أرسل إلينا حضرة العلامة السلفي المصلح العامل الناشط الأستاذ (تقي الدين الهلالي) المغربي أصلا المشرقي سكنا ومهادا وهو من لا تخفى عن رجال الإصلاح مكانته العلمية وأعماله الإصلاحية وقد قرأوا له من المقالات في جرائدهم السابقة ما لا يحسب أنه نسوهُ أو ذهلوا عنه.
أرسل إلينا من العراق بمقال تحت عنوان (تعليقات) هو برهان غيرته على هذا الوطن ودليل عنايته بهذه الناحية الإسلامية وشاهد ارتباطه الروحي بإخوانه رجال الإصلاح وإخلاصه إلى هذه الدعوة السلفية بارك الله لنا فيه وشد أزر الإصلاح بأمثاله من رجال العلم والدين.
و ها نحن ننشر مقاله كما ورد علينا بنصه وفصه، قال أحسن الله لنا وله في الحال والمآل:
﴿تعليقات﴾
(البصائر)
من رأى بلادَ الجزائر كما رأيتُها أنا في العقد الرّابع من القرن الرّابع عشر الجاري ثمّ رآها في العقد التّالية وفي هذا العقد الحاضر لا ينقضي عجبُهُ من تبدّلها من الوجهة الدّينيّة والثّقافيّة وحتّى الأخلاقيّة. رأيت سيارة لشركة من العرب والفرنسيين في ناحية جيرى فيل (البيض) قد كتب عليها بخط عربي رديء ما صورته : “فرانكو عرب كمباني سيداران” ومعناه شركة عربية وفرنسية في جنوب وهران فتألمت كثيرا لموت اللغة العربية الأدبية في تلك الربوع وخامَرَني يأس لا أمل معه من بعثها من مرقدها.وكان ذلكَ في سنة 1339هـ أي منذُ ست عشرة سنةً فقط ولو أنّ مُخبِرًا أخبرني أنّه بعد عشر سنين أو بعد 50 سنة ستكون في الجزائر نهضةٌ أدبيّةٌ تُضاهي البلدان الإسلاميّة الرّاقية في صحافتها وفي إصلاحها وفي ثقافتها وتزيدُ عليها بوجود طائفة (ولا أقول جمعيّة لأنّها مُولّدة) من العلماء العاملين المهذّبين الحكماء يُجاهدون حقَّ الجهادِ لإنقاذِ شعبهم من هاويةِ شقاءِ الفوضى في الدّين والأخلاق تفتخرُ بهم العصور – أو قال لي قائلٌ لبادَرتُ إلى تكذيبِهِ. أمّا اليوم فقد أحيا اللهُ الجزائرَ بعد موتها بأولئك الرّجال المُخلِصين فها هي أرضها قد اهتزت وربت وأخذت تنبت من كل زوج بهيج، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الحج:06]؛ لقد منَّ الله على سكانِ الجزائرِ برجالٍ من خيرةِ خلقهِ يبصرونهم من العمى ويحيون بإذن الله الموتى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من ضال قد هدوه وكم من غافل قد نبهوه وكم من نائم قد أيقظوه وكم من جاهل قد علموه فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الذين لا يعقلون عليهم، ففي سبيل الله ما تحملوا من أذى وما كابدوا من محن وما قاسوا من زلازل وفتن ﴿فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران:146].
قام الإمام المصلح الشيخ “عبد الحميد بن باديس” سليل البطل المغربي المجاهد “المعز بن باديس” [3] فرأى البلاد مظلمة الأرجاء متشعبة الأهواء دوية الأدواء يُحار فيها اللبيب وتعضل بالحكيم فشمر عن ساعد الجد وقيض الله له أنصارا أطهارا أبرارا آزروه ونصروه فبدأوا عملهم وصدعوا بما أمرهم الله ورسوله به ومر عليهم طور وفتنوا كما فتن المصلحون من قبلهم وثبتهم الله بالقول الثابت حتى اقتحموا العقبة الأولى وهي أصعب العقبات وأخذت دعوتهم تُؤتي أكلها وأينعت ثمارها ودنا جناها وفي أثناء ذلك ورد عليهم الأستاذ السلفي الداعية النبيل الشيخ “الطيب العقبي” سليل الفاتح العظيم والغازي في سبيل الله صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ووارث هديه ونوره (عقبة بن نافع الفهري) طيب الله مرقده فكثروا به وكان مداداً لهم ورداء وانتشرت الهداية وانجلت غياهب العماية وأقبل الناس على الهدي النبوي الخالص وجدّد الله بهؤلاء الأئمة لأهل الجزائر دينهم ودنياهم ولا يرتأ عن أحد من التعبير بالإمام والأئمة فإنه إذا فتح بصره ونظر قليلا إلى لغة العرب وسنة خبر العرب وجد مدلول الإمام أوسع مما حصره فيه الإصلاح التقليدي قال الله تعالى : ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾، فندب جميع المؤمنين أن يسألوا إمامة المتقين ولو علم الله أن الإمامة محمودة في تلك الحدود الضيقة لما ندب عباده لطلبها وقال :﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾، فأخبرنا أن كل من أيقن بآيات الله وصبر كان إماما وكل من هدى الله على يده ولو شخصا واحداً فهو إمام.
