هذا موضوع مهم جدا وواسع يحتاج بيانه بالتفصيل إلى تأليف كتاب مستقل، ولكن نجمل الكلام فيه إجمالا حسبما يسمح به المقام، فنقول… إن كل شعب يريد أن يعيش سعيدا يحتاج إلى أمور، … أولها القوة الروحية وهي تتوقف على الدين الصحيح الذي يملأ قلوب أبناء الشعب إيمانا وحماسة ويؤلف بينهم ويكون العروة الوثقى التي لا تنفصم. ومن أراد أن يرى بعينه شاهدا على ذلك فلينظر إلى العرب قبل الإسلام وبعده. أما حالهم قبل الإسلام فكل من له أدنى إلمام بالتاريخ يعرفها حق المعرفة. ومن لم يكن له إلمام بالتاريخ ففي القرآن الذي هو كتاب متواتر، لا يشك في تواتره أحد لا موافق ولا مخالف. فيرى فيه أن العرب كانوا يقتلون أولادهم بسبب الفقر، وكانوا يئدون بناتهم لأسباب سخيفة وكانوا لا يورثون الإناث ولا الصبيان، لأنهم كانوا يحصرون امتلاك الأموال في من يحمل السلاح ويقاتل، لأن العاجز عن ذلك كالنساء والصبيان لا يستطيع أن يدافع عن المال ويصد عنه غارات المغيرين المتوالية، إذ كان يجب على كل من يملك شيئا أن يقاتل عنه، ضرورة أنه لم يكن لهم قانون ولا دولة ولا نظام ولا وازع ديني يكُفهم عن سلب الأموال والأرواح، بل كانوا يرثون النساء زيادة على عدم توريثهن، كما قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا) وكانوا يعضلون النساء ويمنعونهن من الزواج لأغراض خسيسة فنهاهم الله عن ذلك في مواضع من كتابه. وإنما ذكرنا بعض أخلاقهم قبل الإسلام ليعلم من لا يعلم فضل الإسلام الصحيح عليهم وعلى كل من دان به من غيرهم. وأما حالهم بعد الإسلام فهي أوضح وأظهر من شمس الضحى يوم الصحو. فما الذي غير حالهم من التشتت إلى الاجتماع، ومن التخاذل إلى التعاون، ومن الجهل إلى الحلم، ومن الذل إلى العز، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الخوف إلى الأمن ومن الضعة إلى الرفعة والسيادة، ومن الضعف إلى القوة، ومن الخمول إلى الظهور، ومن الفوضى إلى النظام، ومن تلك البقعة القاحلة الجرداء، إلى الأراضي المخصبة، والجنات المثمرة، والأنهار المطردة، والأزهار الجميلة، ومن البيوت الحقيرة، إلى القصور الشامخة في آسيا وأروبة وإفريقية. وكيف صارت الدول التي كانت قبل إسلامهم هي الصالحة للبقاء لا تصلح إلا للفناء؟ الجواب أن علماء التاريخ وعلماء العمران وعلماء تطور الأمم قد اتفقوا على أمر وهو أن العرب بعد إسلامهم صاروا أقوياء أغنياء سعداء متمدنين ذوي دولة ونظام، ثم اختلفوا. فالعقلاء المؤمنون بالله قالوا أن السبب المباشر في ارتفاعهم من حضيض الهمجية إلى سماء المدنية الفضلى هو الدين. وأما الذين لا يؤمنون بالله وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون فقد اعتقدوا أن القرآن ودعوة محمد صلى الله عليه وسلم نفخ فيهم روح الحياة، وهذه الروح جعلتهم يتعلمون العلوم من الأمم المغلوبة التي اندثرت مدنيتها وقد نسي هؤلاء أو تناسوا القاعدة العظيمة وهي أن فاقد الشيء لا يعطيه.
