من عبد الجبار الزرهوني إلى أستاذه الهمام الفقيه العلامة العارف بالله الدكتور تقي الدين الهلالي، أهدي إليكم تحية تليق بشخصيتكم الفذة، وسلاما يشوبه التبجيل والتعظيم لجنابكم.
وبعد، فإني طالب أدرس بالمعهد، وتلميذ من تلاميذكم الذين يحضرون في الجامع الكبير. وقد استفدت الشيء الكثير من الدروس القيمة التي تلقيها شخصيتكم النادرة. وكثيرا ما كنت أحدث زملائي وأترابي، بل حتى عندما أرجع إلى قريتي، عن إحيائكم لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظمتكم. فلما شاع ذلك في قريتي، وهي المسماة موساوي. وفي الفصل الذي ادرس فيه، وعلم الناس أنني لا أستطيع عدم الحضور إلى دروسكم، حتى في أيام الإمتحان، أتاني طالب وهو يدرس معي في الصف بورقة مكتوبة، هذا نصها:
وبعد، فأرجو من سيادتكم الإجابة على ما يأتي: ما رأيكم في قوله عليه السلام “ليس منا ذو حسد” وقوله صلى الله عليه وسلم “ثلاث لا يسلم منها أحد، الحسد والظن والطيرة، قيل كيف المخرج منها يا رسول الله، قال، إذا حسدت فلا تبغي، وإذا ظننت فلا تقر، وإذا تطيرت فلا ترجع” فهل هناك تناقض بين الحديثين؟
وإذا لم يكن كذلك، وكان الحسد من طبائع الإنسان حقا، والإسلام قد نهى عنه بالكتاب والسنة، فهل يحق للقائل أن يقول، إن دين الإسلام قد أتى بما فيه مشقة على النفس وما يمجه الطبع، وهو سبحانه ما جعل في الدين من حرج، بل جعله دين الفطرة؟
ولما قرأتها وتمعنت في معانيها عجزت عن الإجابة عنها، لأنني آخذ منك القواعد مسلمة. ولست ادري ماذا قصد هذا الطالب بهذه الأسئلة الموجهة إلي، ومستواه مساو لمستواي.
والآن أريد منك أيها الأستاذ العظيم أن تجيبني عن هذه الاسئلة المتقدمة. إما كتابة عن طريق دعوة الحق أو ”الميثاق” أو شفويا، وذلك عندما تكون تشرح الأحاديث النبوية يوم الأحد والإثنين. ولكم فائق الاحترام والسلام.
عبد الجبار
الجواب والله الموفق للصواب، لم أحذف شيئا من كلام المستفتي، مع كراهتي للإطراء، ليطلع القراء على هيئة السؤال بحروفه ويتمكنوا من فهم جوابه.
ما نسبه هذا الطالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قوله “ليس منا ذو حسد” لا أعرفه ولم أقف عليه في شيء من كتب الحديث التي بيدي، وهي سنن أبي داوود، وجامع الترمذي، ومشكاة المصابيح، ورياض الصالحين. وكان على السائل الأول الذي كتب الورقة أن يعزو ذلك الحديث إلى الكتاب المنقول منه على الأقل إذ لا يجوز أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيء من الحديث إلا بعد التثبت ومعرفة مصدره خوفا من الوعيد الشديد الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله “من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار” رواه البخاري وغيره. فلم يلبث هذا الكلام حتى يحتاج إلى الجواب عنه. وأما الحديث الثاني وهو (ثلاث لا يسلم منها أحد، إلخ) فيشبه أن يكون مرويا، وقد بحثت فلم أقف عليه، ولكني وجدت حديثا يوافق ما يخص الحسد منه وكذلك ما يخص الطيرة.
أما ما يخص الحسد، ففي بعض نسخ سنن أبي داوود، وهي النسخة التي شرحها صاحب عون المعبود أن سهل ابن أبي أمامة غدا على أنس بن مالك ومعه أبوه فقال: ألا تركب لتنظر وتعتبر؟ قال: بلى، فركبوا جميعا، فإذا هم بديار باد أهلها وانقضوا وفنوا خاوية على عروشها، فقال: أتعرف هذه الديار؟ فقلت: ما أعرفني بها وبأهلها. هذه ديار أهلكهم البغي والحسد، إن الحسد يطفئ نور الحسنات، والبغي يصدق ذلك أو يكذبه. الحديث. هكذا ذكره موقوفا على أبي أمامة.
