تقويم اللسانين مستقيم
وقد عدلت في تعديلك عن العدالة
(5)
كلمة أقدمها بين يدي المقال:
لم أقدم على الكتابة في هذا الموضوع حتى أيقنت أن قراء اللغة العربية وكتابها والمتكلمين بها في أشد الحاجة إليه، وأنهم يتلقونه بغاية الترحيب كما يتلقى الظمآن العذب الفرات البارد، وقد صدق ظني في ذلك، فجاءتني رسائل عديدة من الأقطار البعيدة والقريبة تصدق ما ظننت.
ولما وصلت إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إلى مكة اجتمعت بوفود بيت الله من جميع أقطار العالم، وجدت قراء مقالاتي من العلماء والأساتذة والتلاميذ فوق ما كنت أقدر، ووجدت كثيرا منهم متلهفين إلى هذا الموضوع الجديد (تقويم اللسانين) فزادني ذلك نشاطا واغتباطا، وجعلت قول الحسود والقالي والمتعسف في الموضع اللائق به من الإهمال والإعراض، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا نهتدي لولا أن هدانا الله.
26- استعمال (حيث) للتعليل:
يقال مثلاً: لم ينجح فلان في الامتحان حيث لم يكن مواظبا على حضور الدروس، والصحيح أن يقال: لأنه لم يكن مواظبا. الخ.
ومن ذلك (حيثيات الحكم المستعملة في المحاكم، إذا أراد الحاكم أن يصدر حكمه يعلله بقوله: وحيث أن المدعى عليه ثبتت براءته بشهادة الشهود، وحيث أن المدعِي بالكسر لم يأت ببينة تشهد له، ثم يستمر على هذا الشكل يعطف (حيث) على مثلها حتى يمل القارئ والسامع.
وصواب ذلك أن يقال: ولما ثبتت براءة المدعى عليه بشهادة العدول، ولم يأت المدعِي بالكسر ببينة تثبت دعواه، ثم يعطف ما شاء بعد ذلك على هذا النمط، ثم يقول: حكمنا ببراءته بعد انتهاء تعليل الحكم.
وبيان ذلك أن (حيث) ظرف مكان يقال: اجلس حيث يليق بك أن تجلس، أي في الموضع الذي يليق بك أن تجلس فيه.
قال الراغب:(حيث) عبارة عن مكان مبهم يشرح بالجملة التي بعده نحو قوله تعالى ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ﴾ ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾ اهـ
قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة (149) ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾ ومن أي مكان خرجت للسفر ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ إذا صليت. اهـ
وقوله تعالى: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ أي في أي موضع كنتم من أرض الله الواسعة توجهوا بوجوهكم نحو البيت في صلاتكم.
وقال البيضاوي في قوله تعالى في سورة الأعراف (182) ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أي سنستدنيهم إلى الهلاك قليلا قليلا، وأصل الاستدراج الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة ﴿مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ما نريد بهم، وذلك أن تتواتر عليهم النعم، فيظنوا أنها لطف من الله تعالى بهم فيزدادوا بطراً وانهماكا في الغي حتى يحق عليهم كلمة العذاب. اهـ
أقول: يقول الله تعالى: سنقربهم من العذاب، ونأخذهم به من الجهة التي لا يتوقعونه منها بتكثير النعم عليهم، وتأخير العذاب عنهم حتى يزدادوا بطرا وطغيانا ويغتروا، ويظنوا أن الله ما أكثر عليهم تلك النعم إلا وهو راضٍ عنهم، كما قال تعالى في سورة المؤمنين (55-56) ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾
وقال تعالى في سورة سبأ (37) ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا، فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا، وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾.
يعني أن كثرة الأموال والأولاد عند المرء لا تدل على أنه من المقربين عند الله، لأن ذلك قد يكون استدراجا ومكرا، والذي يدل على رضوان الله هو الإيمان والعمل الصالح، فصاحبه هو الذي يضاعف الله أجر عمله، ويكون يوم القيامة منعما في الغرفات، آمنا من عذاب الله.
وتجيء (حيث) مجرورة بالباء فلا تخرج عن سنتها، وهي الدلالة على ظرف المكان، قال شاعر يحث بني العباس على الفتك ببني أمية بعد أن أظفرهم الله عليهم:
أنزلوها بحيث أنزلها الله *** بدار الهوان والإفلاس
والضمير في أنزلوها، يعود على أمية بمعنى القبيلة، أي أنزلوا بني أمية بالمكان الذي أنزلهم الله به من الذل.
