تقويم اللسانين مستقيم
وقد عدلت في تعديلك عن العدالة
(3)
7- قال المعترض: وقال (فإن من كان عالما بالنحو في أي لغة كانت يتخذه مصباحا) وهذا التعبير كان أولى من غيره بتقويم اللسان، فإن مراده، من كان عالما بنحو لغة من اللغات يتخذه مصباحا، فاستعمل (أيا) هذا الاستعمال الغريب، وظن أن الضمير في (كان) يعود إلى اللغة، فألحق به تاء التأنيث، مع أن الفعل ينبغي أن يكون للعلم المفهوم من اسم الفاعل. وبيان ذلك من كان عالما بنحو لغة كائنا ما كان هذا العلم بالنحو، فإذا أراد اللغة وجب تقديمها فيقال (من كان عالما بلغة أي لغة كانت) فالفعل الذي يأتي بعد (أي) يعود ضميره إلى الاسم الذي قبلها وهذه أدنى مراتب الصحة أو دنياها، اهـ.
أقول: هذا كلام رجل يجادل بالباطل ليدحض به الحق، قد شوى الحسد قلبه، وأغصه بريقه، فأراد أن يهدم ما بينته، ويفسد ما أصلحته “﴿اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾، ﴿وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ [يونس: 82]”.
قولي: في (أي) لغة كانت، جار ومجرور، في محل نصب متعلق بمحذوف حال من النحو، وكانت فعل تام، وفاعله ضمير مستترا جوازا تقديره، هي يعود على اللغة، وهذه الجملة في محل جر صفة للغة، وهذا كلام مستقيم لا إشكال فيه.
وقوله: فإذا أراد اللغة وجب تقديمها فيقال (من كان عالما بلغة، أي لغة كانت) أنا لم أرد العلم باللغة، وإنما أردت العلم بنحوها ولو أردت العلم بها لما وجب تقديم الموصوف مذكورا، فقد تقدم ما يشفي العليل ويروي الغليل في جواز حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه بكثرة، وتقدمت الشواهد على ذلك، فمعنى كلامي من كان عالما بالنحو في أي لغة كيفما كانت، وهو واضح لكل ذي قلب سليم، وفهم غير سقيم.
8- قال المعترض، وقال (ينتفع أهل الأرض بضوئها ودفئها وإنضاجها للثمار إلى غير ذلك) فكيف نصل (إلى غير ذلك) بالجملة، وهي لا تحتاج إلى (إلى) التي هي منتهى لابتداء الغاية، فلو قال (من ضوئها ودفئها إلى غير ذلك) لصح التعبير، فالصواب، العطف (غير ذلك) فتكون الجملة بضوئها ودفئها وإنضاجها للثمار إلى غير ذلك، اهـ.
أقول: لقد طاش سهمك في هذه أيضا، ومن قال لك إن (إلى) محصورة في انتهاء الغاية ولو درست كتابا من كتب النحو المتوسطة لعرفت أن لها معاني أخرى غير انتهاء الغاية فدونك ما قاله الأشموني في شرحه لألفية ابن مالك في معاني (إلى) لتعلم أن ريحك لاقت إعصارا، وأن الحق لا يعدم أنصارا.
قال الأشموني:
وأما (إلى) فلها ثمانية معان:
الأول: انتهاء الغاية مطلقا كما تقدم.
الثاني: المصاحبة، نحو: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: 2].
الثالث: التبيين، وهي المبنية لفاعلية مجرورها بعد ما يفيد حبا أو بغضا من فعل تعجب أو اسم تفضيل نحو: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ﴾.
الرابع: موافقة اللام نحو: ﴿وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ﴾ وقيل لانتهاء الغاية، أي منته إليك.
