(6)
30- قولهم: تنبأ بكذا وكذا
يريدون أنه علم بصدق الفراسة وقوة الحدس ما سيكون في المستقبل كما قال الشاعر:
الألمعي الذي يظن بك الظن *** كأن قد رأى وقد سمعا
وفي الخبر: اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله، رواه البخاري في التاريخ والترمذي عن أبي سعيد. وبعضهم يقول: تكهن بكذا وكذا، وهذا شيء لا يمكن التكهن به، وسنرى معنى تنبأ الحقيقي.
قال في اللسان: قال سيبويه: ليس أحد من العرب إلا ويقول: تنبأ مسيلمة، بالهمز، غير أنهم تركوا الهمز في النبي كما تركوه في الذرية والبرية والخابية. ثم قال: ويقال: تنبى الكذاب إذا أدعى النبوة، وتنبى كما تنبى مسيلمة الكذاب وغيره من الدجالين المتنبين. ثم قال: وتنبأ الرجل: ادعى النبوة. اهـ.
وقال شاعر أندلسي في أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي يخاطب أحد أمراء الأندلس حين رآه ينشد شعر المتنبي:
تنبأ عجبا بالقريض ولو درى *** بأنك تروي شعره لتألها
وقد عرفت أن معنى(تنبأ) ادعى النبوة، وهي الإنباء عن الله تعالى. وقصص المتنبئين مذكورة في العقد الفريد وغيره من كتب الأدب، والمتنبؤون هم الذين ادعوا النبوة. واستعمال تنبأ بمعنى أخبر بشيء يقع في المستقبل استعمال استعماري، من استعباد اللغات الأوربية للغة العربية، فإن جهال المترجمين يترجمون الفعل الانكليزي (Propfesy) بقولهم: تنبأ وأنبأ، ويترجمون (Prophesy) بالنبوة يريدون بذلك الإخبار بالشيء قبل وقوعه، والصواب أن يقال: توقع وتفرس، وحدس أنه يقع كذا وكذا.
وقال في معجم أوكسفورد في معنى (بروفيساي) Prophesy يتكلم كنبي. وقال في معنى (بروفيت Prophet) هو الموحى إليه المخبر عن الله، فظهر لك أن الأوربيين يستعملون (تنبأ) بمعنى يتكلم كما يتكلم النبي، والنبي كثيرا ما يخبر بالمغيبات، فهذا الاستعمال في لغتهم سائغ. وقد توهم المترجمون أن كل ما ساغ في لغتهم يسوغ في لغتنا، خصوصا ولغتهم لغة القوي القاهر، ولغتنا لغة الضعيف المغلوب على أمره.
ومعنى(بروفيت) في اللغة الانكليزية لا يختلف عن معناه في اللغة العربية، فهو الموحى إليه المخبر عن الله تعالى، وحق لغتنا علينا أن ننظفها من كل استعمال دخيل، محافظين على جمالها ونضارتها وبهجتها. ويقال في الكلام الفصيح: صدق حدسه، وتحقق ظنه، والمخطئون يقولون: صدقت نبوءته.
31- ينبغي عليه
ومن الأخطاء الشائعة في هذا الزمان في الإذاعات والصحف قولهم: ينبغي عليه أن يفعل كذا وكذا، فيعدون ينبغي بعلى، وهذا دليل إهمال اللغة، وطرح العناية بها جانبا، وذلك شأن الأمم المخذولة المنحطة، السائرة إلى الاضمحلال. وقد رأينا أسلافنا كيف اعتنوا بلغة القرآن، وخدموها أحسن خدمة، فضبطوا مخارج حروفها وصفاتها، وتجويد النطق بها، وحققوا معاني كلماتها، وتركيب جملها، وجودة أسلوبها وبلاغتها، وتركوها لنا في غاية الكمال والجمال، فلم نكن خير خلف لخير سلف.