وهذا القرآن وهذه الدعوة المحمدية ليسا من الأشياء التي كانت فبانت، كما يتوهم الجاهلون. وليسا من الفصائل الحيوانية والنباتية التي انقرضت وحلت محلها فصائل أخرى ولن تعود إلى الوجود أبدا كما يريد الاستعمار القديم والجديد (رحم الله الملك الراحل محمد الخامس الذي أنشأ هذه العبارة) أن يعلمنا، بل هما قوة باقية خالدة لا تزول ولا تحول. ولك أن تطلب الدليل البارز المشاهد، وعلي أن أدلي به فأقول… كيف نشأت الدولة العثمانية، ومن أين استمدت قوتها؟ أمن هولاكو وتيمور لنك وجنكيز خان؟ لا والله فإن هؤلاء كانوا غزاة متوحشين، والتاريخ أصدق شاهد وإنما استمدت قوتها ووجودها وصارت امبراطورية عظيمة استولت على آسية وقسم كبير من أوربة وإفريقية من الإسلام. ودونك شاهدا غير بعيد ولا منقرض بل هو قائم حاضر وهو المملكة السعودية. كيف نشأت هذه الدولة في قلب الامبراطورية العثمانية وناهيك بما كان للامبراطورية العثمانية من الحول والطول وقد تصدت بجميع قواها الحربية والدعائية لتحطيم الحركة الدينية الإصلاحية التطهيرية التي أشرق نورها من قلب جزيرة العرب بجوار الحرمين الشريفين اللذين هما شريان الخلافة العثمانية، لان أجل ألقاب السلطان العثماني (خادم الحرمين) وزوال هذا اللقب ينذر بزوال الخلافة ثم بزوال الامبراطورية وهو نتيجة محتومة لزوال الخلافة. ولذلك جمع الخليفة العثماني كل قواه، وعبأ جيشه العظيم تحت قيادة محمد على باشا وابنه إبراهيم باشا وزحفوا على الإمارة السعودية بعد ما شنوا عليها حملات أقلام مضللة، وتمكنوا من قتل رئيس الدولة السعودية ورئيس الأمور الدينية بعد ما أسروهما وخربوا مدينة الدرعية التي كانت عاصمة للإمارة السعودية، وظنوا أنهم قد قضوا على الحركة الإصلاحية الدينية والنهضة العربية التحريرية، فخاب ظنهم ورجعت الحركة السعودية الدينية والسياسية أقوى مما كانت عليه. ولم تزل في تقدم واتساع حتى صارت أعظم مملكة في جزيرة العرب وما يليها إلى حدود الشام والعراق. والمراد بجزيرة العرب في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال… أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب… هو الحجاز ونجد. وهو الذي عنيت بقولي السابق.
وهناك شاهد ثالث من نوع آخر على أن الإسلام قوة عظيمة معنوية ومادية لمن تمسك به بإخلاص: وهو أن جميع دول أوربا بملوكها وجيوشها غزت البلاد المقدسة فلسطين وأوقدت فيها نار حرب بينها وبين المجاهدين من المسلمين دامت مائتي سنة وختمت بهزيمة تامة لدول أوربا. ومن قابل ذلك بحال فلسطين في هذا الزمان لا يجد مندوحة من الاعتراف بأن الإسلام الصحيح قوة لا تقهر، وأن كل شعب سعد أسلافه وارتفعوا بالإسلام لن يسعد ولن يرتفع إلا بما ارتفع به أسلافه. ومن ظن خلاف هذا فهو مخدوع يخبط خبط عشواء في ليلة حالكة ظلماء ومضمون له الخيبة والخسران.
وإنما قيدت الدين بكونه صحيحا في أول المقال احترازا من الدين المبدل الذي لا يقوم على القرآن بدون تنطع بل كما فهمته العرب في القرن الأول وسيرة الرسول والخلفاء الأربعة. وأما الدين المبدل في العقائد والأخلاق والأحكام فلن يأتي بتلك الثمرة أبدا. بل قد يبلغ به التبديل والتغير إلى أن يصير شرا وضرا محضا ويأتي بعكس المطلوب. وبذلك يفسر نجاح الاستعمار وفشل الحركات الدينية التي تصدت لمقاومته. وإنما الدين الإسلامي دواء وصفه طبيب نطاسي بارع في معرفة العلل النفسية للأمم والشعوب. فمن خالف وصفة الطبيب في التركيب أو الاستعمال فمن تلك المخالفة أتى لا من الدواء، فهو صالح كما قدمنا شواهده لكل زمان ومكان إلى أن ينتهي أجل هذا النظام الشمسي الذي نعيش فيه. وفي كلام برنارد شو الانكليزي وديني الفرنسي وكارلايل وتولستوي وغيريهم من فلاسفة الغرب الأوروبي وحكمائه اعتراف صريح بما ذكرته.
