يقول راجي عفو ربه المتعالي، محمد تقي الدين بن عبد القادر الهلالي، جاءني الاستفتاء التالي من رئيس جمعية الإصلاح الاجتماعي من الكويت ونصه:
صاحب الفضيلة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد.
في العام الدراسي 66/1967 فتحت جامعة الكويت أبوابها للطلبة والطالبات وكل منهم يدرس في كليات خاصة، فالطلبة التحقوا بكلية الآداب والعلوم والتربية، أما الطالبات فالتحقن بكلية البنات، والكلية الأولى في منطقة، والثانية في منطقة أخرى، وعند ما قرر المسؤولون فتح كليتين جديدتين هما (كلية التجارة وكلية الشريعة والقانون) حاول البعض جعلهما مختلطتين، ولكن الغيورين وقفوا في وجه هذه المحاولة وأصدر مجلس الأمة قراراً منع بموجبه الاختلاط في الجامعة، وفي كلية البنات الجامعية تتوفر كل الأقسام الموجودة في الكليات الثلاثة الأخرى التي هي مخصصة للطلاب.
ومما تجدر الإشارة إليه أنه في هذه الأيام يوجد مشروع قانون لمنع الاختلاط في الجامعة مطروح على مجلس الأمة لمناقشة حيث أن قانون الجامعة الحالي مع الأسف لم ينص على الاختلاط، ولذلك يثير البعض بين فترة وأخرى نغمة الاختلاط زاعمين أنه لا حرمة فيه.
نرجو من فضيلتكم بيان حكم الإسلام في اختلاط الطلبة بالطالبات في الدراسة الجامعية في الوقت الحاضر.
ومن المعلوم أن الطالبات لا يرتدين الأزياء المحتشمة وإنما يلبسن الأزياء الغربية المثيرة.
ونرجو من فضيلتكم أيضاً بيان الأضرار التي تنجم عن الاختلاط على ضوء تجارب الجامعات المختلطة في بعض البلاد الغربية، علما بأنه يوجد جامعات كثيرة في العالم غير مختلطة وهي من أنجح الجامعات، راجين أن يصل جوابكم سريعاً وتفضلوا بقبول فائق التحيات.
رئيس جمعية الإصلاح الاجتماعي.
الجواب والله الموفق بمنه وكرمه للصواب.
ينبغي أن أقدم بين يدي جوابي عن هذا السؤال ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حث النساء على ترك الاختلاط بالرجال ولو كان بريئاً من كل بريبة إذا لم تدع إلى ذلك ضرورة فإذا دعت إلى ذلك ضرورة قيد بالقيود الشرعية التي تجعله محدوداً بقدر الضرورة وبعيداً من ارتكاب المفاسد والمآتم التي تربو على ما قد يكون فيه من النفع.
الحديث الأول: روى الإمام أحمد والبيهقي والطبراني من حديث أم حميد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنساء: (صلاتكن في بيوتكن أفضل من صلاتكن في حجركن، وصلاتكن في حجركن أفضل من صلاتكن في دوركن، وصلاتكن في دوركن أفضل من صلاتكن في مسجد الجماعة).
الحديث الثاني: روى أبو داود في سننه عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها).
الحديث الثالث: روى الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة المرأة وحدها تفضل على صلاتها في الجمع بخمس وعشرين درجة). والحديث الثاني رواه الحاكم أيضاً في مستدركه من حديث أم سلمة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الأحاديث الأربعة كلها صحيحة حسب ما أشار إليها السيوطي بعلامة الصحة في الجامع الصغير.
بيان معاني ألفاظ الحديث
المخدع بكسر الميم وتضم وتفتح، البيت الصغير الذي يكون داخل البيت الكبير، والحجرة حظيرة الإبل ومنه حجرة الدار، قاله صاحب اللسان، الدار، اسم جامع للعرصة والبناء والمحلة.
نفهم من هذه الأحاديث أموراً.
الأول: إن صلاة المرأة في مخدعها وهو بيت داخل بيت أو غرفة داخل غرفة، إذا كان الإنسان داخله يكون قد أغلق على نفسه بابين، باب البيت أو الغرفة، ثم باب المخدع الذي تشتمل عليه الغرفة، صلاتها فيه أفضل من صلاتها في البيت أو الغرفة.
الثاني: إن صلاتها في البيت أو الغرفة من صلاتها في الحجرة، والحجرة هي التي تسمى بالعامية في هذا الزمن (الحوش) وهي جدار يدار على عرصة يستر أبواب البيوت يزيد ذلك وضوحاً حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس في حجرتي بيضاء نقية.