ومن المعلوم أن القرآن هو أول كتاب ينطق بلغة العرب الخالصة، ولا يستطيع أحد معرفة اللغة العربية وفصاحتها وبلاغتها، وأسرارها إلا بدراسة القرآن، واتخاذه إماما ومنارا يهتدى به في علومها، هذا بالنسبة إلى غير المسلمين الذين لا يهمهم من القرآن إلا ما فيه من فصاحة وبلاغة، وأنه حجة في اللغة العربية، فكيف بالمسلمين الذين يجب عليهم -إن كانوا مسلمين حقا- أن يتخذوا القرآن إماما وسراجا منيرا، يتبعونه ويهتدون به في دينهم، يحلون حلاله، ويحرمون حرامه، ويتخذونه حكما، فيه شريعتهم، ومنهاج أخلاقهم، وهدايتهم، وشفاء صدورهم وروح أرواحهم كما قال تعالى في سورة الكهف (1-3) ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا، مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ﴾.
قال ابن كثير: قد تقدم في أول التفسير أنه تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتمها، فإنه المحمود على كل حال، وله الحمد في الأولى والآخرة، ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم محمد صلوات الله وسلامه عليه، فإنه أعظم نعمة أنعمها على أهل الأرض، إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور، حيث جعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه، ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم، واضحا بينا جليا، نذيرا للكافرين، بشيرا للمؤمنين.
ولهذا قال ﴿ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ أي لم يجعل فيه اعوجاجا، ولا زيغا ولا ميلا، بل جعله معتدلا مستقيما، ولهذا قال ﴿ قَيِّمًا ﴾ أي مستقيما ﴿ لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ ﴾ أي لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به، ينذر بأساً شديداً، عقوبة عاجلة في الدنيا، وآجلة في الأخرى ﴿ مِنْ لَدُنْهُ ﴾ أي من عند الله الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد ﴿ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي بهذا القرآن، الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح ﴿ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ﴾ أي مثوبة عند الله جميلة ﴿ مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ﴾ في ثوابهم عند الله، وهو الجنة، خالدين فيه أبدا، دائما، لا زوال له ولا انقضاء اهـ.
قوله (وهو الجنة) الذي أراه أن الأجر الحسن الذي يمكث فيه المؤمنون أبداً لا يختص بنعيم الجنة، بل ينتظم سعادة الدنيا والآخرة، لأن الله وعد بذلك في غير ما آية من كتابه العزيز لقوله تعالى في سورة النحل (97) ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾. وحكمة الله تعالى وعدله يقتضيان ثواب الدارين لكل أمة صالحة، وعقاب الدارين لكل أمة فاسقة، وأدلة هذا في القرآن كثيرة.
فسبب ما يقاسيه المسلمون في هذا الزمان من الشقاء هو إهمال القرآن، وجعله وراء ظهورهم. والخطأ الذي نحن الآن بصدد إصلاحه لا يقع ويشيع إلا في أمة أهملت القرآن، لأن هذا الفعل تكرر استعماله في القرآن فجاء في ستة مواضع أحدها قوله تعالى في سورة الفرقان (17-18) ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ؟ قَالُوا: سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ، وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ﴾.
معنى هاتين الآيتين أن الله تعالى يسأل المشركين يوم القيامة الذين كانوا يعبدون الملائكة والأنبياء والصالحين، كعيسى وأمه، وسائر من عبد من الصالحين، فيقول لهم: “أأنتم أمرتم هؤلاء ان يعبدوكم”، فيتبرؤن منهم منزهين الله تعالى عن الشريك، قائلين: {سبحانك، ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء}، أي لا يليق بنا أن نتخذ المشركين أولياء، أو نرضى بعملهم، ولكن متعتهم وآباءهم بالنعم، ولم تعجل لهم العذاب، فتركوا كتابك، واتبعوا أهواءهم، وكانوا في علمك هالكين، فحق عليهم العذاب.
ففعل (ينبغي) لا ينبغي أن يتعدى بعلى، وإنما ينبغي أن يتعدى باللام.
32- منع أنباء وآراء وما أشبههما من الصرف
كل من يستمتع إلى الإذاعات يعلم أن بعض المذيعين يمنعون صرف كل جمع من جموع التكسير جاء على أفعال، كأنباء وأراء، وأحزاب، والذي ورطهم في ذلك أنهم رأوا (أشياء) جمع شيء ممنوعة من الصرف فقاسوا عليها ما يشابهها في اللفظ لجهلهم. وقد اتفق النحاة على منع صرف (أشياء)، واختلفوا في تعليله اختلافا كثيرا، لو ذكرته هنا لشوش على كثير من القراء، وأيأسهم من فهم المقصود، فأقتصر على ذكر القول الراجح، وهو قول الخليل وسيبويه.