بدأ السلفيون عملهم الكتابي بمجلة “الشهاب” المجاهدة الصابرة وأنشأوا بعد ذلك صحفاً أخرى قضت عليها الدسائس ولكن كلما غاب منها كوكب أضاء مكانه كوكب آخر:
نُجُومُ سَمَاءٍ كُلَّمَا غَابَ كَوْكَبٌ *** بَدَا كَوْكَبٌ تَأْوِي إِلَيْهِ كَوَاكِبُهْ
وآخر تلك الكواكب “البصائر” نعم الإسم ونعم المسمى، طلعت علي (البصائر) في هذا الأسبوع فكأنها قميص يوسف فإنها صيرتني بصيرا وحلت عقالي وبعثتني على العمل ولو من بعيد ويا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ولكن إن لم يصبها وابل فطل، وإني لأرجو أن يعم هذا الضياء بهذه “البصائر” الربوع المغربية جمعاء من برقة إلى السودان المغربي فإن أهل المغرب والله في أشد الحاجة إلى هذه البصائر، والمأمول أنهم سيبصرون لأن معدنهم كريم وفطرتهم سليمة وعزائمهم متينة ونيتهم صادقة حقق الله الرجاء وسلام على جماعة العلماء الجزائريين وعلى أنصارهم وبارك الله عليهم أجمعين.
العصبية
قرأت في بعض أجزاء البصائر انتقاداً شديداً موجهاً إلى رئيس جماعة العلماء وإلى أبي يعلي الزواوي فأعجبني ما عليه رجال الإصلاح من محاسبة أنفسهم على النقير والفتيل في أقوالهم والتزام الاعتصام بحبل الله، وعدم التساهل في كل ما يشم منه رائحة التفرق والانفصام ولكنه ساءني أن يوجه مثل ذلك الوخز والهمز وإلى رجال لهم الباقيات الصالحات ما يكفر الزلات التي لا تحتمل التأويل فكيف بذلك الشيء الضئيل الذي يحتمل ألف وجه من التأويل والحمل على وجه حسن؟، ولو صدر مثل ذلك من رجل من عامة الكتاب ليس له ما يشفع له أو يدفع عنه لما ساغ لمن يريد الإصلاح أن يلذعه بذلك العتاب الأليم لأن العتاب على ذلك المنوال لا ينتج خيراً وإنما ينتج عكس المطلوب ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ – ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾.
النفس إن دعيت بالعنف آبية *** وهيَّ ما أمرت بالرفق تأتمر.
—-
و إذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ *** جاءت محاسنه بألفِ شفيع.
على أنه لا ذنب فانتساب الرجل إلى قبيلته سائغ ومعمول به في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخير القرون بعده، وهذا يحي بن معطي مشهور بالزواوي وكم وكأين من رجال في تاريخ ابن خلدون منسوبين إلى صنهاجة وإذا صلحت القلوب فلا ضير في ذلك. نعم إذا علم أن ذلك الانتساب صادر عن نية سيئة أو يوجد من يتخذه وسيلة للإفساد وكان التعريف حاصلا بدونه كانت المصلحة حينئذٍ قاضية بتركه مراعاة للمصالح المرسلة فيما لم يخالف نصاً للمعصوم، والأول وهو سوء النية معدوم قطعاً ومعاذ الله أن يتصف بذلك تلميذ من صالحي تلاميذ الشيخ عبد الحميد فكيف به هو في علمه وفضله فالله الله في التفريق وإحداث الشقاق من طريق الدعوة إلى الاجتماع، ثم ارتقى الأمر إلى الحط بذكر آخر طرف اسم الأستاذ وهو “باديس” فقط وأدهى من ذلك إيجاد مضادة بين الجامعين الأخضر والزيتونة والطعن في تحصيل أهل العلم والتماس العيوب بالتغليط والتلحين والمفاخرة وتلك لعمري هي دعوى الجاهلية التي يجب أن تنزه عنها صحف جماعة العلماء ولم يكن من الصواب نشر شيء من ذلك؛ وإن حسنت النية وقصد ما يسمى بحرية النشر فلكل شيء حد إذا تجاوزه قبح وانقلب ضرراً بعد ما كان نفعاً.
وﻻ تَفْتَحُوا ﻟﻠﻌﺘﺐ ﺑﺎبً ﻓﺮُبَّما *** ﻳﻌﺰﱡ ﻋﻠﻴﻜﻢ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ سَدَّﻩُ.
فألتمس من العلماء والإخوان العالمين أن لا ينشروا شيئا من مثل ذلك فإنه لا يأتي منه إلا الشر المحقق؛ فالحرص على القلوب التي هي كالزجاج كسره لا يجبر؛ هو سر دوام الأخوة التي هي ضمانة دوام العمل؛ الذي هو وسيلة النجاح، فلا بارك الله في الحرية التي توصل إلى التعيير والهمز والعيب والحط؛ بل هي عبودية، وأنا أيضاً لا أبريء نفسي من أن أكون قد خشنت في موضوع كان الواجب علي فيه اللين وأن أكون قد وقعت فيما نهيت عنه وشفيعي هو الإخلاص والغيرة وحب الصلاح والسداد وأظن أني لا أكون متهماً بالميل إلى أحدِ الجانبين وأنا في هذه الغربة والمكان السحيق والله الهادي إلى أقوم طريق.
محمد تقي الدين الهلالي المغربي.
مجلة (البصائر)؛ السنة الأولى، العدد (29)، 5 جمادى الأولى 1355هــ، 24 جوليت 1936م، (ص:2-3) .