من أغرب ما وقفت عليه بعد رجوعي إلى الشرق، قصة الشيخ طه أبي الورد، وهو رجل من غوطة دمشق، وكان يدعي المشيخة، وبلغ به الأمر إلى أن كاد يدعي النبوة، وكان له مسجد بظاهر دمشق يصلي فيه إماما، وله مقيم يؤذن له ويقيم ويبث له دعوته في الناس، ويشاركه في الغنائم. فاستجاب له كثير من العامة، وكان يكثر من قراءة سورة طه ويردد قوله تعالی: (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى) فكثر أتباعه من الجهالة، وصاروا يعدون له كرامات، وأسلموا له أنفسهم، وصار يخالطهم في ديارهم ويزورونه للتبرك والاستشفاء ذكرانا وإناثا بدون احتراز ولا تحفظ؛ لأنه بلغ فيه نظرهم واعتقادهم منزلة تقديس من النبوة.
ومضت عليه سنون تتلوها سنون، وشاع أمره وعلا ذكره. فاتفق أن رجلا من أصحابه كانت له ابنة بكر، وكان الناس يخطبونها إليه فيشاورها فتأبى وتقول: يا أبتي، أنا لا أتزوج إلا بإذن من سيدنا الشيخ، وكان يذهب إلى الشيخ فيعرض له ذلك فيمنعه من تزويجها ويقول له: دعها حتى یأتي الزوج الصالح لها، وطال عليه الأمر وتكرر رد الخطاب، واستمر إصرار الفتاة على رأيها فتحیر والدها من الأمر واعترته الوساوس، فغضب ذات يوم وهددها بالقتل إن لم تخبره بسبب امتناعها عن التزوج فأخبرته بأن الشيخ طه أبا الورد قد افتضها منذ أزمان، وأنه قد افتض معها أبكارا أخرى من بنات الأصحاب. فرفع الرجل أمره إلى الحكومة، فطرحت القضية على بساط البحث. وأقام الشيخ طه أبو الورد محاميا يدافع عنه، فعينت المحكمة لجنة من الأطباء لفحص ابنة ذلك الرجل والأبكار اللاتي زعمت أنهن شاركنها في المصيبة، فوجدوا الأمر كما ذكرت، وبعد الاستقرار المتكرر أخذ عدد الأبكار يتزايد إلى أن بلغ الأربعين بكرا، وكان بعض أولئك الأبكار من بيوت يشعر أهلها بالشرف والإباء فأنكروا ذلك كل الإنكار وأنفوا له، ولكن الفحص أثبت التهمة.
وآخر الأمر حكمت المحكمة على الشيخ طه أبي الورد بالحبس لمدة عشر سنوات، ولا يزال الآن مقيما في سجن دمشق. فليعتبر بذلك الجهال أتباع كل ناعق، وليرجعوا إلى اتباع کتاب الله وسنة رسوله وهدي السلف الصالح (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه. وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا. ذلك الفوز العظيم). ومعنى قوله تعالى بإحسان أي بلا زيادة ولا نقصان مع حسن النية والإخلاص، وأختم هذا المقال بإهداء تحياتي إلى قراء مجلتنا لسان الدين من إخواننا المغاربة وغيرهم، وأسأله تعالى أن يوفقني لخدمتهم في هذه السنة الثالثة كما وفقني سبحانه في السنة الأولى. وقد من الله علي بالشفاء من مرض الربو الذي كان يعوقني. واستراح فكري من بعض الهموم، واستقررت بعض الاستقرار. أما السنة الثانية فقد مضى جلها وأنا مشغول البال، مضطرب الحال بسبب الرحلة الطويلة من تطوان إلى البصرة، ثم من البصرة الى الموصل الحدباء بلد نبي الله يونس عليه السلام، المذكور أهلها في القرآن الكريم في قوله تعالى “فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين”.
الدكتور محمد تقي الدين الهلالي
مجلة لسان الدين: السنة الثالثة