قال صاحب اللسان: وأشياء: لفعاء عند الخليل وسيبويه.اهـ. وبيان ذلك أن لام الكلمة تقدمت فائها وعينها فصارت (لفع) اتصلت بها ألف التأنيت الممدودة، فصارت (لفعاء) وهو وزن أشياء، باعتبار الهمزة الأولى آخر الكلمة في الأصل تقدم على أولها وثانيها، فلم يبق إلا المد والهمزة، وذلك ما يسمى بألف التأنيث الممدودة كما في أصدقاء وأغنياء وغيرهما من الجموع، وكما في خضراء وحمراء وصحراء وغيرهن من الأسماء المفردة.
والذي حملهم على هذا التأويل أنها جاءت ممنوعة من الصرف في القرآن، قال تعالى في سورة المائدة (101) ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾.
وقال ابن حمدون على الأزهري: أشياء، جمع شيء، وأصله: شياء، فكرهوا اجتماع همزتين بينهما حاجز غير حصين، وهو الألف فقدموا الهمزة الأولى لام الكلمة على الفاء والعين، فصار أشياء فهو ممنوع من الصرف لألف التأنيث الممدودة. أهـ.
أقول: علة منعه من الصرف غير معلومة يقينا، وتعليلات النحويين حدس وتخيل قل ما يثبت أمام النقد، والمقصود بها ترسيخ القواعد في ذهن الطالب. أما أنباء وآراء وما أشبههما فلا معنى لمنعها من الصرف، وقد أصبح الإنشاء عند المتكلمين باللغة العربية لا يستفاد من المدرسة وقراءة كلام البلغاء، وحفظ أشعارهم، وإنما يؤخذ من الإذاعات والصحف، وذلك دليل أن علم العرب اليوم بلغتهم ضحل، وذلك دليل على التخلف، وهم يرون الشعوب المتقدمة كبريطانيا وجرمانية وفرنسا تبذل الجهود والأموال في رفع مستوى لغاتها ونشرها في الدنيا كلها، فأين التقدم الذي يتبجح به بعضهم؟.
33- التعبير عن افتتاح المدرسة ونحوها بالتدشين
يقولون: دشن المدرسة، أو المصرف، يعنون افتتحهما باحتفال، وهذا الفعل لم أجده في شيء من معاجم اللغة التي عندي إلا في المنجد، ولا عبرة به، لأنه يخلط الدخيل بالأصيل، وفي القاموس دشن: أعطى، وتدشن أخذ، وداشان: بلد، والداشن معرب الدشن، يعنون به الثوب الجديد لو يلبس، أو الدار الجديدة التي لم تسكن. أهـ.
وفي اللسان: داشن معرب من الدشن، وهو كلام عراقي، وليس من كلام أهل البادية، كأنهم يعنون به الثوب الجديد الذي لم يلبس، أو الدار الجديدة التي لم تسكن ولا استعملت. أهـ.
وقول صاحب اللسان: كلام عراقي، وليس من كلام أهل البادية، يؤيده ما قرأته في معجم لعالم عراقي موصلي نسيت اسمه الآن، ضمنه الكلمات السريانية التي دخلت في اللغة العراقية، فذكر منها (دشن) الدار الجديدة، أي سكنها لأول مرة. ومن سوء الحظ أنه ليس عندي في هذا الوقت معجم سرياني، ولو كان عندي ما قدرت أن أستفيد منه لضعف بصري، وعدم وجود من يعرف اللغة السريانية هنا.
وكيفما كان الأمر فاستعمال الفعل (دشن) وما يشاركه في الاشتقاق بمعنى افتتاح المعرض أو المدرسة ليس من كلام العرب، ولا حاجة إليه، والذوق السليم يكرهه.
34- جمع النية على النوايا
ومما يحزن ويسوء كل من له غيرة على لغة القرآن أن أكثر الخطباء والكتاب يجمعون (النية) على (نوايا) وذلك دليل إفلاسهم وجهلهم بقواعد اللغة العربية، لأن النية فعلة بكسر فسكون، وعينها واو بدليل نوى ينوي، فأصلها (نوية) حكمت عليها القاعدة الصرفية الشهيرة بقلب الواو ياء وإدغامها في مثلها.