الخامس: موافقة في، نحو: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ وقوله:
فلا تتركني بالوعيد كأنني
إلى الناس مطلي به القار أجرب
السادس: موافقة مِنْ كقوله:
تقول وقد عاليت بالكور فوقها
أيسقى فلا يروى إلى ابن أحمرا
السابع: موافقة عند كقوله:
أم لا سبيل إلى الشباب وذكره
أشهى إلي من الرحيق السلسل
الثامن: التوكيد، وهي الزائدة، أثبت ذلك الفراء مستدلا بقراءة بعضهم ﴿أَفۡـِٔدَةࣰ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوَیۤ إِلَیۡهِمۡ﴾ بفتح الواو، وخرجت على تضمين تهوى معنى تميل، اهـ.
قال ابن منظور في لسان العرب: وتكون (إلى) بمعنى (مع) كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: 2] معناه مع أموالكم، وكقولهم، الذود إلى الذود إبل، وقال الله عز وجل: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾ [آل عمران: 52] أي مع الله وقال عز وجل: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ [البقرة: 14] اهـ.
فظهر أن استعمالي (لإلى) بمعنى (مع) صحيح مستقيم، وأن انتقاد المعترض سقيم.
9- قال المعترض: وقال (ورنفت صفو زلاله المعين مما يسوء كل طالب علم) فمن هنا للبيان والتفسير فكيف يكون الزلال لمعين مما يسيء كل طالب علم، وإذا عددناها للتعليل يكون ترنيق الصفو بسبب ما يسوء كل طالب علم وهو غير مراد الكاتب، فالصواب وذلك مما يسوء كل طالب علم على الابتداء والإخبار، اهـ.
أقول: لم أقصد (بمن) بيانا ولا تعليلا، وإنما قصدت أن ترنيق الصفو مما يسوء كل طالب علم، إلخ، فهي هنا للتبعيض، والمبتدأ محذوف، التقدير: وهو أي الترنيق، مما يسوء إلخ، وهكذا يفهم أولو الألباب أجمعون، وإنما حمله على التخطئة والتصويب ابتغاء العيوب وإلصاقها بالبراء، شأن كل مريب.
10- قال المعترض: وقال في الكاف التي سماها استعمارية (وهذا الاستعمال دخيل لا تعرفه العرب) أراد (لم تعرفه العرب) وإلا فإن العرب عارفة به، فالمراد نفي الماضي لا المستقبل، جاء في الصحاح (لا) حرف نفي لقولك، يفعل، لم يقع الفعل، إذا قال: هو يفعل غدا، قلت، لا يفعل غدا ولا تنفي الماضي إلا إذا كررت، أو عوض عن تكرارها، وليس هذا موضع الجدال، لأن الفعل في الجملة المنقودة مضارع جعلته (لا) للاستقبال مع أن المراد نفي معرفة العرب قديما، اهـ.
أقول: من الشائع الذائع في كتب النحاة وعلى ألسنتهم، العرب لا تبدأ بساكن ولا تقف على متحرك، فهل معناه، لن تبدأ ولن تقف، بل المراد أنه ليس من عادتها ولا من شأنها أن تفعل ذلك، فالمعنى غير مقيد بالمعنى، ولو قلنا، لم تبدأ ولم تقف لم يحصل المراد، وكلام الصحاح قد ساء فهم المعترض له، فإن قوله (لا يفعل غدا) لا يدل على أن (لا) هي التي عينت الفعل للاستقبال، بل القرينة (غدا) هي التي عينته له قال ابن بونا في ألفيته:
واجعل في الاستقبال الأمر واقعا
وقل به والحال فيما ضارعا
قال الناظم نفسه في شرح هذا البيت، أي المضارع، ولو (نفى) بلا خلافا لمن خصصها بالمستقبل، ومن وروده مع (لا) للحال قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾، اهـ.
فهذه حكاية حال ماضية، وهي تحكى بالمضارع كما رأيت شاهده في كتاب الله، ولكن فهم المعترض منحصر في دائرة ضيقة لقلة علمه، ولأنه لم يأت البيوت من أبوابها.