وبعد هذا التمهيد والبحث المفيد نخرج بالنتيجة التالية وهي.. أن الركن الأول من ثقافة العرب الذين نحن جزء منهم وثقافة المسلمين الذين يؤلفون الأمة التي ننتمي إليها هو تعليم الدين تعليما عمليا عقديا أخلاقيا جديا من روضة الأطفال إلى آخر سنة في الجامعة. وكل ثقافة تخل هذا الركن الأساسي أو تقرره لفظيا فارغا من معناه ومن العقيدة والعمل والخلق والجد والمعلمين الأكفاء فنتيجتها صفر على اليسار.
ومن زعم أن الدول الأوربية السعيدة القوية التي مضت على سعادتها وقوتها وتعاونها وثباتها في وثباتها ونجاحها في جهادها في حربها وسلمها مئات السنين قد هجرت الدين وكان ذلك سبب نجاحها فهو لا يخلو من أن يكون جاهلا مقلدا إمعة قد استهواه الاستعمار الروحي وأفسد فطرته وتفكيره، أو عالما بالحقيقة لكنه منافق مخادع يظهر خلاف ما يعتقد جبنا وخوفا من فوات رغبة شخصية أو طمعا في رغبة جديدة تصل إليها نفسه الأمارة.
على أن دينهم ليس فيه من الحياة والقوة والمطابقة للعقل والكفالة بسعادة الروح والبدن مثل ما في ديننا.
(لغة القرآن)
وإذا تقرر أن الركن الأساسي من أركان الثقافة التي نحتاج إليها هو معرفة الدين الصحيح والعمل به والتقيد بأحكامه والدعوة إليه فمفتاح هذه الثقافة هو لغة القرآن والسنة، فبدونها لا يمكن أن نعرف هذا الكنز العظيم الذي خلفه أسلافنا من العلوم والآداب الدينية والدنيوية. وهذا فرض مقدس على جميع الشعوب العربية والإسلامية وعلى قدر أدائه والتقدم فيه يكون تقدمها العام، ولا أفشي سرا إذا قلت أننا معشر المغاربة أحوج إلى هذا النوع من الثقافة من جميع الشعوب العربية لأن لغتنا العامية أصابها من الفساد ما لم يصب غيرها من العاميات. فلا يوجد شعب عربي لا يميز في كلامه العام بين المذكر والمؤنث ويا للأسف إلا الشعب المغربي إلا قليل من بواديه وقراه، ولقد جاءني طالب مغربي يدرس في الكلية العسكرية من جامعة بغداد فقال لي ما معناه.. تعسا لهذه اللغة التي تعلمناها من آبائنا وأمهاتنا، فإني قدرت على إصلاح لساني وإخراجي الحروف من مخارجها، ولكن بقي في لساني عيب كبير يفضحني كلما تكلمت في مجلس من المجلس فتلحظني العيون بنظرات الاستغراب فأذوب خجلا. ألا وهو كسر تاء المخاطب المذكر في الإفراد والجمع. أضف إلى ذلك أن كثيرا من سكان المدن يعجزون عن النطق ببعض الحروف العربية كالثاء والجيم والسين والذال والشين والظاء والتاء. ولقد اجتمعت بالأديب الكبير الأستاذ أحمد البلغيثي رحمه الله على ظهر باخرة بين السويس وَجَدَّة وتذاكرنا وتناظرنا وكان في المجلس جماعة من المغاربة منهم الأستاذ الحسن بوعياد ناظر الأوقاف بفاس وجماعة من أهل العراق فلما انفض المجلس تعجب العراقيون من نطق الشيخ البلغيثي لأنه كان ينطق بالتاء فيحدث فيها صفيرا ورخوة كالزاي الألمانية وكما لو جمعت بين التاء والسين وكان، ينطق بالثاء مثل ذلك فلم يفهموا كلامه فأخبرتهم بمكانته العالية في الأدب العربي وأن ذلك التلفظ هو الجاري في المغرب، وهذا التلفظ قد بلغ إلى تبديل آيات القرآن. فبأذني سمعت القارئ يقرأ قوله تعالى (إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود 108] فقلب الشين من كلمة (شاء) سينا؛ نقل القاضي عياض في كتاب الشفا الإجماع على أن من بدل حرفا من القرآن عمدا فهو كافر. وبقطع النظر عن هذا، لا تهاونا به ولكن تنزلا وافتراضا، فمن العار على أهل المغرب أن لا يعالجوا هذا الداء ويحسموا مادته ويسعوا في إصلاح المنطق. وقد قال الشاعر:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده *** فلم يبق إلا صورة اللحم والدم.