فيما يظهر لي فإن الحديث كان يدور بينه وبين أنس بن مالك. قال الحافظ ابن القيم في كتاب الصلاة له، وفي سنده سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء، وهو شبه المجهول. فأنت ترى أنه مع كونه موقوفا، ضعيف الإسناد. وأما ما يخص الطيرة شرك، فروى أبو داوود عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل. ورواه الترمذي أيضا وصححه، وجعل آخره من قول ابن مسعود. قال تقي الدين الهلالي، يعني قوله وما منا إلا، ولكن الله يذهبه،
ومعنى هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الطيرة شرك، يعني أن من تشاءم بإنسان أو حيوان، كالغراب مثلا أو بيوم من الأيام أو شهر أو شيء من الأشياء كما أخبرني بعضهم، أن في المغرب أهل بيوت يتشاءمون من دخل قدر إلى بيتهم بعد غروب الشمس. وكثير من أهل تطوان يتشاءمون بدخول المكنسة إلى بيوتهم في صفر. وأمثال ذلك كثير. فمن فعل ذلك واعتقده فقد أشرك بالله بنسبة القدرة على الضر بدون سبب معلوم. وقول ابن مسعود، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل معناه أن كل واحد منا يقع في قلبه شيء من التطير فليتوكل على الله ولا يتطير ولا يخاف فيذهب ما وقع في قلبه كما لو خرج رجل مؤمن إلى سفر فرأى غرابا يصيح، غاق غاق، فكره ذلك في نفسه، ولكنه توكل على الله ومضى ولم يرجع من سفره فقد أذهب الله ما وقع في نفسه بالتوكل. جاءني يوما أحد إخواننا في بغداد وكان قد بنى دارا في محلة الوزيرية وأنفق عليها مالا ثم انتقل إليها وسكنها هو ووالداه وإخوته، فاتفق أن مرضوا جميعا وتكاثرت عليهم المصائب فتشاءموا بتلك الدار، وزادهم تشاؤما أن أهل بغداد يقولون أن أرض الوزيرية مغتصبة فهي لذلك منحوسة. فقلت له ادع بهذا الدعاء وعلمه أهل بيتك ليدعوا به وتوكلوا على الله ودعوا الظنون والوساوس. وبعد شهرين جاءني فرحا مستبشرا وقال لي قد فعلنا ما أشرت علينا به، فذهب ما كنا نجد ونحن الآن مطمئنون. وهذا الدعاء مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي لمن وجد في نفسه شيئا من التطير أن يقوله ويمضي ولا يخاف، وهو “اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك”.
ولا يوجد بحمد الله تناقض البتة بين أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي متفقة يثبت بعضها بعضا، ويوضح بعضها بعضا. وقد يظهر لبعض القاصرين تناقض بين حديثين، ولو عرضهما على أهل العلم لزال اللبس وانكشفت الظلمة وأشرقت الأنوار. ودونك مثالا لذلك. فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث” رواه البخاري ومسلم. وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها” وقد يظهر لمن لا علم عنده بالحديث واللغة أن هذين الحديثين متعارضان. والحقيقة أنه لا تعارض بينهما، فالحسد الذي نهى عنه الحديث الأول معناه تمني زوال نعمة المحسود. والحسد الذي رغب فيه الحديث الثاني معناه الغبطة، وهي أن يرى الإنسان نعمة من النعم الله بها على شخص آخر فيحب أن ينعم الله عليه بمثلها. ثم إنه لا يثبت التعارض إلا إذا كان الحديثان متساويان في المرتبة صحة أو حسنا أو ضعفا ولا يوجد مرجح لأحدهما ولا يمكن الجمع بينهما بالتأويل وليس أحدهما ناسخ للآخر. فإذا راعينا هذه الشروط لا نجد تعارضا بين الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ادعى قوم من الزنادقة وأعداء الإسلام وجود التناقض بين أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وبينها وبين القرآن، وبين آيات القرآن نفسها، فرد عليهم أئمة الحديث وأزهقوا باطلهم وألقموهم أحجارهم وهتكوا أستارهم فولوا مدبرين وانقلبوا صاغرين.