قال ابن منظور في لسان العرب في الكلام على (لا) ما نصه:
قال الليث، العرب تطرح (لا) وهي منوية كقولك: والله أضربك، تريد والله لا أضربك، وأنشد:
واليت آسى على هالك
وأسأل نائحة ما لها
فقول الليث وهو من أئمة اللغة: والعرب تطرح (لا) هو كقولي أنا (لا تعرفه العرب) إلا أن الفعل في كلامه مثبت، وهو في كلامي منفي (بلا) وقد تقدم أن (لا) لا تعينه للاستقبال، فبطل كلام المعترض، وقال ابن منظور أيضا، التهذيب، قال الفراء، والعرب تجعل (لا) صلة إذا اتصلت بحرف قبلها، وقال الشاعر:
ما كان يرضى رسول الله دينهم
والأطيبان أبوبكر ولا عمر
ومثل هذا في أقوال أئمة اللغة كثير.
وقوله: (وإلا فإن العرب عارفة به) من أعجب العجب، هل يستطيع أن يأتينا بدليل على أن العرب كانت تعرف الكاف الاستعمارية وتستعملها في كلامها؟ فأنا أتحداه أن يأتي بشاهد واحد عن العرب، بل لا يستطيع أن يأتي بدليل من كلام المولدين الذين جاءوا بعد العرب ولا يجده أبدا قبل هذا الزمان النحس، زمان الاستعمار المادي والسياسي واللغوي، والذي يؤسفني أن هذا المعترض يعلم يقينا أن هذه الكاف هي ترجمة Comme بالفرنسية، وAS بالإنكليزية وAIS بالجرمانية، وأن هذه الكلمات تأتي في هذه اللغات قبل الحال، وقد تأتي قبل غيرها، وتأتي للتشبيه أيضا، فاستعملها جهلة المترجمين استعمالا فاسدا، وهو يعلم فساده، ويجادل بالباطل عمدا ليغمط غيره ويبخسه حقه، وينصب لنفسه عرشا يجلس عليه، ولم يدر أن من أم أن يرتفع بالباطل خفضه الحق، ولو أنه لم يجادل إلا فيما لا يعرفه، وقصر عنه فهمه لهان الخطب وما أحسن ما قال ذو الأصبع العدواني:
الله يعلمني والله يعلمكم
والله يجزيكم عني ويجزيني
قوله (ولا تنفي الماضي إلا إذا كررت) باطل، فقد جاء الفعل الماضي في كلام العرب منفيا (بلا) غير متكررة، قال الشاعر:
ردوا فو الله لا ذرناكم أبدا
مادام في مائنا ورد لوراد
قال العلامة المحقق أحمد بن أمين الشنقيطي العلوي في الدرر اللوامع شرح شواهد همع الهوامع للسيوطي بعد إيراد البيت المتقدم استشهد به على تعيين لماضي المنفي (بلا) للاستقبال، ذدناكم، كففناكم، وهو بالذال لا بالزاي، ولم أعثر على قائله، اهـ.
واستشهد به أيضا على ذلك ابن بونا في حاشية ألفيته، واعلم أيها القارئ الكريم أن المضارع في كلام العرب يأتي بمعنى الماضي في مواضع، وأن الماضي يأتي للحال وللاستقبال بشروط وقرائن ذكرها السيوطي في همع الهوامع شرح جمع الجوامع له، وذكرها ابن بونا في ألفيته، وأظن أن المعترض لم يسمع بهذين الكتابين، فضلا عن أن يدرسهما، وحسبه ما كتبه إمامه القسيس (انسطاس الكرملي) والقسيس بلو الفرنسي، فبهما يصول ويجول ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾.
11- قال المعترض: وقال (بين غث وسمين، وكدر معين) ظانا أن المعين هو الصافي والرائق مع أنه الجاري، وقد يكون الجاري رائقا أو كدرا بحسب أرضه وجريته ومنبعه وعينه وما يحدث فيه، اهـ.