والقاعدة هي قولهم: اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء، وقد شبه علماء الصرف هذين الحرفين عند اجتماعهما وسبق أحدهما بالسكون بالحجر والصفحة من الخزف، أو الصيني والحجر، فالصفحة هي الواو، والحجر هو الياء، فمتى وقعت الصفحة على الحجر، وهي الواو الساكنة انكسرت الصفحة، كما في نية، ومتى وقع الحجر على الصفحة، أي سبقت الياء الواو، وهي ساكنة انكسرت الصفحة، وهي الواو، فالانكسار خاص بالواو، سواء أتقدمت أم تأخرت.
ومثال تقدم الياء على الواو (سيد) فإن أصله (سيود) بدليل الفعل: يسود، حكمت عليه القاعدة المذكورة بإبدال الواو ياء وإدغام الياء فيها. وفعلة بكسر فسكون، كحكمة، وقربة، وهي السقاء، إنما تجمع جمع تصحيح على فعلات كما في الحديث المتفق عليه (إنما الأعمال بالنيات) وتجمع جمع تكسير على فِعَل -بكسر ففتح- كحكمة وحكم، وقربة وقرب، وشيمة وشيم، وذلك كثير، ولا تجمع البتة على فعائل، لأنها لفظ ثلاثي، والذي يجمع على فعائل هي الكلمات الرباعية، كبرية وبرايا، وضحية وضحايا، وفضيلة وفضائل.
وقد جمعت النية على (ني) بكسر النون وتشديد الياء، كسدرة وسدر، وهو نادر، قال النابغة الجعدي:
إنك أنت المحزون في أثر الــــــ *** ــحي فإن تنو نيهم تقم
قال صاحب اللسان: قيل في تفسيره: في جمع نية، وهذا نادر. قال ابن الأعرابي: قلت للمفضل: ما تقول في هذا البيت؟ قال: فيه معنيان: أحدهما يقول: قد نووا فراقك، فإن تنو كما نووا تقم فلا تطلبهم. والثاني قد نووا السفر، فان تنو كما نووا تقم صدور الإبل في طلبهم انتهى.
أقول: والمعنى الأول هو الظاهر، وهذا البيت من بحر المنسرح.
35- هذا العمل له ما يبرره
ومن أخطائهم قولهم: لهذا العمل ما يبرره، وكأنهم يريدون بالتبرير أن يجعل من البر وهو الإحسان. وقد بحثت فلم أجد في لسان العرب، وهو أكبر معجم عند العرب اليوم، برر على وزن فعل، كعلم، وإنما وجدت بر وأبر، وهذا من أخطاء المترجمين للفظ الإنكليزي Justify والصواب أن يقال: لهذا العمل ما يسوغه، أي يجعله سائغا، فلا يعاقب فاعله ولا يلام.
36- قولهم: يعشق الصحافة ويعشق العلم
قال في القاموس: العشق والمعشق كمقعد، عجب المحب بمحبوبه، أو إفراط الحب، ويكون في عفاف وفي دعارة، أو عمى الحس عن إدراك عيوبه، أو مرض وسواسي يجلبه إلى نفسه بتسليط فكره على استحسان بعض الصور. اهـ.
قال الجاحظ ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس في أثناء انتقاده على بعض الصوفية استعمالهم لفظ العشق في حب الله تعالى قال: لا يعشق إلا ما ينكح. وكلام صاحب القاموس يؤيده، فإن قوله: يكون في عفاف وفي دعارة، يدل على أن العشق لا يستعمل استعمالا صحيحا إلا في حب يتعلق بمن تمكن مباشرته، والشخص الذي تمكن مباشرته، وهو المعشوق، يكون ممتنع الوصول، فيزيد ذلك الامتناع في إذكاء نار العشق في قلب العاشق، فان كان تقيا عفيفا صبر وامتنع عن طلب الوصال، إيثارا لما يبقى على ما يفنى، أو تجنبا للعار، وان كان غير عفيف اندفع في طلب الوصال بدون مبالاة، وهذا هو الذي عبر عنه اللغويون بالدعارة. وكلتا الحالتين لا تتفق إلا مع المعشوق الذي تمكن مباشرته.
أما الصحافة والعلم والمعرفة والرياضة وما أشبه ذلك، فالصواب أن يعبر فيها بالحب، وكذلك حب الله سبحانه وتعالى، وحب رسوله والمؤمنين، لا ينبغي أن يعبر عنه بالعشق. ويدل على ذلك أيضا قول صاحب القاموس (أو مرض وسواسي يجلبه إلى نفسه بتسليط فكره على استحسان بعض الصور) فإن من أحب الله ورسوله والعلم وأهله لا يجلب لنفسه مرضا وسواسيا أبدا، بل يزداد عقله قوة وصحة.