الثالث: إن صلاتها في حجرتها أفضل من صلاتها في الدار، والدار هي حجرة كبيرة أي حوش كبير يشتمل على مساكن عديدة كل مسكن فيه حجرة، وقد فتح فيها بيت أو أكثر.
الرابع: إن صلاة المرأة وحدها أفضل من صلاتها في الجماعة بخمس وعشرين درجة.
الخامس: إن صلاة المرأة في الحجرة الكبيرة أفضل من صلاتها في مسجد قومها مع الجماعة.
فما مقصود النبي صلى الله عليه وسلم بهذا كله؟
الجواب واضح، وهو إبعاد المرأة في وقت عبادتها ومناجاتها لله تعالى عن الرجال، لا تراهم ولا تسمع أصواتهم لأن بها حينئذ تكون في غاية الكمال، والصفاء وذلك يدلنا على أن مخالطة النساء للرجال ولو في العبادة التي هي قربة وخير محض ويكون الإنسان فيها متوجها إلى الله بقلبه وجوارحه أمر مرغوب عنه، يغلب شره على خيره، يزيد وضوحاً ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها) وعلل شراح الحديث خيرية آخر صفوف النساء بأنهن عند ذلك يبعدن عن الرجال وعن رؤيتهم وسماع كلامهم.
فإذا كان هذا شأن النساء في الصلاة وفي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإن المراد بالصفوف صفوف مسجده عليه الصلاة والسلام وغيرها، فما بالك بالاختلاط في المدارس مع التزين والاستعداد كأنهن ذاهبات إلى العرس وقد شاهدت ذلك حين كنت أستاذاً في كلية (الملكة عالية) ببغداد (اليوم كلية التحرير)، وفي دار المعلمين العالية فإن الطالبات يلبسن لكل يوم كسوة في غاية ما يكون من الأناقة، وكنت أستاذاً منتدباً في جامعة (بن) بألمانيا فلم أر الطالبات يحتفلن بالتزين للمدرسة مثل ما رأيتهن يحتفلن بذلك في البلاد العربية، ولا أقول البتة إن الطالبات الألمانيات أحسن منهن تمسكاً بالآداب لم أقصد ذلك البتة، ولكن قصدت أن المقلد قد يغلو في تقليده حتى يتجاوز الحد الذي وصله المقلد (بالفتح) ، والإسلام دين العلم يأمر أهله رجالاً ونساءً بتعلم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، مع المحافطة على أشرف شيء عند المسلم وهو العرض، وذلك ممكن إذا تمسكنا بكتاب الله وكانت لنا في رسول الله أسوة حسنة، وكنا ممن يرجو الله واليوم الآخر ويذكر الله كثيراً، وقد يزعم المفسدون أن المدنية الأوروبية لا تتجزأ يجب أن تؤخذ كلها بخيرها وشرها أو تطرح كلها، ولعمر الله ما بروا ولا نصحوا بل غشوا وكذبوا فإن الأوروبيين لم يأتهم هذا الفساد من قبل المدنية والعلم، وإنما هي عادات كان عليها آباؤهم من زمان وثنيتهم ثم جاءتهم المسيحية فلم تستطع أن تؤدبهم وتصلح أحوالهم، لأن الإنجيل خال من التشريع والآداب والأحكام وليس فيه إلا مواعظ وتزهيد مفرط في الدنيا، والقسيسون الذين وضعوا الشرائع لم يعتنوا إلا بما يتعلق بالكنائس، والأديرة والرهبان والراهبات، والأعياد والعبادات على أنهم لو وضعوا شرائع وآداباً لم تنفع لأنها لم تنزل من الله العزيز الحكيم، ولا ينفع البشر إلا ما نزل من خالقهم وبلغهم بواسطة الرسل، ومع ذلك نرى الأوروبيين طبقتين اثنتين طبقة الوزراء والملوك والأغنياء، وطبقة الفقراء ومن يليهم من المتوسطين، فالطبقة الأولى لا تبالي بالعرض أصلاً والشاذ لا حكم له، والطبقة الثانية ساخطة على الاختلاط المريب، ولو كان الأمر إليها لمنعته.
كنت أسكن في (بن) وفي ذات يوم رجعت من الجامعة فسمعت بكاء وصياحاً وحركة غير معتادة فلما جاءتني صاحبة البيت بالطعام قلت لها ما الخبر؟ فأخبرتني أن ابنتها وعمرها عشرون سنة وجدها أبوها قد ركبت سيارة مع شاب لا يعرفه فأوقفه وقال له: أين تذهب بابنتي؟ فقالت له ابنته بالله عليك يا بابا اتركني معه فإنه شاب طيب وسيزورك ويعرفك بنفسه فلم يقبل منها ذلك وأخرجها من السيارة وجاء بها إلى البيت وضربها، وذلك البكاء الذي سمعت هو بكاؤها، ثم بعد ذلك ببضعة أشهر أخبرتني ابنتها أنها بلغت أباها أن بين أمها وبين شريك أبيها علاقة قبيحة وأن أباها غضب على أمها وقالت لي قد كلت لها صاع بصاع، هذا يقع في البيوت المحافظة في أوروبا وهو الطامة الكبرى فأي مسلم يرضى أن يقع مثل هذا في بيته وفي أهله وفي عشيرته؟ مع أن مثل هذا في أوروبا يعد رجعية.