أقول، صدق المعترض، فإن المعين هو الذي تراه العين، كما قال البيضاوي، وهو الماء الجاري، ولكن أكثر الماء الجاري، وهو البحر يكون صافيا على الدوام ولا يتكدر، فإن قيل إن البحر غير جار، نقول، بلى بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء الذي كان يقوله إذا رأى قرية، اللهم رب السموات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب البحار، وما جرين، ورب الرياح وما ذرين…. الحديث، وإذا علمت أن ثلاثة أرباع الأرض يغطيها البحر، وأن الأنهار في أغلب الأوقات صافية، وكذلك العيون الجارية، ولا تكدر إلا عند نزول الأمطار وسيلان الأودية تعلم أن الجريان يلازم الصفاء، والتعبير باللازم وإرادة الملزوم شائع في كلام البلغاء والقرينة لا تبقي شكا في أني أريد الصافي، وكذلك قول الشاعر:
إن حمامنا الذي نحن فيه
أي ماء به!وأية نار!
قد نزلنا به على ابن معين
وروينا به صحيح البخار
قوله (على ابن معين) فيه تورية، فالمقصود هو الماء المعين الصافي في الحمام، والمعنى الذي وري به هو الإشارة إلى الإمام الحافظ أحد أئمة الجرح والتعديل يحيى بن معين، وفي قوله صحيح البخار تورية، فإن المقصود بخار الحمام، والتورية بصحيح الإمام الحافظ أمير المؤمنين في الحديث أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، ومن المعلوم أن ماء الحمام غير جار ولكنه عبر باللازم وأراد الملزوم، والمناقشة في مثل هذه الصغائر من الشطط، والتماس العيوب للبراء.
12- قال المعترض: وقال (وستأتي في هذه المقالات إن شاء الله أمثلة عديدة توضح ذلك) أراد بعديدة (كثيرة) مع أن العديدة هي المعدودة، قليلة كانت أو كثيرة، واستعمل (أمثلة) جمع القلة مع إرادته الكثرة، فالصواب مثل كثيرة، الخ.
أقول: صدق المعترض في قوله: إن العديدة يراد به المعدودة، سواء أكانت قليلة أم كثيرة، إلا أن القرينة التي فهم بها هو (الكثرة) كافية لجعل القارئ يفهم الكثرة، واستعمال اللفظ في أحد مدلوله مع القرينة الصارفة عن إرادة مدلول الآخر شائع في كلام البلغاء جار على الأصول، لا سبيل إلى إنكاره فلا يعد عيبا ولا خطأ، إلا عند الذي أصيبت عين بصيرته بالحول، ونكب عن الصراط لمرض في قلبه ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾.
على أن ابن منظور في لسان العرب قال ما نصه، والعديد الكثرة، اهـ. وإذا كان العديد هو الكثرة، فلتكن العديدة كذلك، وعلى ذلك أقول: لو كان اعتراض هذا المعترض كله مثل هذين الاعتراضين الأخيرين لتلقيته بكل سرور، ولكن أكثره كان الباعث عليه القصور وسوء الفهم، أو إرادة السوء والغش المتعمد للقراء.
وأما قوله: إن (أمثلة) جمع قلة، فقد تقدم الكلام عليه مستوفي في الجواب عن النقد الثالث.
13- قال المعترض: نعود إلى الكاف الاستعمارية التي جرب استعمالها في قول القائل (فلان كوزير لا ينبغي له أن يتعاطى التجارة) لأنه استعمال دخيل، مع أنه ذكر من معاني الكاف، (التعليل) فإذا قلنا: فلان لأنه وزير لا ينبغي أن يتعاطى التجارة، كان المراد مضمونا والمعنى واضحا، اهـ.
أقول: إنني لا أحسن استعمال هذه الكاف، ولله الحمد، لأن طبعي يأباها كما يأباها طبع كل كاتب تعزف نفسه عن استعمال الألفاظ الدخيلة الاستعمارية التي غزت لغة الضاد، وأفقدتها جمالها وفصاحتها، وأنا لا أعتقد أن المعترض يجهل هذا، ولكنه ركب رأسه، وحاد عن سواء السبيل بقصد أن يهدم ما بنيته من صروح الإصلاح فهدم نفسه كما قال المتنبي:
وكم من مريد ضرَّه ضرَّ نفسه
وهاد إليه الجيش أهدى وما هدى
وزعمه أن الكاف الاستعمارية تؤول على أنها للتعليل زعم قليل، فقولنا: فلان كوزير لا يجوز له أن يتعاطى التجارة، لا يفهم منه أحد أن الكاف للتعليل إلا إذا كان فهمه عليلا، فاسمع أيها المعترض ما يقوله ابن هشام في المغنى.