وكذلك القول بأن العشق عمى الحس عن إدراك عيوب المعشوق، لا يتناسب إلا مع من تمكن مباشرته. ويروى حديث في العشق ذكره داود الأنطاكي في كتابه (تزيين الأسواق بتفصيل أشواق العشاق) ص6 هذا نصه:
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من عشق فعف، فمات دخل الجنة. زاد الخطيب عنه: فظفر، ثم أبدل قوله: (دخل الجنة) بقوله (مات شهيدا)، وفي أخرى (فكتم). والحديث بسائر ما ذكر صححه مغلطاي، وأعله البيهقي والجرجاني والحاكم في التاريخ بضعف سويد وتفرده به. ورواه ابن الجوزي مرفوعا وأبو محمد بن الحسين موقوفا، وأخرج الخطيب عن عائشة رفعه أيضا.
وحاصل الأمر أما صحته أو حسنه. والجواب عن تفرد سويد المنع بوروده عن غيره وحكايته تحديثا وكونه قبل عماه، فلا تدليس. اهـ.
والعجب من هذا الرجل الذي قضى عمره في علم الطب والفلسفة كيف تكلم على هذا الحديث كأنه من علماء الحديث، ولا غرابة في ذلك، فإن المسلمين في زمان عزهم وارتقائهم كانت لهم ثقافة جامعة عالية لا تشبهها أي ثقافة من ثقافات العصر الحاضر. وإذا أردت أن تزداد علما بذلك فعليك بمطالعة كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء، لابن أصيبعة، فإنك ترى أولئك الأطباء الذين ترجم لهم متبحرين متفننين في علوم كثيرة، إذا رأيت اطلاعهم في كل علم منها تقول: أنهم لا يحسنون غيره، وهذه مزية خاصة بعلماء الإسلام.
أما المثقفون في هذا العصر، فأغلبهم لا يحسن من العلوم إلا ما اختص به، ومن عجائب ما رأيت في ذلك أني كنت أتحدث في مستشفى العيون التابع لجامعة بون بألمانيا مع رئيس المستشفى، وهو أحد العلماء العشرة الذين يتألف منهم مجلس الجامعة الأعلى، وهو الدكتور البروفيسور(شيمت Schmit) وكان ذلك سنة 1954 فوجدته يعتقد وجود الدولة العثمانية واستمرار سلاطينها، مع أنه بلغ الغاية في علم الطب، حتى أنه يدعى من الولايات المتحدة ليسافر إلى هناك لإجراء الأعمال الجراحية وإلقاء المحاضرات، وقد بلغ جهله بالتاريخ إلى ما رأيت.
وهذا الحديث أيضا يدل على أن العشق لا يكون إلا لمن تمكن مباشرته. ثم راجعت الجامع الصغير فوجدته ذكر حديثين في هذا الباب، أحدهما عن عائشة، ونصه: من عشق فعف، ثم مات، مات شهيدا. رواه الخطيب، وأشار إليه السيوطي بعلامة الضعف.
والثاني: عن ابن عباس: من عشق فكتم وعف فمات، فهو شهيد. رواه الخطيب، وأشار إليه السيوطي بعلامة الضعف أيضا.
وإن صدق الانطاكي في نقله صحة الحديث عن الإمام الحافظ علاء الدين مغلطاي، فإنه حجة في علم الحديث. ويؤيد ما ذكرناه أن حب الله ذكر في القرآن في مواضع عديدة، ولم يعبر عنه بالعشق. وحب الرسول صلى الله عليه وسلم جاء في الحديث.
أخرج البخاري من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين.
والأحاديث التي جاء فيها حب الله ورسوله، وحب المؤمنين بعضهم بعضا كثيرة، ولم يرد في شيء منها التعبير بالعشق. هذا وموعدنا المقال التالي بحول الله.
مكناس: تقي الدين الهلالي
مجلة دعوة الحق: العدد 110 (العدد 8 – السنة 11) – ربيع الأول والثاني 1388هـ – يونيه – يوليوز 1968م – ص: 40-44/strong>