وتجيء أيضا مجرورة بإلى كذلك، كقول الأدباء: إذا سمعوا بهلاك إنسان يكرهونه: إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، وذلك إشارة إلى قول زهير بن أبي سلمى في المعلقة:
فشد ولم يفزع بيوتاً كثيرة *** لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم
فحمل حصين بن ضمضم على خصمه، ولم يخف بيوتاً كثيرة، أي لم يتعرض لها في الموضع الذي ألقت فيه رحلها أي نزلت فيه أم قشعم، وهي المنية أي الموت، أي هجم على خصمه في الموضع الذي حان فيه هلاكه، فأرداه قتيلا. وهنا جرت (حيث) بإضافة لدى إليها، وهي مبنية على الضم في اللغة الفصحى، وبعض العرب يفتحونها، وبعضهم يكسرون ثاءها.
ولا تضاف إلا إلى جملة فعلية نحو قوله تعالى في سورة الأنعام (124) ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ وقوله تعالى في سورة الطلاق (2-3) ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ أي من الجهة التي لا يظن أن الرزق يأتيه منها.
أو إلى الجملة الاسمية نحو: أقم حيث المقام طيب، واظعن حيث الظعن سهل، وحيث في ذلك مضافة إلى الجملة الفعلية أو الاسمية، وقد يحذف خبر المبتدأ في الجملة الاسمية نحو: هذا المنزل طيب من حيث الكلأ، والبعد عن طريق القوافل. أما من حيث الماء فليس بجيد، وتقدير الخبر فيهما موجود.
وقد تضاف (حيث) إلى مفرد شذوذا كقول الشاعر:
أما ترى حيث سهيل طالعا
نجم يضيء كالشهاب لامعا
بِجَر سهيل.
قال العيني، وتبعه الصبان: ترى بصرية، وطالعا مفعولها، وحيث ظرف، ثم قال الصبان: وقيل: مفعولها حيث، وطالعا حال من سهيل. اهـ
وهذا الذي حكاه بصيغة التمريض هو الصواب الذي يستحق التصدير، أي أما ترى مكان سهيل حال كونه طالعا، وقد قلد الصبان العيني، وقلده كذلك الخضري في حاشيته على ابن عقيل، والعيني إمام محقق في علوم العربية، لا في علوم الدين، ولكنه غير معصوم، وخطؤه في هذه المسألة ظاهر، وقيل سهيل مرفوع على الابتداء، وخبره محذوف تقديره موجود، فلا شاهد فيه، على إضافة حيث إلى المفرد. وهناك شاهد آخر على إضافتها إلى المفرد لا أريد أن أطيل بذكره.
وجزم ابن هشام في المغني أن حيث قد تدل على الزمان، واحتج على ذلك بقول الشاعر:
حيثما تستقم يقدر لك اللــ *** ــه نجاحا في غبر الأزمان
أما أئمة اللغة جعلوا استعمالها للزمان خطأ، وخصصوها بالمكان. قال في القاموس: (حيث) كلمة دالة على المكان كحين الزمان، ويثلث آخره: اهـ وقد تقدم ذلك مبسوطا.
27- قولهم علماني وعقلاني خطأ، والصواب علمي وعقلي
وجُهَّال هذا العصر يطلقون العلماني على ما بني على العلم من العقائد والأفكار المضادة للدين، فيقولون: دولة علمانية، أي لا تنتسب إلى أي دين، بل تعتمد في شؤونها على العلم، وهي جديرة بأن تسمى جهلية، لأن الدين هو المبني على العلم اليقيني، ولسنا بصدد انتقاد هذا اللفظ من حيث المعنى، فإنه ساقط، وقد تبين في مقالات دواء الشاكين وقامع المشككين أن السواد الأعظم من العقلاء الأحرار الذين يستطيعون أن يعبروا عما يعتقدون بلا خوف، يؤمنون بالله وبالدين.
أما الشعوب المغلوبة على أمرها فلا يحكم عليها بشيء حتى تعود لها حريتها في اعتقادها، وإنما ننتقد هذه العبارة ونبين براءة اللغة العربية منها. فالنسبة إلى العلم علمي.
