نشر ذلك المقال في “صحيفة الميثاق” ولم يصلني الجزء الذي نشر فيه منها. وبعد نشره كتب إلي الأستاذ الأديب السيد سعيد أعراب بما نصه: حضرة أستاذنا الكبير الدكتور تقي الدين الهلالي. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: قرأت في العدد الأخير من (الميثاق) أنكم سألتم عن حديث (ليس منا ذو حسد) و حديث (ثلاث لا يسلم منها أحد، الحسد….) وذكرتم أنكم لم تقفوا على الحديثين. وأجبتم بما عندكم في الموضوع مما أفادنا كثيرا، غير أني أحببت أن أطلعكم على أن الحديثين في الجامع الصغير للسيوطي.
أما الحديث الأول فقد ذكره بلفظ (ليس مني ذو حسد ولا نميمة ولا كهانة ولا أنا منه) رواه الطبراني في الكبير عن عبد الله بن بسر. قال الشارح العزيزي، قال الشيخ حديث حسن. وأما الحديث الثاني فأورده بلفظ (ثلاث لم تسلم منها هذه الأمة، الحسد والظن والطيرة، ألا أنبئكم بالمخرج منها، إذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا تطيرت فامض) رواه رسته (عبد الرحمن بن عمر الأصبهاني) في الإيمان عن الحسن البصري (مرسلا).
هذا وأرجوكم أن تعودوا إلى الموضوع مرة ثانية، بناء على ثبوت حديث (ليس مني ذو حسد) وتوضحوا للقراء أن لا تعارض بين الحديثين وتزيلوا على عادتكم كل شك ووهم. دمتم حصنا منيعا للإسلام، ودام لكم المجد والسؤدد. وتقبلوا فائق احترامي وتقديري والسلام. مجلكم سعيد أعراب
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. أيها الأخ العزيز، جزاك الله خيرا على هذا العمل المبرور الذي قمت به، فهو من التعاون على البر والتقوى. وقد سررت كثيرا بتنبيهك هذا على ما وقع في جوابي السابق من التقصير. وسببه أني لم أكن أملك كتاب الجامع الصغير. وليس لي متسع من الوقت للتوجه إلى خزائن الكتب العامة للمطالعة، ولم أجد في ملكي إلا الصحيحين وسنن أبي داوود وجامع الترمذي والموطأ ومشكاة المصابيح ورياض الصالحين وسنن الدارقطني وبلوغ المرام، فبحثت عن الحديثين في مظانهما مما بيدي من الكتب المذكورة فلم أجدهما. وكان ذلك التنبيه حافزا لي على شراء الجامع الصغير، فاشتريته واستعرت شرحه للمناوي من بعض الإخوان. وهاأنذا أعيد الكلام في هذه المسألة جملا فأقول.
الحمد لله على أن بحثي لم يكن ناقصا، فإن الحديثين لا يوجدان في شيء من تلك الكتب. ثم إن الحديثين كليهما ضعيف، أما حديث عبد الله بن بسر (ليس مني ذو حسد، ولا نميمة، ولا كهانة، ولا أنا منه) قال المناوي في شرحه، تمامه عند مخرجه ثم تلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وأثما مبينا) والحسد معروف. والنميمة، السعي بين الناس بالحديث لإيقاع فتنة أو وحشة. والكهانة، القضاء بالغيب كما في القاموس. رواه الطبراني عن عبد الله بن بسر) وضعفه المنذري. وقال الهيثمي، فيه سليمان بن سلمة الخبائري، وهو متروك، وبه يعرف أن المؤلف لم يصب في رمزه لحسنه. انتهى كلام المناوي. قوله، والحسد معروف، هذا لا يكفي. فالحسد تمني زوال نعمة الغير. قوله، والكهانة، القضاء بالغيب، كما في القاموس. قال تقي الدين، راجعت القاموس فإذا فيه ما نصه: (كهن) له كمنع، ونصر وكرم، كهانة بالفتح وتكهن تكهنا قضى له بالغيب، فهو كاهن اهـ.
وقال صاحب فتح المجيد في شرح حديث أبي هريرة مرفوعا، من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم رواه أبو داوود. قال البغوي: العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة، ونحو ذلك. وقيل هو الكاهن. والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل. وقيل الذي يخبر عما في الضمير.
وقال أبو العباس ابن تيمية: العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال، ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق.
