كل من نظر في تاريخ الدولة المغربية منذ نشأتها على يد إدريس الأول رحمه الله إلى دولة جلالة الحسن الثاني أيده الله وسدد خطاه، يجد أن العز والنصر والسعد والإقبال كلها مقرونة بالتمسك بالكتاب والسنة علما وتعليما وعملا وتحكيما ومتابعة. وسأذكر هنا نموذجا لذلك، ليكون القارئ على بصيرة واطمئنان بالدليل القاطع والبرهان الساطع.
قال أبو العباس أحمد بن خالد الناصري، في كتاب الاستقصا أثناء الكلام في دولة أمير المؤمنين بن علي الكومي رحمه الله في الجزء الثاني صفحة 127- مطبعة الدار البيضاء سنة 1954م، الموافق لسنة 1374هـ تقريبا ما نصه: ولما كانت سنة خمسين وخمسمائة أمر أمير المؤمنين عبد المومن بن علي بإصلاح المساجد وبنائها في جميع ممالكه وبتغيير المنكرات ما كانت وأمر مع ذلك بتحريق كتب الفروع ورد الناس إلى قراءة كتب الحديث واستنباط الأحكام منها وكتب بذلك إلى جميع طلبة العلم من بلاد الأندلس والعدوة فجزاه الله خيرا…
وقول المؤلف المذكور بعد نقله هذا الخبر (فجزاه الله خيرا) يدل على استحسانه لذلك مع أنه كان يعيش في العقد الثاني من هذا القرن الرابع عشر. ومع ذلك نعلم أن المحبين لاتباع الكتاب والسنة ونبذ أراء الرجال غير المعصومين لم يخل منهم زمان وإن كان عددهم قليلا في العصور المتأخرة. وسأنقل من كلام الإمام الحافظ أبي عمر يوسف بن عبد البر النمري القرطبي الذي شرح كتاب الموطأ للإمام مالك رحمه الله ثلاثة شروح شرح مطول، وشرح متوسط، وشرح مختصر. والشرح المطول هو كتاب “التمهيد” الذي أمر بطبعه جلالة الملك الحسن الثاني وفقه الله. وقد طبع منه إلى الآن ستة من المجلدات، ولا يزال طبعه جاريا ببطء شديد يتأسف له. وهذه مزية عظيمة ادخرها الله تعالى لجلالة الملك الحسن الثاني. ولم يوفق لها أي ملك قبله. وقد مضى على تأليف هذا الكتاب أكثر من تسع مائة وخمسين سنة. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. أقول سأنقل من كتاب الإمام ابن عبد البر الذي سماه “جامع بيان العلم وفضله”، من الأدلة وكلام الأئمة ما يؤيد ما فعله الملك عبد المؤمن بن علي رحمه الله حتى يتبين للقارئ الكريم أنه الحق المبين، الذي لا تسعد أمة مسلمة بدونه.
قال الحافظ ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله في الصفحة 32 من الجزء الثاني بسنده المتصل إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: “إنما هو كتاب لله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فمن قال بعد ذلك شيئا برأيه فما أدرى أفي حسناته يجده أم في سيئاته”.
ثم روى بسنده إلى المزني والربيع بن سلمان، قالا، قال الشافعي ليس لأحد أن يقول في شيء حلال ولا حرام إلا من جهة العلم. وجهة العلم ما نص في الكتاب أو السنة أو في الإجماع أو القياس على هذه الأصول ما في معناها. قال: قال أبو عمر بن عبد البر: أما الإجماع فمأخوذ من قول الله: «ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا» لان الاختلاف لا يصح مع هذا الظاهر. وعندي أن إجماع الصحابة لا يجوز خلافهم، والله أعلم. لأنه لا يجوز على جميعهم جهل التأويل. وفي قوله تعالى: «وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس» دليل على أن جماعتهم إذا اجتمعوا حجة على من خالفهم. كما أن الرسول حجة على جميعهم. ودلائل الإجماع من الكتاب والسنة كثيرة ليس كتابنا هذا موضعا لتقصيها. وبالله التوفيق.