قال ابن هشام في كتابه (أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك) ما نصه: باب النسب. إذا أردت النسب إلى شيء فلا بد لك من عملين في آخره: أحدهما أن تزيد عليه ياء مشددة تصير حرف إعرابه، والثاني أن تكسره فتقول في النسب إلى دمشق: دمشقي. اهـ وهكذا فعلنا في النسب إلى العلم، فقد كسرنا آخر الكلمة ليناسب الياء وزدناه ياء مشدودة. فزيادة الألف والنون في قولهم: علماني لا وجه لها، وإنما جاءت من الجهل بقاعدة النسب ولا يمكنهم أن يقولوا: إن هذه نسبة على غير قياس، لأن ما جاء من ذلك يقتصر فيه على السماع ولا يقاس عليه. قال ابن مالك في آخر النسب من ألفيته:
وغير ما أسلفته مقررا
على الذي ينقل منه اقتصرا
قال الأشموني في شرحه لألفية ابن مالك: يعني أن ما جاء من النسب مخالفا لما تقدم من الضوابط شاذ، يحفظ ولا يقاس عليه، وبعضه أشذ من بعض. فمن ذلك قولهم في النسب إلى البصرة: بصري ـ بكسر الباء ـ وإلى الدهر: دهري ـ بضم الدال ـ وإلى مرو: مروزي، وإلى الري: رازي، وإلى خراسان: خَرسي وخُرسي، وإلى جلولاء وحروراء ـ موضعين جلولي وحروري، وإلى البحرين: بحراني، وإلى أمية: أُموي ـ بفتح الهمزة ـ وإلى السهل: سُهلي ـ بضم السين – وإلى بني الحبلي ـ وهم حي من الأنصار، منهم عبد الله بن أبي سلول المنافق، وسمي أبوهم الحبلى لعظم بطنه ـ حُبَلي- بضم الحاء وفتح الباء ـ ومنه قولهم: رقباني، وشعراني، وجماني، ولحياني، للعظيم الرقبة والشعر والجمة واللحية. وقولهم في النسب إلى الشام واليمن وتهامة: رجل شآم ويمان وتهام، وكلها مفتوحة الأول. اهـ
قال في لسان العرب: والربي والرباني: الحَبْر، ورب العلم، وقيل الرباني الذي يعبد الرب، زيدت الألف والنون للمبالغة في النسب. وقال سيبويه: زادوا ألفا ونونا في الرباني إذا أرادوا تخصيصاً بعلم الرب دون غيره، كأن معناه: صاحب علم بالرب دون غيره من العلوم.
وهو كما يقال رجل شعراني ولحياني ورقباني، إذا خص بكثرة الشعر، وطول اللحية، وغلط الرقبة، فإذا نسبوا إلى الشعر قالوا: شعري، وإلى الرقبة قالوا: رقبي، وإلى اللحية: لحيي.
والربي منسوب إلى الرب، والرباني: الموصوف بعلم الرب. ابن الأعرابي: الرباني العالم المعلم الذي يُغَذّي الناس بصغار العلم قبل كباره. وقال محمد بن علي بن الحنفية لما مات عبد الله بن عباس: اليوم مات رباني هذه الأمة.وروي عن علي أنه قال: الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق.
قال ابن الأثير: هو منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون للمبالغة، قال: وقيل: هو من الرب، بمعنى التربية، كانوا يربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها. والرباني: العالم الراسخ في العلم والدين، أو الذي يطلب بعلمه وجه الله. وقيل: العالم: العامل المعلم. وقيل: الرباني: العالي الدرجة في العلم.
قال أبو عبيد: سمعت رجلا عالما بالكتب يقول: الربانيون: العلماء بالحلال والحرام، والأمر والنهي. قال: والأحبار: أهل المعرفة بأنباء الأمم، وبما كان ويكون. قال أبو عبيد: وأحسب الكلمة ليست بعربية، إنما هي عبرانية أو سريانية، وذلك أن أبا عبيدة زعم أن العرب لا تعرف الربانيين، قال أبو عبيد، وإنما عرفها الفقهاء وأهل العلم. اهـ
أقول: لله در أبي عبيد وأبي عبيدة فقد أصابا شاكلة الصواب. قال كروسمن Grossmann في معجمه العبراني الإنكليزي في تفسير الرباني ما معناه: هو العالم المتقي، لكن كل ما جاء في القرآن فهو عربي، سواء أكان عربياً غير مشترك، أي خاصا باللغة العربية، أم كان لفظا مشتركا بين العربية وأخواتها الساميات، أم كان لفظاً غير عربي في الأصل، ولكن العرب تكلمت به فصار عربياً بالاستعمال ككلمتي جبريل وميكائيل، فكل مابين دفتي المصحف فهو عربي، إلا أن عامة العرب لا تعرف الألفاظ العلمية، وإنما يعرفها علماؤها كورقة ابن نوفل، وأمية بن أبي الصلت.