(الكاف المفردة) جارة وغيرها، والجارة حرف واسم، الحرف له خمسة معان، أحدها التشبيه، نحو زيد كالأسد، والثاني: التعليل أثبت ذلك قوم، ونفاه الأكثرون، وقيد بعضهم جوازه، بأن تكون الكاف مكفوفة بها، كحكاية سيبويه، كما أنه لا يعلم، فتجاوز الله عنه، والحق جوازه في المجردة من ما نحو: ﴿وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ أي أعجب لعدم فلاحهم، وفي المقرونة بما الزائدة كما في المثال، وبما المصدرية، نحو ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ﴾ الآية، قال الأخفش، أي لأجل إرسالي فيكم رسولا منكم فاذكروني، وهو ظاهر في قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ وأجاب بعضهم بأنه من وضع الخاص موضع العام، الذكر والهداية يشتركان في أمر واحد، وهو الإحسان، فهذا في الأصل بمنزلة: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ والكاف للتشبيه ثم عدل عن ذلك للإعلام بخصوصية المطلوب.
وما ذكرناه في الآية من أن ما مصدرية، قاله جماعة وهو الظاهر وزعم الزمخشري وابن عطية وغيرهما أنها كافة، وفيه إخراج الكاف عما ثبت لها من عمل الجر بغير مقتض، واختلف في نحو قوله:
وطرفك إما جئتنا فاحبسنه
كما يحسبوا أن الهوى حيث تنظر
فقال الفارسي: الأصل كيما فحذف الياء، وقال ابن مالك هذا تكلف، بل هي كاف التعليل، وما الكافة، ونصب الفعل بها لشبهها بكي في المعنى، وزعم أبو محمد الأسود في كتابه المسمى بنزهة الأديب، أن أبا علي حرَّف هذا البيت، وأن الصواب فيه:
إذا جئت فامنح طرف عينك غيرنا
لكي يحسبوا…. البيت
شرح الغامض على بعض القراء من كلام المغنى.
• قوله (جارة وغيرها) أي الكاف المفردة، منها كاف جارة، ومنها كاف غير جارة.
• قوله (كما أنه لا يعلم فتجاوز الله عنه) المعنى تجاوز الله عنه لأنه لا يعلم، أي غفر له لعدم علمه، أن ما فعله ذنب.
• قوله (كما في المثال) يعني المتقدم من حكاية سيبويه، وهو كما أنه لا يعلم فتجاوز الله عنه، فالكاف للتعليل، وما زائدة، والمصدر المؤول من أن وما بعدها فاعل لفعل محذوف تقديره ثبت هكذا أعربه الأمير في حاشيته على المغنى والتقدير لثبوت عدم علمه سامحه الله فتجاوز عنه، والذي حمله على هذا التكلف أن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها، ولو اعتبرنا الفاء زائدة لم نحتج إلى هذا التقدير كله، فيكون الجار والمجرور متعلقا بما بعده، وهو تجاوز قوله (قال الأخفش: أي لأجل إرسالي) الخ فيه، إعمال ما بعد الفاء فيما قبلها، وقد سكت عنه الأمير، وهذا يدل على ما رجحته أنا في إعراب المثال المتقدم.
• قوله (وقال بعضهم) الخ يعنى أن بعضهم جعل الكاف في (كما أرسلنا) للتشبيه وفي ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ لا للتعليل ومراده بالخاص إرسال الله الرسول، وذكر الناس لله وشكرهم له يشملهم الإحسان، فالإرسال إحسان من الله إلى عباده، والذكر والشكر إحسان منهم في طاعته وعبادته، وبذلك يشبه قوله تعالى في سورة القصص: (77): ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾.