يقول كاتب هذا المقال، ويؤيد ما قاله الحافظ ابن عبد البر، في إجماع الصحابة قوله تعالى في سورة التوبة رقم 100: «والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم». وقال بعض الأئمة شعرا:
العلم قال الله ورسولــــه *** قال الصحابة ليس خلف فيــه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة *** بين الرسول وبين قول فقيــه
ثم قال أبو عمر في الجزء الثاني من الكتاب المذكور صفحة 133 باب فساد التقليد ونفيه والفرق بن التقليد والاتباع: قد ذم الله تبارك وتعالى، التقليد في غير موضع من كتابه، فقال: «اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله». وروى عن حذيفة وغيره قالوا لم يعبدوهم من دون الله. ولكنهم أحلوا لهم وحرموا عليهم فاتبعوهم.
وقال عدي بن حاتم، أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب فقال لي: “يا عدي الق عنك هذا الوثن من عنقك” وانتهيت إليه وهو يقرا سورة براءة حتى أتى على هذه الآية: «اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله» قال: قلت: يا رسول الله إنا لم نتخذهم أربابا. قال بلى، أليس يحلون لكم ما حرم عليكم فتحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله فتحرمونه. فقلت بلى، فقال تلك عبادتهم.
ثم روي بسنده إلى أبي البختري في قوله عز وجل: «اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله» قال، إما أنهم لو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم ولكنهم أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه وحرامه حلاله فأطاعوهم وكانت تلك الربوبية. وقال عز وجل «وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون، قل أَوَلَو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آبائكم» فمنعهم الاقتداء بآبائهم من قبول الاهتداء فقالوا: “إنا بما أرسلتم به كافرون”.
وفي هؤلاء ومثلهم قال الله عز جل: “إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون”. وقال: “إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا، كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم”. وقال عز وجل عاتبا لأهل الكفر “… سادتنا وكبرائنا فأضلونا السبيلا” ومثل هذا في القرءان الكريم كثير في ذم تقليد الآباء والرؤساء وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد. ولم يمنعهم كفر أولئك في الاحتجاج بها. لان التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر. وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلد. كما لو قلد رجل فكفر، وقلد آخر فأذنب فقلد آخر في مسالة دنياه فأخطأ وجهها، كان كل واحد ملوما على التقليد بغير حجة لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضا وإن اختلفت الآثام فيه، وقال الله جل وعز: “وما كان الله ليضل قوما بعد إذا هداهم حتى يبين لهم ما يتقون”. وقد ثبت الاحتجاج بما قدمنا في الباب قبل هذا وفي ثبوته إبطال التقليد أيضا، فإذا بطل التقليد بكل ما ذكرنا وجب التسليم للأصول التي يجب التسليم لها وهي الكتاب والسنة أو ما كان في معناهما بدليل جامع بين ذلك، ثم روى أبو عمر بسنده إلى كثير بن عبد الله بن عمر بن عوف المزني عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “تركت فيكم أمرين: لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله”. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مما قد ذكرناه أنه قال: “تذهب العلماء ثم تتخذ الناس رؤساء جهالا يسألون فيفتون بغير علم فيضلون ويضلون” وهذا كله نفي للتقليد وإبطال له لمن فهمه وهدى لرشده.
وعن سفيان بن عينية، قال: اضطجع ربيعة مقنعا رأسه وبكى. فقيل له ما يبكيك؟ فقال رياء ظاهر، وشهوة خفية والناس عند علمائهم كالصبيان في حجور أمهاتهم وما نهوهم عنه انتهوا وما أمروهم به ائتمروا. وقال أيوب رحمه الله: ليس تعرف خط معلمك حتى تجالس غيره. وهذا كله لغير العامة فان العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بها لأنها لا تتبين موقع الحجة ولا يصل بعدم الفهم إلى علم ذلك لأن العلم درجات لا سبيل منها إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها. وهذا هو الحائل بين العامة وبين طلب الحجة والله أعلم.
ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها وأنهم المرادون بقول الله عز وجل: “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون” …. أشكلت عليه. فكذلك من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به لا بد له من تقليد عالمه. وكذلك لم يختلف العلماء أن العامة لا يجوز لهم الفتيا وذلك والله أعلم لجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحليل والتحريم والقول في العلم وقد نظمت في التقليد وموضعه أبياتا رجوت في ذلك جزيل الأجر لما علمت أن من الناس من يسرع إليه حفظ المنظوم ويعتذر عليه المنثور وهي من قصيدة لي:
يا سائلي عن موضع التقليد خـذ *** مني الجواب بفهم لب حاضـر
وأصغ إلى قولي ودن بنصيحتي *** واحفظ علي بوادري ونوادري
لا فرق بين مقلد وبهيمــــة *** تنقاد بين جنادل ودعاثــــــــر
تبا لقاضي أو لمفت لا يـــرى *** عللا ومعنى للمقال السائــــر
فإذا اقتدت فبالكتاب وسنة المــ *** ـبعوث بالدين الحنيف الطاهــر
ثم الصحابة عند عدمك سنـــة *** فأولاك أهل نهى وأهل بصائـر
وكذلك إجماع الذين يلونهـــم *** من تابعيهم كابرا عن كابــــر
إجماع أمتنا وقول نبينـــــا *** مثل النصوص لدى الكتاب الزاهر
وكذا المدينة حجة إن أجمعـوا *** متتابعين أوائلا بأواخــــــر
وإذا الخلاف أتى فدونك فاجتهد *** ومع الدليل فمل بفهم وافــــر
وعلى الأصول فقس فروعك لا تقس *** فرعا بفرع كالجهول الحائـــر
والشر ما فيه – فديتك – أسوة *** فانظر ولا تحفل بزلة ماهــــر
وأريد أن أشرح هذه الأبيات، لأن بعض القراء يعسر عليه فهمها:
يا سائلي عن موضع التقليد خـد *** مني الجواب بفهم لب حاضـر
المعنى أيها السائل عن التقليد بالنسبة إلى المفتي العالم بالأدلة الشرعية والمستفتي الجاهل العامي العاجز عن معرفتها خذ مني جوابا شافيا، وتأمله بقلب وفهم حاضر غير غافل.
وأصغ إلى قولي ودن بنصيحتي *** واحفظ علي بوادري ونوادري
معنى أصغ، استمع، ودن بنصيحتي، اتخذها دينا تدين الله به. واحفظ علي بوادري، قال صاحب القاموس البادرة ما يبدر من حديثك في الغضب من قول أو فعل، والمراد بالبوادر هنا أقوال الحافظ أبي عمر يوسف بن عبد البر في حدة غضبه على المفتي بالتقليد، والنوادر الفوائد التي يندر وجودها، أي يقل.
لا فرق بين مقلد وبهيمــــة *** تنقاد بين جنادل ودعاثــــر
يقول الحافظ لا فرق بين بهيمة يقودها صاحبها حيث شاء لا إرادة لها ولا علم لها أين يذهب بها. فكذلك المقلد الذي عجز عن معرفة الحكم وعميت بصيرته عن استنباطه من أدلة الكتاب والسنة فسأل غيره من أهل العلم فأتاه فأخذ الفتوى وعمل بها وهو جاهل بدليلها. والجنادل جمع جندل بفتح فسكون ففتح هو ما يحمله الرجل من الحجارة قاله في القاموس والدعاثر جمع دعثور بحذف الياء وهو المكان المحفور.
تبا لقاضي أو لمفت لا يـــرى *** عللا ومعنى للمقال السائــــر
التب والتباب الهلاك، والمراد هنا المفتي بلا دليل بل بمجرد التقليد والقاضي الذي يصدر الأحكام في الدماء والأموال والفروج وهو لا يعلم دليلها.
فإذا اقتدت فبالكتاب وسنة المــ *** ـبعوث بالدين الحنيف الطاهــر
يقول يجب عليك أيها المفتي أو القاضي إلا تفتي ولا تقضي إلا بدليل من الكتاب والسنة أو منهما جميعا.
