وهي ضد الموت، فلله درك ودر عبقريتك إذ جعلت للحياة ألوانا كأنها قوس قزح. ولعلك جاعل لها طعوما وروائح وأشكالا وحجما الخ.
فإن زعمت أن لفظ الحياة هنا مستعمل في مجازه لا في حقيقته فاذكر إن كنت ناسيا واعلم إن كنت جاهلا، إن المجاز لا يستعمل في الحدود والتعاريف. والذي يريد أن يتفلسف ويحشر نفسه في علماء المنطق ويذكر فساد التعريف يجب عليه أن يعد تعريفا صحيحا جامعا مانعا، أما الخلط والخبط وقول هذا فاسد وذاك صحيح، فكل أحد يستطيعه ولا سيما إذا خلا الجو من حماة الحمى الذين يحاسبون الواقع في حدوده حسابا عسيرا.
وبعد فتعريفه هذا غير جامع ولا مانع، أما كونه غير جامع فلأنه بعد التمحل له بتفسير الحياة بالمعيشة – كما يستعمله الأعجمون – فإن الأدب غير منحصر في إعطاء صورة المعيشة وكشف خواطر النفس ولواعج القلب وأما كونه غير مانع، فإنه لم يذكر عبارة تدل على أن ذلك التمثيل وذلك الكشف يكونان بعبارة أو كتابة، فيدخل فيه التمثيل المسرحي الصامت، وتمثيل المخيل المعروف بالسينما، والتمثيل بالفانوس السحري، وتمثيل بعض الحيوان الراقي، وإشارة الأبكم، والقصص بالتصوير الخ. فإن التزم دخول هذه الأشياء وعدها أدبا فقد استوى عنده الإنسان والحيوان الأعجم، والمتكلم والأبكم. ولن يستطيع التزام ذلك لأنه نوه بالعلوم اللسانية وجعلها ركنا عظيما من أركان الأدب وصرخ بأن الأديب وإن بلغ في جودة القريحة كل مبلغ لا يمكنه أن يضرب بسهم في الأدب إلا بمعرفة الصرف والنحو والبلاغة. أهكذا يكون تعريف رجل طعن في كلام الأولين؟ وتالله ما فعل ذلك لضعف في حجتهم ولا لخلل في أدبهم، وإنما فعل ذلك لكونهم ليس لهم أسطول ولا قوات جوية ولا أرضية كما لغيرهم:
الناس من يلق خيرا قائلون له *** ما يشتهي، ولأم المعدم الهبل
والآن وقد ظهر فساد تعريفه، نعقبه بذكر ما في الكتب القليلة التي بين أيدينا الآن من الكلام على الأدب و”يكفي من السوار ما أحاط بالمعصم”
قال الإمام ابن خلدون في (المقدمة) ما نصه: -هذا العلم لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وغنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الملكة من شعر عالي الطبقة، وسجع متساو في الإجادة، ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة يستقري فيها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع ذكر بعض أيام العرب يفهم به ما يقع في أشعارهم منها، وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة، والمقصود بذلك كله ألا يخفى على الناظر شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه، لأنه لا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه، فيحتاج إلى تقديم جميع ما يتوقف عليه فهمه.
ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف. انتهى المراد منه.
فأنت ترى أن العلامة ابن خلدون أشار في أول كلامه إلى عدم إمكان حد هذا العلم، واخبر أن المقصود منه ثمرته وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور، ثم بسط القول في الوسائل التي تحصل بها تلك الثمرة. ثم انظر إلى لطف الإشارة في قوله “فيجمعون لذلك ما عساه تحصل به الملكة” أي ما يرجى أن تحصل به الملكة، إشارة إلى أن حصولها ليس ضربة لازب لكل من درس كتب الأدب.
أفبعد هذا ينعب غراب بأن الإمام ابن خلدون يجهل معنى الأدب ويحده بحفظ أشعار العرب والأخذ من كل علم بطرف، وإن كان الحافظ والآخذ لم تحصل له ثمرة ولا ملكة وإنما هو ببغاء أو آلة الحاكي.
لا جرم أن من زعم ذلك يكون قد افترى على ابن خلدون كذبا إن كان يعلم ما يقول، وإلا فهو يهرف بما لا يعرف.
والآن وقد رأيت كلام ابن خلدون في الأدب، وعرفت علو نفسه وتحقيقه إن كنت من أهله أسوق لك شيئا من كلام علماء الفرنجة، لأن الكاتب أشار إلى أنه يعلم شيئا بل يحيط بالأدب العصري، وتبجح بذلك ولم يأت ببرهان على دعواه، إذ لم ينقل شيئا عن أحد من أعلام الأدب في العصر الأخير.
وأنا أعلم أن أكثر هؤلاء القاذفين المقذوفين المتهورين الخابطين صفر من العلوم الغربية والشرقية. ولو كان لهم علم لأغناهم عن التكسب بالكذب والبهت ورمي أعلام الأمم الضعيفة بما هم منه براء، وغمط فضلهم تزلفا ومداجاة لأعدائهم، أو تشبها بالخونة السماسرة الذين سمنوا بعد الهزال من أكل لحوم أممهم المهضومة. ألا ساء ما يأكلون، وبئس ما يزرون.
قيل في المعلمة البريطانية “انسيكلوبيديا بريطانيكا” في مادة (أدب) ما ترجمته: الأدب لفظ عام، لفقد الحد الحقيقي، يمكن أن يقال فيه “أفضل عبارة مكتوبة عن أسمى فكر” يعني أبلغ العبارات من أبدع الفكر. وقيدها بالكتابة لأن أدب كل أمة وكل عصر عندهم هو ما يوجد من كتبهم ومدوناتهم ونقوشهم.
فقد رأيت أن ما قالته المعلمة الانكليزية في طبعتها الرابعة عشرة سنة 1929 هو بعينه ما قاله ابن خلدون منذ ما ينيف على خمسة قرون.
وملخص كلامهما معا: أن الحد الحقيقي لهذا الفن غير ممكن، وأن ثمرته هي الإجادة في قسمي الكلام وهما النظم والنثر، وأن الأديب من حصلت له الملكة في ذلك.
فأين ما تشدق به الناقد المسكين من قوله العرب القدماء وكرره مرارا إرادة التحقير، فقد بان أن القدم ليس في أدب العرب لأنهم معلمو العالم والناس عالة عليهم ولا سيما في علم الأدب. وإنما القدم والصدأ والكلال في فهم هذا الأديب الذي هو من الذين :
يقولون أقولا ولا يعلمونها *** إذا قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
(يتبع)
محمد تقي الدين الهلالي
مجلة الفتح، العام العاشر، عدد 487، الخميس 9 جمادى الأولى 1354 ص: 12-13.