• قوله (طرفك) الخ، هذا البيت لعمر بن أبي ربيعة، قاله السيوطي في حاشيته على المغنى، والمعنى، أن المحبوبة قالت للشاعر، بزعمه إن جئتنا فاحبس طرفك عني، وانظر إلى غيري ليظن الناس أنني لست محبوبتك، وأن محبوبتك حيث تنظر، وبذلك يبقى حبنا مستورا، فهكذا تستعمل كاف التعليل أيها المعترض المتعنت الغازي بلا سلاح، فلا جرم أن تكون عاقبتك الهزيمة والافتضاح.
دعاني لشب الحرب بيني وبينه
فقلت له لا لا، هلم إلى السلم
فلما أبى ألقيت فضل عنانه
إليه فلم يرجع بحزم ولا عزم
فكان صريع الخيل أول وهلة
فبعدا له يختار جهلا على علم
﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا، فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ، وَإِنْ تَنْتَهُوا، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ، وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ، وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
• قوله: ثم إنه لما عاب على القائل قوله لم يذكر له القول الصحيح فلنحسب أن القول المذكور دخيل، فما وجه الصواب؟ فالبراعة ليست في التخطئة وحدها، بل فيها وفي ذكر الوجه الصحيح، انتهى.
أقول: أنا لا أعامل الكتاب كما يعامل معلم الإنشاء في المدرسة الابتدائية تلاميذه كما تفعله أنت، ثم إن الكاف الاستعمارية تستعمل ضروبا من الاستعمال الفاسد، وقد نقلت عن الأئمة معاني الكاف، واستعمالها بأمثلة موضحة من كلام العرب، لا تبقي لبسا ولا إبهاما فإذا راعوا تلك القواعد، وتجنبوا الكاف الاستعمارية التي لا معنى لها، ولا ينطبق عليها كلام الأئمة، فليختاروا ما شاءوا من العبارات، لأن باب التعبير واسع، وضروب القول كثيرة، ومن تجنب الخطأ أدرك الصواب، فقولهم مثلا، حضر فلان المؤتمر كمراقب، فاسد، لأنه من باب تشبيه الشيء بنفسه، ولا يصح أن تكون الكاف للتعليل، كما زعم المعترض، إذ ينبغي أن يقال ليراقب، بلام التعليل، لأن استعمال القرآن والمثال الذي حكاه سيبويه كل ذلك يأبى أن نقول: حضرت المؤتمر كمراقب، ويراد بذلك: لأني مراقب.
14- قال المعترض: ونعود أيضا إلى منعه قول القائل (يجب علينا أن نسعى لخلق نهضة ثقافية) الخ، أقول في رده، الذي منع استعمال الخلق بمعنى الإيجاد والإنشاء، وخصه بنفسه سبحانه هو الله، والقرآن أكبر حجة في اللغة العربية على المؤمن به والكافر به، قال تعالى في سورة النحل: (17): ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ، أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ فالذي يخلق هو الله والذي لا يخلق هو غير الله، فمن زعم أن غير الله يخلق، وكان ينتسب إلى الإسلام فقد كذب القرآن، وإن كان لا ينتسب إلى الإسلام، فهو جاهل باللغة العربية، فهما خطتا خسف.
وقال تعالى في سورة النحل: (20) : ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ، وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾.
ومن المعلوم أن الآلهة التي اتخذوها من دون الله، منها من يعقل كالملائكة وعيسى وأمه، والصالحين، ومنها تماثيلهم التي يزعمون أن أرواحهم لا تفارقها، وهي الأصنام والأوثان، وقوله تعالى: ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾ يصدق على جميع ذلك، فمن كان مآله الموت فهو ميت، كما قال تعالى في سورة الزمر: (30): ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾.
وقال تعالى في سورة الفرقان: (3): ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ، وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا﴾.
وقال تعالى في سورة فاطر: (3): ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾.