ثم الصحابة عند عدمك سنـــة *** فأولاك أهل نهى وأهل بصائـر
يقول إذا لم تجد دليلا لا في الكتاب ولا في السنة ووجدت الصحابة قد اتفقوا على حكم أو أفتى به جماعة منهم ولم يخالفهم غيرهم فإياك أن تخالف إجماعهم فانه حجة. قال الله تعالى في سورة التوبة: “والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم”. وقد تقدمت هذه الآية، أما إذا اختلف الصحابة فمن بعدهم، فالواجب بذل الجهد في الترجيح بالدليل لا بالتقليد وأراء الرجال غير المعصومين من الخطأ.
وكذلك إجماع الذين يلونهـــم *** من تابعيهم كابرا عن كابـــر
يقول كذلك إجماع السلف من أئمة التابعين ومن بعدهم حجة.
إجماع أمتنا وقول نبينـــــا *** مثل النصوص لدى الكتاب الزاهر
يقول كما أن نصوص الكتاب العزيز وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة فكذلك إجماع الأمة أي إجماع علمائها الذين يحكمون بالأدلة لا المقلدين فإنهم ليسوا من العلماء كما تقدم.
وكذا المدينة حجة أن أجمعـوا *** متتابعين أوائلا بأواخـــــر
يقول وكذلك إجماع علماء المدينة من الصحابة والتابعين وتابعيهم إذا لم يوجد نص من الكتاب أو السنة حجة وهذا أحسن ما قيل في عمل أهل المدينة.
وإذا الخلاف أتى فدونك فاجتهد *** ومع الدليل فمل بفهم وافــــر
يقول وإذا اختلف الأئمة في مسألة فابذل جهدك في ترجيح أحد القولين أو الأقوال بالدليل لا بالتقليد والتعصب.
وعلى الأصول فقس فروعك لا تقس *** فرعا بفرع كالجهول الحائـــر
يقول: وإذا اضطررت إلى القياس عند فقدك نص القرءان أو السنة أو الإجماع فقس الفروع على الأصول، والمراد بالأصول آيات القرءان والأحاديث الصحيحة أو الحسنة، والمراد بالفروع ما أفتى به أحد الأئمة بلا دليل مثال ذلك، إخراج صدقة الفطر من الأرز في شرقي الهند وما بعده إلى الصين واليابان فهو فرع، والأصل حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة متفق عليه.
وعن أبي سعيد الخدري قال: كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب متفق عليه. وفي رواية أو صاعا من لقط، قال أبو سعيد: أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت، أخرجه في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأبي داود لا أخرج أبدا إلا صاعا، والمراد بالطعام هنا البر. وقول أبي سعيد، أما أنا فلا أخرج إلا صاعا رد على من قال في أول عهد بني أمية أن نصف صاع من بر يعدل صاعا من شعير. فقياس الأرز على هذه الأصناف في البلاد التي يكون غالب قوتها منه قياس فرع على أصل فان للمراد بزكاة الفطر إغناء المساكين عن الطواف على البيوت لسؤال الطعام. وفي البلاد التي تقدم ذكرها لا يغني المساكين ويشبعهم إلا الأرز. والأقط، هو اللبن المخيض مجففا يابسا، وشرح ذلك أن اللبن الحليب إذا كثر عند أهل البادية يجعلونه رائبا ثم يضعونه في الشكوة وهي وعاء من جلد مدبوغ لا شعر فيه ولا صوف يمخض فيها اللبن حتى تجتمع الزبدة فتخرج من اللبن ويكون معدا للشرب فإذا زاد عن الحاجة طبخ في قدر فيتميز اللبن وينعقد ويخرج ما يتولد منه من الماء فذلك اللبن المتكتل هو الأقط وإذا زاد عن الحاجة يوضع في الشمس حتى ييبس فذلك هو الأقط المذكور في حديث أبي سعيد الخدري. وفي بادية نجد يقدمونه للضيف مع السمن المذاب فيكون بدلا من الخبز عندهم وإنما يعيشون باللبن المخيض المنزوع الزبدة حتى إذا جاءهم ضيف عزيز ذبحوا له شاة وطبخوا الأرز وجعلوه مع اللحم مشويا أو مطبوخا فتلك الضيافة الكبرى عندهم، وهم أقوياء الأبدان، رأيت الشيوخ البالغين من العمر ستين سنة لا يرضون أن ينيخوا البعير ليركبوه بل يثبون عليه وثبا فيجلس أحدهم على ظهره.