وقالت العرب.. المرء بأصغريه.. قلبه ولسانه. وتجويد القرآن فرض. قال بن الجزري في أرجوزته:
والأخذ بالتجويد حتم لازم *** من لم يجود القرءان آثم
لأنه بـه الإله أنـزلا *** وهكذا منه ألينا وصلا
وهو أيضا حلية التلاوة *** وزينة الأداء والقراءة
فواجب عليـهم محـتم *** قبل الشروع أولا أن يعلموا
مخارج الحروف والصفات *** لينطقوا بأفصح اللغات
وأنا اقترح على وزارة الأوقاف المغربية المحترمة أن تقوم بهذا الإصلاح وتقضي هذا الفرض بإيفاد الطلبة إلى مصر ليتخصصوا في التجويد أو تأسيس مدرسة هنا لهذا الغرض وتدعو لها الأساتذة الأكفاء من مصر. ونحن في زمان بلغت فيه عناية الأمم المتقدمة بتجويد منطق لغاتها إلى حد أنها تدرس هذا الفن (فونتك) بالتصوير فتؤخذ صور الفم عند النطق بكل حرف. وتسجل ألوف الكتب الناطقة بقراءة الفصحاء للمكفوفين وغيرهم.
وسبب هذا النقص في منطق كثير من المغاربة كثرة المخالطة للأعاجم، فقد استولى المغرب على اسبانيا وبقي مختلطا معها ثمانمائة سنة، ثم هاجر كثير من مسلمي الأندلس إلى المغرب واختلطوا بأهله. وقبل ذلك كان ملوك الدول المغربية تأتي بآلاف الجنود العجم من اسبانيا إلى المغرب فيندمجون في المغاربة مع مرور الزمن.
وأهل الأندلس، وإن كانوا قد بلغوا الغاية في الفصحى فإن لغاتهم العامية كانت منحرفة معوجة وبعيدة من اللغة العربية الفصحى. انظر بحث اللغة من كتاب “الإحكام في أصول الإحكام” للإمام ابن حزم.
ثم جاء الاستعمار فزاد في الطين بلة، وفي الطنبور نغمة. فاستعجم الشعب المغربي واستعمرت اللغة الفرنسية والاسبانية اللغة العربية وقضتا عليها قضاء تاما. وقد انجر بنا الكلام إلى مشروع التعريب من غير قصد. ونحن مع استحساننا لمؤتمرات التعريب التي تنعقد في المغرب نرى أن التعريب له طريق آخر وهو بعث الطلبة للتمرين على مختلف الإدارات المدنية والعسكرية في البلاد العربية. وإلى أن يتم تمرين العدد الكافي من الموظفين يجب استيفاد الموظفين من البلاد العربية في كل سنة عدد منهم يحل محل الموظفين العجم والمستعجمين الذين يتوجهون لطلب الاستعراب في البلدان العربية. ولا ينبغي أن يفهم أحد من كلامنا أن الشعوب العربية الأخرى قد قامت بواجبها كاملا مع لغة القرآن. فإنها مقصرة كل التقصير، ومتخلفة كل التخلف عن الأمم الناهضة في ميدان اللغات وآدابها تبعا لتخلفها في الميادين الأخرى، والمقام لا يحتمل التفصيل.
وأقترح على وزارة التربية والتهذيب المحترمة أن تختار المعلمين الفصحاء والمعلمات الفصيحات من روضة الأطفال إلى الجامعة وتلزمهم بإصلاح ألسنة تلاميذهم وإزالة ما ذكرناه من الفساد بعد إزالته من ألسنتهم أعنى المعلمين أنفسهم.