أما في أسبانيا التي هي أشد بلاد أوروبا محافظة بزعمها، فإن الأغنياء والمتوسطين في المال إذا كانت عندهم فتاة قد بلغت سن الزواج يستأجرون لها امرأة كهلة يثقون بها ويعطونها مسكناً وطعاماً ودراهم لأجل أن ترافق ابنتهم يوم الأحد إذا جاء خاطبها ليخرج معها للتنزه، وهذا المرأة الحارسة لا تسمح للخطيبين أن يخلو بعضهما البعض ببعض لحظة واحدة، وقد شاهدت ذلك بغرناطة وتحققته.
والشريعة الإسلامية سمحة لا تمنع المرأة أن تخرج لقضاء حاجتها، وأن تخالط الرجال إذا دعتها الضرورة ذلك بقدر الحاجة بلا تبرج ولا إغراء ولا خلوة كما أدبها الله تعالى في كتابه في سورة النور وفي سورة الأحزاب، والتقليد كله شر وضرر، والخير في التبصر فينبغي أن نتعلم من الأوروبيين العلوم والصنائع التي تنفعنا في دنيانا مع المحافظة على ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكارم الأحكام والآداب، وأهل الكويت من صميم العرب الذي هم أحق الناس بالمحافظة على هذا الكنز الثمين وهو شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وهم شعب قليل العدد كثير المال وقد كانوا فقراء فأغناهم الله ومستعبدين فأعزهم الله ولا يمكن أن يحافظوا على هذه النعم إلا بالاستمساك بالدين والعض على السنة بالنواجذ وطاعة مرشديهم وعصيان الغاوين منهم، فيجب أن تكون مدارس الإناث مفصولة عن مدارس الذكور من روضة الأطفال إلى شهادة الدكتوراه، ويجب أن يختار للتعليم في مدارس الإناث النساء الصالحات المؤمنات وعند الضرورة يختار الرجال الصالحون المؤمنون، ويجب على الأمة الطيبة والطائفة الصالحة المفلحة من شباب الكويت وكهوله وشيوخه أن ينقذوا شعبهم من هذه الهاوية التي بلغنا أنهم وقعوا فيها وهي ترك لباس الحشمة والحياء وتبرج النساء وخروجهن عاريات كاسيات، مائلات مميلات، ويجب على هذه الطائفة الصالحة أن تعزز القول بالفعل فتبدأ بنسائها وبناتها، فتلبسهن لباس التقوى وتنزع عنهن لباس الفجور ثم تدعو إلى إتباع هذه السبيل وهي سبيل النجاة والمحجة البيضاء، ومن سلك الجدد، أمن العثار، وإذا كان في أوروبا نفسها الآلاف من النساء يهبن أنفسهن بزعمهن للمسيح فيتركن كل زينة ويتركن الزواج، وينقطعن عن النسل وهو يشاهدن العجب العجاب من الفجور وآباؤهن وأمهاتهن وأقاربهن راضون بعملهن فلماذا يعسر على المسلمين أن يسلكوا ما هو أخف من ذلك بدرجات كثيرة وهو إتباع هدي رسول الله في عدم إظهار الزينة إلا لمن أباح الله إظهارها له مع التمتع بنعمة الزواج وإنجاب أولاد والمحافظة على الأولاد والمحافظة على المروءة والكرامة.
وفي الختام أسأل الله لجمعية الإصلاح أن يعينها على حمل هذا العبء الثقيل الذي تصدت له بقوة وشجاعة وإيمان، وأن يكثر عدد أهل الغيرة الشهامة المنتمين إليها، ويكلل مساعيها بالنجاح، ويوفق المسلمين في الأقطار الإسلامية إلى الاقتداء بسنتها.
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أملاه محمد تقي الدين بن عبد القادر الهلالي بالمدينة النبوية على من شرفها الله به أفضل السلام وأزكى التحية لاثنتي عشرة ليلة مضين من صفر سنة تسع وثمانين وثلاثمائة وألف 1389.
من كتاب: حكم الاسلام في الاختلاط – من رسائل جمعية الإصلاح الاجتماعي بالكويت – جمادى الثانية 1389 هـ / تموز (يوليو) 1969 م – ص: 58-66