والشر ما فيه – فديتك – أسوة *** فانظر ولا تحفل بزلة ماهــــر
يقول: إن التقليد في الدين شر، فلا تقلد بأهله وإذا زل العالم المتبحر في العلم وتبين خطأ ما ذهب إليه فلا تتبعه في زلته تقليدا بل انظر في الأدلة ورجح ما رجحه الدليل. انتهى شرح القصيدة.
ثم روى أبو عمر بن عبد البر رحمه الله بسنده المتصل عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من قال على ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار، ومن استشار أخاه فأشار عليه بغير رشده فقد خانه، ومن أفتى بفتيا عن غير تثبت فإنما إثمها على من أفتاه”.
ثم قال أبو عمر وقد احتج جماعة من الفقهاء وأهل النظر على من أجاز التقليد بحجج نظرية عقلية بعد ما تقدم فاحسن ما رأيت من ذلك قول المزني رحمه الله، وأنا أورده. قال: يقال لمن حكم بالتقليد هل لك حجة فيما حكمت به؟ فإن قال نعم أبطل التقليد. لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد. وإن قال حكمت فيه بغير حجة قيل له فلم أرقت الدماء وأبحت الفروج وأتلفت الأموال وقد حرم الله ذلك إلا بحجة، قال الله عز وجل: “هل عندكم من سلطان بهذا” أي من حجة بهذا، قال فإن قال أنا أعلم أني قد أصيب وإن لم أعرف الحجة لأني قلدت كبيرا من العلماء وهو لا يقول إلا بحجة خفيت علي. قيل له إذا جاز لك تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عليك فقلد معلم معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك. فإن قال نعم ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه. وكذلك من هو أعلى حتى ينتهي الأمر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن أبى ذلك نقض قوله وقيل له كيف تجوز تقليد من هو أصغر منك وأقل علما وتجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علما؟ وهذا متناقض. فإن قال: لإن معلمي وإن كان أصغر فقد جمع علم من هو فوقه إلى علمه. فهو أبصر بما أخذ وأعلم بما ترك، قيل له وكذلك من تعلم من معلمك فقد جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه فيلزمك تقليده وترك تقليد معلمك وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك لأنك جمعت علم معلمك وعلم من فوقه إلى معلمك فإن أعاد قوله جعل الأصغر ومن يحدث من صغار العلماء أولى بالتقليد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع والتابع من دونه في قياس قوله. والأعلى الأدنى أبدا. وكفى بقول يؤول إلى هذا قبحا وفسادا.
قال أبو عمر وقال أهل العلم والنظر حد العلم التبيين وإدراك المعلوم على ما هو به. فمن بان له الشيء فقد علمه، قالوا والمقلد لا علم له، ولم يختلفوا في ذلك، ومن ههنا والله أعلم، قال البختري:
عرف العالمون فضلك بالعــ *** ــلم وقال الجهال بالتقليــد
وأرى الناس مجمعين علــى *** فضلك من سيد ومـــود
أقول وصاحب الجلالة ملكنا الحسن الثاني أدام الله توفيقه للخير وأعانه عليه جدير بأن ينسج على هذا المنوال وبذلك يحيي سنة جده المصطفى صلى الله عليه وسلم. ويعيد للشريعة الغراء عزها ونصرها وفي ذلك سعادة العاجل والأجل له ولشعبه ولجميع المسلمين. حينئذ ينشد قول الشاعر:
لسنا وإن أحسابنا كرمـــت *** يوما على الأحساب نتكــــل
نبني كما كانت أوائلنا تبنـي *** ونفعل مثل ما فعلـــــــــــوا
مكناس: د. محمد تقي الدين الهلالي
مجلة دعوة الحق، العدد 2و3 السنة العشرون – ربيع الثاني 1399 – مارس 1979 – ص 50-55