وأنت أيها الطالب النجيب الموفق الأريب إن استمررت في طلب علم الكتاب والسنة فسترى فيه من درر الفوائد وغرر العوائد ما تقر به عينك وتغتبط به نفسك ويسعد به جدك. ووراء ذلك من نصر الله وألطافه ما لا يدخل تحت حصر. روى الترمذي وصححه عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “نضر الله امرٍءا سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع”. ورواه أحمد والترمذي وأبو داوود وابن ماجة والدارمي والضياء عن زيد بن ثابت. والنضرة التي دعا بها النبي صلى الله عليه وسلم لمن يبلغ حديثه، معناها إشراق الوجه وطلاقته، وذلك يدل على البهجة والسرور، ويستلزم الانتصار والتأييد من الله تعالى. وما أحسن ما قاله الحافظ الذهبي في ذلك شعرا:
أهل الحديث عصابة الحق ** فازوا بدعوة سيد الخلق
فوجوههم غر منضرة ** لألاؤها كتألق البرق
يا ليتني معهم فيدركني ** ماأدركوه بها من السبق
روى الترمذي بسنده إلى معاوية بن قرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم. لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة”. قال محمد بن إسماعيل، قال علي بن المديني، هم أصحاب الحديث. وفي الباب عن عبد الله بن حولة وابن عمر وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو. هذا حديث حسن صحيح. قال أستاذنا الإمام الزاهد الرباني عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري الهندي رحمة الله عليه في شرح الترمذي له قوله “إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم” أي للقعود فيها والتوجه إليها (لا تزال) بالمثناة الفوقية أوله (طائفة) قال القرطبي : الطائفة الجماعة، وقال في النهاية: الطائفة، الجماعة من الجماعة من الناس وتقع على الواحد (منصورين) أي غالبين على أعداء الدين (لا يضرهم من خذلهم) أي ترك نصرتهم ومعاونتهم (حتى تقوم الساعة) أي تقرب الساعة. انتهى. قال تقي الدين، وإنما قال أستاذنا أي تقرب الساعة، لأنه جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ريحا تهب قبل قيام الساعة فتقبض روح كل من في قلبه ذرة من إيمان، فيبقى شرار الخلق فعليهم تقوم الساعة. وقول الترمذي، قال محمد بن إسماعيل، يعني البخاري وقوله علي بن المديني، هو الإمام أبو الحسن علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدي، مولاهم البصري أعلم أهل عصره بالحديث وعلله. قال البخاري ما استصغرت نفسي إلا عنده. وقال فيه شيخه سفيان بن عيينة، كنت أتعلم منه أكثر مما يتعلم مني وقال أحمد بن حنبل في الطائفة التي أشار إليها في الحديث، إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم. أقول، والمراد بأهل الحديث كل من يتبع حديث النبي ويتمسك بسنته ويجتنب البدع، وإن لم يكن من العلماء. وفي ذلك قلت قصيدة قرظت بها كتاب أستاذي المذكور المسمى (تحفة الأحوذي، في شرح جامع الترمذي). ونشرت هذه القصيدة في آخر المجلد الرابع من الكتاب.
أهل الحديث هم الالى عملوا به ** لا المكثرون ولا ذوو الإتقان
إلا إذا عملوا فهم أولى به ** من غيرهم حقا بلا نكران
وأرجو أن يكون في هذا الجواب شفاء ومقنع وفائدة نافعة للسائل وغيره والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
جريدة الميثاق: عدد 47، 1 رمضان 1383هـ موافق 17 يناير 1964م. ص: 2 و 7.
تعقيب على مقال الدكتور الهلالي:
حول استفتاء على ما ورد في الحسد
جاءتنا كلمة من أحد الكتاب الافاضل تعقب على مقالة الدكتور تقي الدين الهلالي المنشور بالعدد 47 وهو جواب عن استفتاء ورد عليه في شأن حديث ليس منا ذو حسد، وقد قال فيه الدكتور لا أعرفه ولم أقف عليه في شيء من الكتب الحديثية التي بيدي وذكرها. والكاتب يعزو الحديث إلى الطبراني من رواية عبد الله بن بسر ويقول أن في سنده سليمان الخبائري وهو متروك. كما يعقب على قول الدكتور في حديث ثلاث لا ينجو منها أحدن بحثت عنه فلم أقف عليه فيقول هو مما رواه الطبراني ايضا من حديث حارثة بن النعمان وإن من سنده إسماعيل بن قيس وهو ضعيف.
ونحن نشكر الكاتب الفاضل على اعتنائه ونذكر أننا لم يغب عنا وجود الحديثين المذكورين وشهرة الثاني منهما لحد أن نظمه الشيخ الناودي ابن سودة في قوله:
ثلاث لم ينج منها أحد *** الظن والطيرة ثم الحسد
لا تبغ ولا تظلم ولا تحقق *** وقد سلمت خذ كلام مشفق
ولكن لما رأينا الدكتور سلك طريق أهل العلم والتحري بقوله لا أعرفه ولم أجده في الكتب الحديثية التي عندي، لم نشأ ان نعلق عليه…والعلم لله.
جريدة الميثاق: عدد 50، 15 شوال 1383 هـ موافق 29 فبراير 1964م. ص: 6