قال تقي الدين، الرمال هو الذي يخط في الرمل ويستخرج أشكالا مبنية على الزوج والفرد، يزعم أنه يعرف بها المغيبات يستخرج المجهول من المخبآت، وقد تعلمت ذلك فتحقق عندي أنه احتيال على أكل أموال الناس بالباطل، ومن ذلك استعمال ما يسمى بقرعة الأنبياء وقرعة الطيور، والاقتراع على البروج الإثني عشر لأبي معشر الفلكي والجفر الكبير والجفر الصغير المنسوبان كذبا إلى جعفر الصادق. كل ذلك من الكهانة. وبراءة النبي صلى الله عليه وسلم من مرتكبي هذه الأعمال تدل على أنها من الكبائر، ومن استحل الحسد و النميمة والكهانة واعتقد صحتها فهو كافر. وهذا الحديث لا يصح من حيث الإسناد، فهو من شر أنواع الضعيف الذي لا يقوي غيره، ولا يتقوى بغيره، لان فيه راويا متروكا. أما معناه فهو صحيح ثابت بأدلة أخرى، وبالله التوفيق.
الحديث الثاني
الحديث الثاني نصه: ثلاث لم تسلم منها هذه الأمة: الحسد، والظن، والطيرة. ألا أنبئكم بالمخرج منها؟ إذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا تطيرت فامض. رواه الحافظ عبد الرحمن بن عمر الأصبهاني الملقب ب (رسته) عن الحسن مرسلا. قال تقي الدين، والحديث المرسل عند جمهور المحدثين من قسم الضعيف. قال العراقي في ألفيته فيما يتعلق بالحديث المرسل:
ورد جماهير النقاد *** للجهل بالساقط في الإسناد
وصاحب التمهيد عنهم نقله *** ومسلم صدر الكتاب أصله
قال في الشرح: وذهب أكثر أهل الحديث إلى أن المرسل ضعيف لا يحتج به. وحكاه ابن عبد البر في مقدمة التمهيد عن جماعة من أصحاب الحديث. وقال مسلم في صدر كتابه الصحيح، المرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة.
معنى الحديث
المراد بالأمة، أمة الإجابة. وتقدم معنى الحسد والبغي، الظلم. والطيرة، التشاؤم ببعض الناس أو ببعض الحيوان أو بالأيام أو غير ذلك. مقصود النبي صلى الله عليه وسلم على تقدير ثبوت الحديث، أن الحسد، وهو أن يتمنى الحاسد زوال نعمة المحسود لابد أن يوجد في هذه الأمة. ثم أرشدنا عليه الصلاة والسلام إلى دواء ذلك، وهو قمع النفس عن السعي في إزالة النعمة التي وقع الحسد بسببها، فإذا تغلب المرء على نفسه فلم يؤذ المحسود بقول ولا فعل فقد سلم من الإثم، وكذلك ظن السوء لابد أن يفع في الأمة، ودواؤه أن لا يحكم الظان بظنه المجرد ولا يخرج ذلك إلى الحقيقة ولا يعتمد على ظنه في إثبات ما ظنه حتى يقوم دليل صحيح على ثبوت ذلك. وكذلك الطيرة، إذا خرج الإنسان إلى سفر مثلا واعترضه غراب أو كلب أسود أو إنسان يظن أنه مشئوم أو سمع إنسانا يقول يا هالك أو يا خاسر، فوقع في نفسه أن ذلك السفر سيكون مشئوما، فالواجب عليه أن يدفع ذلك التطير عن نفسه ويتوكل على الله ويمضي في سفره. فإذا فعل ذلك فلا إثم عليه ولا يعد متطيرا. وأما إذا منعه ذلك من السفر ورجع، فقد وقع في الإثم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يتبرأ ممن يخطر في باله الحسد ثم يتغلب على نفسه فيمنعها من البغي، ولم يتبرأ ممن يسمع الكاهن يخبر بالمغيبات فيكذبه، وإنما تبرأ من الذي يقع في نفسه الحسد فلا يقمعها عنه، بل يتبع هواه ويطيع نفسه الأمارة حتى يرتكب البغي والظلم. وكذلك من سمع الكاهن فلم يصدقه، بل كذبه وأنكر عليه، فلا تعارض بين الحديثين عند من عرف معناهما. وهذان الحديثان، وإن لم يصح إسنادهما، فالأحكام التي تضمناها صحيحة ثابتة بنصوص أخرى. وبالله التوفيق.
جريدة الميثاق: عدد 51، 01 ذو القعدة 1383هـ موافق 15 مارس 1964م. ص: 2.