وكل تهاون بهذا النوع من الإصلاح يترك أبناء المغرب متخلفين في اللغة العربية مستعجمين. وأما العلوم العصرية واللغات الأجنبية فالأفضل أن نأخذها رأسا من أوربا وأمريكا بلا واسطة. وذلك بإيفاد البعثات من الطلبة للتعلم واستيفاد الأساتذة بقدر الحاجة والوسع. ولا ينبغي لنا أن نقتصر على شعب واحد من الشعوب الأوربية لا نتعداه، بل ينبغي لنا أن نطلب العلوم العصرية في بلدان مختلفة لنجمع خلاصة ما جد من الاكتشافات والاختراعات ونترجم ذلك بأنفسنا وننقله إلى لغتنا ونعلمه أبناءنا، ولا نبقى أسراء في يد دولة واحدة على لغة واحدة. ونحن نرى الشعوب الأوربية نفسها تتبادل الطلاب والأساتذة ولا يستغني شعب منها بما عنده من العلوم وإن بلغ الغاية في الرقي والتقدم.
وأهم شيء يجب أن نوجه إليه عنايتنا من العلوم العصرية العلوم التي تهيئنا إلى استخراج الكنوز المخزونة في أرضنا بأنفسنا ونستغلها وننعم بها ولا نبقي منها شيئا مهملا، ثم الصناعات والفنون التي نحتاج إليها في معاشنا ونستورد على الدوام منتوجاتها من الخارج. ثم إعداد الموظفين الإداريين والمهندسين والأطباء والأخصائيين في سائر الفنون. وينبغي لنا أن نراقب البعثات من التلامذة الذين يدرسون في الخارج مراقبة كفيلة بأداء المهمة التي سافروا من أجلها حتى يكون كل عائد منهم إلى الوطن قد أتم دراسته واستعداده لأن يحل محل الأستاذ أو المدير أو الموظف الأجنبي ويدير عمله بنجاح لا يقل عن نجاح سلفه بل يزيد. ويجب أن نحذر من بعث الطلاب غير الأكفاء مع عدم مراقبتهم في مراحل دراستهم في الخارج حتى لا يقضوا سنين عديدة تكلفنا نفقات طائلة ثم يرجعوا بخفي حنين أو بشهادات ملفقة يحملونها، حتى إذا كلفوا بالأعمال أو الإدارة أو التعليم يظهر عجزهم وفشلهم. ويحكى أن امبراطور اليابان لما بعث البعثة الأولى من الطلبة إلى أوربا قضوا مدة هناك على نفقة حكومتهم ثم رجعوا يحملون شهادات ليس معها معلومات تمكنهم من القيام بالأعمال التي يشغلها الأجانب في بلادهم. فلما كلفوا بتلك الأعمال ظهر إفلاسهم وعجزهم، فأمر الامبراطور بمحاكمتهم فظهر أنهم مذنبون وحكم عليهم بعقوبات شديدة. ثم بعث البعثة الثانية وقضت المدة المعينة نفسها فلما رجعوا بشهادات معها علم وكفاءة حل كل واحد منهم محل موظف من الأجانب وقام بعمله خير قيام، وإني لأعرف رجلا درس الأدب في أوربا ثم درس في جامعة عربية من أشهر الجامعات وتخرج بشهادة الدكتور في الأدب العربي ثم أخذ يدرس أدب اللغة العربية فوصل إلى رسالة بعث بها عمر بن الخطاب إلى معاوية، جاء فيها (ولم آل جهدا في النصيحة) فقال للطلبة يا عجبا. كيف دخلت لم على الإسم فكلمة (آل) اسم ولم لا تدخل إلا على الفعل المضارع فتحير الطلبة أيضا. ودعا بمعجم فأخذ يفتش فيه عن معنى الآل فلم يجد ما يحل المشكلة. ثم ذهب إلى كلمة (إل) بكسر الهمزة فلم يحصل على شيء. وبقيت المعضلة على حالها حتى سألني أحد أولئك الطلبة وقلت له: إن (لم) لم تنحرف عن سنتها ولم تسلك واديا غير واديها ولا ابتغت بإلفها وهو الفعل المضارع بديلا، وإنما أتي صاحبكم من تبلد الذهن وسوء الفهم وخوضه فيما لا يعنيه. وآل فعل مضارع مجزوم بحذف الواو. وهذا الفعل من الأفعال الشائعة الاستعمال، وهو موجود في القرآن في سورة آل عمران (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً).
وقد آن لنا أن نمسك عنان القلم، إذ لو تركناه لجرى أشواطا لا يحتملها المقام، وبالله التوفيق.
مجلة دعوة الحق، العدد 43 (العدد 1 – السنة الخامسة) – ربيع الثاني 1381هـ – أكتوبر 1961م – ص 2-5