فهذه الآيات ناطقة بأن الخلق لا يسند إلى غير الله البتة، لا فعلا ولا اسما، معرفا أو نكرة، وقال تعالى في سورة لقمان: (11): ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ فالخلق لا يسند إلى غير الله تعالى إلا إذا كان بمعنى التقدير كما في البيت الذي أنشدته من قبل وهو قول الشاعر:
ولانت تفرى ما خلقت وبعـ
ـض القوم يخلق ثم لا يفرى
أو بمعنى الكذب كقوله تعالى في سورة العنكبوت: (17): ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾.
وأما قوله تعالى في سورة آل عمران حكاية عن عيسى عليه السلام: (49): ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ كتبت ما تقدم قبل أن أراجع غريب القرآن للراغب، فوجدت كلامه مطابقا لما قلته، ولما كنت أريد أن أقوله ولله الحمد:
قال الراغب: الخلق، أصله: التقدير المستقيم، ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء، قال: خلق السموات والأرض، أي أبدعهما، بدلالة قوله: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ويستعمل في إيجاد الشيء من الشيء، نحو قوله: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ ﴿خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ﴾ ﴿وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ﴾.
وليس الخلق الذي هو الإبداع إلا لله، ولهذا قال في الفصل بينه تعالى وبين غيره: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ وأما الذي يكون بالاستحالة فقد جعله الله تعالى لغيره في بعض الأحوال كعيسى حيث قال: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي﴾ والخلق لا يستعمل في كافة الناس إلا على وجهين أحدهما: في معنى التقدير، كقول الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ
ـض القوم يخلق ثم لا يفري
والثاني: في الكذب نحو قوله: ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾، اهـ.
أقول: وبنقل هذا الكلام يقال قطعت جهيزة قول كل خطيب، ودارت الدائرة على المعترض.
قال المعترض: احتجاجه بأن الإيجاد والإنشاء خاص بالله تعالى وكذلك الخلق، وهذا احتجاج غريب، فالله تعالى المحيي، وعلى قوله لا يجوز أن نقول (إحياء مآثر العرب وتراثهم) الخ.
أقول، أنا ما احتججت قط بأن استعمال الإيجاد والإنشاء خاص بالله تعالى، وكذلك الإحياء، فهذا افتراء عليَّ، وإنما قلت: إن استعمال الخلق، هو الخاص بالله تعالى، فليراجع كلامي، ليعلم أنه يقولني ما لم أقله، ثم يرد ما تقوَّله عليَّ، بل الذي أرتضيه وأدعو إليه هو استعمال الإيجاد والإنشاء، وترك استعمال الخلق فيما يفعله غير الله تعالى فيقال فلان أحدث، أو أوجد نهضة أدبية في قومه، وكذلك فلان أحيى سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومآثر السلف الصالح، وفي الحديث (من أحيى سنة من سنتي قد أميتت بعدى فله أجر مائة شهيد) وفي كتب الحديث، إحياء الموات ومن أحيى أرضا مواتا فهي له.
ولا أدري كيف وقع المعترض في هذا الخلق والبهتان، أتعمده حسدا وشنئانا، أم أعماه حب الظهور الذي يقطع الظهور، وختم على قلبه الحسد، وحب الهمز واللمز، حتى إنه لم يفهم كلامي مع وضوحه؟ وسائر كلامه ظاهر البطلان.
أما قوله (ينبغي أن نلعن البديع الهمداني) فهو في غاية السخافة فنحن لسنا بصدد لعن أحد، وإنما نحن بصدد اختيار العبارات الصحيحة ونبذ العبارات الفاسدة، فأين يذهب بك أيها المعترض؟ وما هذه النوبة الجنونية؟ التي استولت عليك، وأنت دائما تتظاهر بالرزانة وتتحلم، والحلم عنك بعيد؟
قوله (ولنا مع الدكتور موعدا آخر إن شاء الله) تقدم الجواب عنه في آية الأنفال: ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ﴾ [الأنفال: 19] الآية ولولا الحياء والإبقاء لأنشدته:
إن عادت العقرب عدنا لها
وكانت النعل لها حاضرة
كتب في مكناس بالمغرب.
مجلة دعوة الحق: العدد 101 (العدد 1 – السنة 11) – شعبان 1387هـ – نونبر 1967م – ص: 32-37