(كتاب قيم تصدى لإخراجه وتأليفه الأستاذان الفاضلان أحمد بلافريج وعبد الجليل خليفة. وقد تم طبع الجزء الأول منه بمطبعة الوحدة المغربية في 188 صفحة).
درس المؤلفان الفاضلان في هذا الجزء تاريخ الأدب العربي الإسلامي في بلاد إسبانية، من لدن الفتح إلى نهاية مملكة غرناطة، دراسة تحليل وبحث وتمحيص، وتعرضا لمسألة مهمة وهي هل اقتبس المسلمون الفاتحون مدنيتهم وثقافتهم من بقايا ثقافة رومية في إسبانيا ؟فقتلاها بحثا ووفياها حقها. وجمعا في مباحثاتهما بين آراء الأوربيين وأدباء الإسلام. وألما بنخبة من أهم المسائل في تاريخ الأدب الإسلامي في إسبانية وتطوره وألوانه وأدواره جريا مع تطور الحضارة وأهواء الدول المختلفة المشارب. ولعمري إنها مباحث شريفة، ومطالب نفيسة، تهم كل أديب، ولاسيما أدباء العرب والمغاربة منهم خاصة، فإن من الضلال البعيد والخسران المبين، أن نرى الأوربيين يغترفون من معين أدب أسلافنا ويتعاطون فيه كؤوسا تجعلهم نشاوى، يتغنون بسحر ذلك الجمال الفردوسي، ويشدون الرحال لمشاهدة آثاره من أقاصي أوروبة وأمريكة، فلا يكادون يقصون العجب من إبداعه وبهاء فنونه مع ما يعانون في ذلك من بعد الشقة ومشقة الدرس بسبب عجمتهم. ونحن الذين هم أحفاد أولئك العبقريين، والوارثون لما خلفوه إن كنا أهلا لذلك نعرض عن تلك الكنوز ونجهلها كل الجهل. ولذلك كان عمل هاذين الأستاذين مستوجبا للحمد والتقدير والضرب معهما بسهم باقتناء مؤلفهما النفيس ودرسه حق الدرس.
ثم عقدا بابا للشعر الأندلسي، بحثا فيه بحثا تاما في المقابلة بين شعر العرب وشعر الأمم الأخرى وخواصهما، وأوردا في ذلك آراء الباحثين من الأجانب وأدباء العرب، واستوعبا المسائل الشعرية التي تهم الباحث في هذا الزمان، وهذا الباب يستغرق نصف الجزء.
وبعد استيفاء تلك المباحث ومناقشة الآراء المتباينة وتأييد ما ترجح لديهما، أوردا طائفة مختارة من عيون شعر ذلك العصر الزاهر، الذي هو السحر الحلال حقا، وقد كان توفيقهما في اختيار تلك اللآلئ من المقطوعات التي تحاكي المقصورات في الخيام ومن القصائد الفرائد التي تجلو الظلام.
ولا يخفى أن الاختيار الذي يروع أرواع الأدباء، ويستولي على ألبابهم، ويحرك سواكنهم ويضرب على أوتار أفئدتهم هو عزيز جدا، حتى قيل إن حسن اختيار الرجل دليل على كمال عقله. ولا يكفي في حسن الاختيار العلم والدرس حتى يصاحبهما الذوق السليم وهو هبة من الله لا حيلة في دركه للمرء.
وقد أهدى المؤلفان كتابهما النفيس إلى سمو مولانا الحسن بن المهدي الخليفة السلطاني الأفخر ناصر العلم والأدب، ومحيي سنة الخلفاء والملوك النوابغ من دول الإسلام والعرب، زاده الله مجدا وسؤددا وتوفيقا.
ولما كان المؤلفان من أصدق الإخوان الذين يسرهم تقديم المقترحات التي تزيد عملهم كمالا أردت أن أقدم لهما اقتراحان. فإن كان فيهما خطأ فمني وإن كان فيهما صواب فمن الله، وليس قبولهما بلازم.
الأول عزو كل نقل عزوا تاما بذكر الصفحة من الكتاب سواء كان مطبوعا أم مخطوطا، صغيرا أم كبيرا كما يعمل المؤلفون الأوروبيون فإنها سنة دنيوية حسنة لابد منها في هذا الزمان للعرب، أما أسلافهم فقد كان حفظهم واجتهادهم قد يغنياهم عنها.