ومن ذلك تعلم أن قولهم: علماني هو أمر عدواني على اللغة العربية، وما أشبهه من السخافات كالعقلاني والشخصاني فهو مثله، فأين المجامع العلمية في بغداد ودمشق والقاهرة؟ لماذا لا تذب عن اللغة العربية، وتسعى في تطهيرها، وإخراج القذى من طرفها، وترويق شرابها، ليكون عذباً سائغاً للشاربين.
28- كم هو جميل وكم أنا مسرور وما أشبه ذلك
وهذا من التراكيب الأعجمية الخالصة، فإن الذي تستعمله العرب في هذا المعنى هو: ما أجمله، وأجمل به، وهما صيغتا التعجب، ولا مكان لاستعمال (كم) هنا، سواء أكانت خبرية أم استفهامية. ويحسن هنا أن أتكلم باختصار في الاستعمال الصحيح (لِكَمْ)، وإنما أترك الإطناب، لأنه يستلزم ذكر اختلاف النحويين، وذلك يشوش على كثير من القراء، ويعسر عليهم الاستفادة. وأسهل العبارات في ذلك وأجملها عبارة أبي محمد القاسم بن علي الحريري رحمه الله في المُلحة:
باب كم الخبرية:
واجرر بكم ما كنت عنه مخبرا
معظما لقدره مكثرا
تقول كم مال أفادته يدي
وكم إماء ملكت وأعبد
قال الحريري في الشرح: اعلم أن (كم) اسم موضوع للعدد المبهم جنسا ومقدارا، ولها موضعان: الاستفهام والخبر المقترن بالتكثير. ولما كان العدد نوعين: أحدهما مجرور، والآخر منصوب، شبه كل واحد من موضعيها بأحد من نوعي العدد، فنصبوا ما بعدها على التمييز في الاستفهام، على ما نبينه في شرح نوع التمييز، وجروا ما بعدها بالإضافة في الأخبار.
ويجوز أن يقع الاسم الذي بعد (كم) الخبرية واحدا وجمعا، كقولك: كم عبد ملكت، وكم عبيد ملكت؟ كما أن العدد المجرور قد يكون واحدا في مثل قولك: مائة ثوب، ويكون جمعا في مثل قولك: ثلاثة أثواب، إلا أن من شرط جرها الاسم أن يكون الاسم يليها، فان فصل بينهما فاصل انتصب على التمييز كما ينتصب في الاستفهام، فتقول في الخبر: كم لي عبدا، كما تقول في الاستخبار: كم عبدا لك؟
وقال في المنصوبات: باب كم الاستفهامية:
وكم إذا جئت بها مستفهما
فانصب وقل كم كوكبا تحوي السما
قد ذكرنا في شرح باب الإضافة أن كم الخبرية يجر ما بعدها، وكم الاستفهامية ينصب ما بعدها على التمييز، تشبيها لها بالعدد المنصوب على التمييز، ولهذا جاء مفسرها واحدا ولم يجئ جمعا، كما أن المنصوب بعد العدد الذي هو الذي أحد عشر إلى تسعة وتسعين لا يكون إلا واحدا، وكم الاستفهامية قد تقع موقع المبتدأ في مثل قولك: كم عبدا لك؟ فكم مبتدأ، ولك الخبر، ونصبت عبدا على التمييز. وقد تقع موقع المفعول به في مثل قولك: كم رجلا رأيت؟، وتقع موقع الجار والمجرور تارة بحرف الجر في مثل قولك: بكم دراهم بعت؟ وتارة بالإضافة في مثل قولك: ابن كم سنة أنت؟ اهـ.
وقد راجعت الترجمة الإنكليزية لقوله تعالى في سورة البقرة (175) ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ وترجمه قوله تعالى في سورة مريم (38) ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا﴾ وترجمة قوله تعالى في سورة الكهف (26) ﴿أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ﴾، وهذه صيغ تعجب، وهي من الله تعالى للتعجب، فوجدت المترجم ترجمها كلها بأدوات الاستفهام، إذ لا يوجد في الإنكليزية صيغه تعجب، ومن هنا جاء معظم البلاء فإن لغة المستعمر الغالب استعمرت اللغة العربية كما استعمرت أهلها، فغيرت تراكيبها، وشوهت محاسنها، وتركتها جسد بلا روح، فالمفردات عربية، والتراكيب أعجمية.