والثاني أن يضعا في الميزان ما يقع فيه بعض الأوربيين عمدا لمآرب مادية فيخرقوا أي يختلقوا لليهود أدبا يسمونه الأدب العبراني، ويحاولون أن يجعلوا اليهود شركاء للعرب والمغاربة في الكنوز التي خلفوها، وإن كانوا إنما ينسبون لهم ذلك بالتبعية.
ومذهبي أن اليهود لا أدب لهم إلا ما في التوراة والتلمود وما أشبه ذلك حين كانت لهم لغة، وذلك قبل آلاف السنين.
أما بعد موت لغتهم واضطرارهم إلى التعبير والكتابة باللغة السريانية مدة آلاف من السنين، ثم ظهرت اللغة العربية ودالت دولة السريانية، فأخذوا يشاركون أهلها ويتطفلون على مآدبهم، فليس لهم أدب يسمى عبرانيا كما أن أدباء الهنود الذين نشئوا نشأة إنكليزية فكتبوا وألفوا في الأدب الإنكليزي لا يقال لأدبهم إنه أدب سنسكريطي بل هو أدب إنكليزي.
وقد سلك الشعوبية في الهند وفارس مسلكا ناكبا عن الجادة معوجا كاذبا فزعموا أن العرب لم يكن لهم في الأدب العربي إلا نصيب ضئيل. وكذلك في العلوم لأن عقولهم كانت أدنى من أن تدرك منزلة عالية في ذلك. ويشاغبون بعلماء العجم وأدبائهم الناشئين في حجور العرب، الراضعين لبان العربية، وقد يجدون في بعض المستشرقين المتعصبين نصيرا، وللكلام في هذه المسألة مقام آخر. وإنما جر الحديث إلى ذكر هذا، والحديث ذو شجون.
وليس مقصودي أن أنكر أن بعض اليهود شاركوا العرب في إسبانية في العلوم كالفلسفة والطب وشيء من الأدب. وحملوا علوم العرب وآدابهم إلى أقاصي أوربة، كما يقول جوزيف ماكيب في كتيب له اسمه (مدنية المغاربة في إسبانيا – ذي مورش شيفيلذيشن ان سبين) وترجمه كاتب هذه السطور بالعربية ولم ينشر بعد. وما نقلته هنا يوجد في ص. 36 من الترجمة.
وإنما المقصود أن علوم أولئك اليهود هي ثقافة عربية لا تمت إلى العبرية أو كونهم يهودا بصلة. لأن من لا وطن له ولا أمة مجتمعة ولا لغة فلا ثقافة له. فثقافة يهود كل أمة تعزى إلى تلك الأمة لا إلى اليهود. وفي اليهود ذكاء وقابلية ولكن المانع من أن تكون لهم ثقافة يهودية هو عدم الوطن الذي يجمعهم فيعيشون فيه عيشة واحدة توحد أفكارهم وأذواقهم، وعدم وجود لغة توحد تعبيرهم عما يشعرون به. فإنهم بسبب شتاتهم اختلف شعورهم واختلفت أفكارهم واختلف تعبيرهم، فلم يبق ثمت مكان لأن تكون لهم ثقافة تسمى يهودية. وهذا غير خاص باليهود فكل قوم أصابهم ما أصاب اليهود يحكم عليهم بالحكم نفسه.
وسبب سوقي لهذا الاقتراح هو ما جاء في كتاب الأدب الأندلسي في ص. 38 نقلا عن أصل المستشرقين أنه كان في الأندلس شيء يسمى دراسات تلمودية وآداب عبرانية.
هذا ما بدا إلى الآن وربما أردف هذا المقال بمقال آخر تعليقا على بعض مسائل هذا الكتاب. والله يشكر للمؤلفين ما بذلاه من الجهد وما لقياه من العناء في خدمة العلم والأدب ويديم توفيقهما.
صحيفة الحرية، السنة 6 العدد 789، 14 جمادى الثانية 1361هـ / 29 يونيه 1942م – ص: 1