29- تعبيرهم بالتمني عن الدعاء وإرادة الخير
لم يزل المسلمون، والعرب الجاهليون قبلهم يدعون الله بالخير لمن يحبون، ويدعون بالشر على من يبغضون إلى زمان الدولة العثمانية، فإن الكلمة التي كانت تكتب قبل التوقيع في آخر الرسالة (داعيكم) يعنون الداعي لكم، ولما جاء الاستعمار، وتغلبت لغاته ترجموا اللفظ الانجليزي (I wish you) بقولهم: أتمنى لكم، وهي ترجمة فاسدة، لأن الفعل الإنكليزي المذكور يعبر عن الإرادة والرغبة الشديدة.
أما التمني فهو طلب المستحيل أو ما فيه عسر، والأكثر استعماله في طلب المستحيل، قاله الأشموني قالوا: ولا يستعمل التمني فيما هو واجب الوقوع. فمثال المستحيل قول الشيخ:
ألا ليت الشباب يعود يوما
فأخبره بما فعل المشيب
وقوله تعالى في سورة النساء (73) ﴿وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ وقول الشاعر:
ليت وهل ينفع شيئا ليت
ليت شبابا بوع فاشتريت
قال الأشموني: وأما قوله تعالى ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾ مع أنه واجب، فالمراد: تمنيه قبل وقته. اهـ يعني قبل الأجل المحدود، وهو مستحيل.
وقال تعالى في سورة البقرة (96) ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ، وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ يعني ولتجدنهم، أي اليهود ـ مع زعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ـ أحرص الناس على طول حياة، وأحرص من الذين أشركوا، وهم المجوس، فإن أحدهم يهنئ صاحبه بقوله: (هزار نوروز مهرجان) يعني تعيش ألف سنة، وتشهد ألف عيد واحتفال ولو هنا للتمني قاله البيضاوي، وهذا أيضا من المستحيل.
قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى في سورة النساء (32) ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ من الأمور الدنيوية، كالجاه والمال، فلعل عدمه خير والمقتضى للمنع كونه ذريعة إلى التحاسد والتعادي، معربة عن عدم الرضا بما قسم الله له، وأنه تشبه لحصول لشيء له من غير طلب، وهو مذموم، لأن تمني ما لم يقدر له معارضة لحكمة القدر، وتمني ما قدر له بكسب بطالة وتضييع حظ، وتمني ما قدر له بغير كسب ضائع ومحال اهـ.
وروى أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث شداد ابن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني).
وقال الشاعر:
تمنوا لي الموت الذي يشعب الفتى *** وكل امرئ والموت يلتقيان
وقال الآخر:
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما *** وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
فإن حان يوما أن يموت أبوكما *** فلا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر
وقولا هو المرء الذي لا خليله *** أضاع ولا خان الصديق ولا غدر
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما *** ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
وكانت المرأة في الجاهلية تلزم الحداد والبكاء على الميت سنة كاملة. وهذا كله في استعمال التمني بمعنى طلب المستحيل وأما استعماله بمعنى طلب الأمر العسير فكقول الشاعر:
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد *** وشفت أنفسنا مما نجد
واستبدت مرة واحدة *** إنما العاجز من لا يستبد
قال في لسان العرب: التمني: حديث النفس بما يكون وما لا يكون، والتمني: السؤال للرب في الحوائج. وفي الحديث: (إذا تمنى أحدكم فليستكثر، فإنما يسأل ربه)، وفي رواية، فليكثر.
قال ابن الأثير: التمني تشهي حصول الأمر المرغوب فيه، وحديث النفس بما يكون وبما لا يكون. والمعنى إذا سأل الله حوائجه وفضله فليكثر، فان فضل الله كثير، وخزائنه واسعة. اهـ
ويجمع بين الحديث المشار إليه ـ على فرض ثبوته ـ وبين الحديث المتقدم، على أن التمني الذي في هذا الحديث هو سؤال الله، مع محاسبة النفس والعمل الصالح، فيرجع إلى الدعاء وهو المطلوب. فالصواب أن يقال مثلا: أرجو أن تكونوا بخير وعافية، وأرجو لكم سفرا سعيدا.
ويقال للمريض: أرجو لك شفاء عاجلا، أو أسأل الله لك.
مكناس: محمد تقي الدين الهلالي
مجلة دعوة الحق: العدد 108 و 109 (العدد 6 و 7 – السنة 11) – صفر 1388هـ – ماي 1968م – ص: 40-44