(7)
37- قال عنه:
من البدع المحدثات في الكلام العربي التي شاعت وذاعت في زمان الاستعمار، وكثرة ما يترجم من اللغات الأعجمية حين ضعفت الشعوب العربية، ولم يبق لها قول إلا ما تنقله من كلام المستعمرين المتغلبين قولهم (قال عنه) أنه كذا وكذا مدحا أو ذما، وهذا خطأ، والصواب أن يقال (قال فيه). والأدلة على هذا أكثر من أن تحصى أقتصر على قليل منها.
قال ابن منظور في مادة (ق ول) وفي حديث سعيد بن المسيب حين قيل له: ما تقول في عثمان وعلي؟ فقال: أقول فيهما ما قولني الله تعالى (59-10) ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾.
وفي حديث علي عليه السلام: سمع امرأة تندب عمر فقال: أما والله ما قالته، ولكن قولته، أي لقنته وعلمته وألقي على لسانها، يعني من جانب الإلهام، أي أنه حقيق بما قالت فيه. اهـ
الشاهد هنا في ثلاثة مواضع، في قول سعيد بن المسيب: أولهما قوله: (أقول فيهما ما قولني الله تعالى)، والثاني في سؤال من سأله (ما تقول في عثمان وعلي)، والثالث في خبر علي مع المرأة، وقد فسره صاحب اللسان بقوله: (إنه حقيق بما قالت فيه). معنى حقيق هنا: جدير بما قالت فيه تلك المرأة من المدح والثناء. ومراد سعيد بن المسيب بتلاوة الآية أنه يقول فيهما خيرا.
وبيان ذلك أن الله تعالى أثنى على المهاجرين في سورة الحشر بقوله (8) ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا، وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾. وأثنى على الأنصار بقوله (9) ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ وأثنى على التابعين لهم بإحسان بقوله (10) ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.
“ذكر تفسير الحافظ ابن كثير لهذه الآيات باختصار”
قال ابن كثير: يقول تعالى مبينا حال الفقراء المستحقين لمال الفيء أنهم الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا، أي خرجوا من ديارهم، وخالفوا قومهم ابتغاء مرضاة الله ورضوانه {وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون} أي هؤلاء الذين صدقوا قولهم بفعلهم، وهم سادات المهاجرين. الفيء كل مال أخذه المسلمون من أعدائهم بدون قتال كأموال بني النضير، وهي المعنية بهذه الآية.
ثم قال تعالى مادحا للأنصار، ومبينا لهم فضلهم وشرفهم وكرمهم، وعدم حسدهم، وإيثارهم مع الحاجة فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ أي سكنوا دار الهجرة من المهاجرين، وآمنوا قبل كثير منهم.
قال عمر (يعني في وصيته عند موته): وأوصى الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم كرامتهم، وأوصيه بالأنصار خيرا الذين تبؤوا الدار والإيمان من قبل أن يقبل من محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم، رواه البخاري.
ثم روى عن أحمد بسنده إلى أنس قال: قال المهاجرون: يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلا في كثير، لقد كفونا المؤونة، وأشركونا في المهنأ (المهنأ ما أتاك من الرزق بلا مشقة) حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، قال: لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم. اهـ.
ومعناه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما آخى بين المهاجرين والأنصار صار الأخ الأنصاري يقوم بالعمل كله في أرضه ويقاسم أخاه المهاجرين الغلة والثمر.
فخاف المهاجرون أن كل ما عملوه من عمل مقبول عند الله يكون أجره لإخوانهم الأنصار الذين كفوهم مؤونة العمل، وأشركوهم في الغلة والثمرة، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن أجرهم ثابت لهم، أن كافأوا إخوانهم الأنصار بالثناء والشكر ودعوا الله لهم. روى أحمد والترمذي من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من لم يشكر الناس لم يشكر الله.
وروى عن البخاري بسنده إلى يحيى بن سعيد سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يقطع لهم البحرين، قالوا: لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها، قال أما لا فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم أثره. اهـ
قال في مجمع البحار: وفي الحديث ستلقون بعدي أثَرَه –بفتحتين- اسم من آثر يوثر إيثارا، أي أعطى، أراد أنه يستأثر عليكم، فيفضل غيركم في نصيبه من الفيء. والاستئثار: الانفراد بالشيء. اهـ
ثم قال ابن كثير: ﴿وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا﴾ أي ولا يجدون في أنفسهم حسدا للمهاجرين فيما فضلهم الله به من المنزلة والشرف، والتقديم في الذكر والرتبة. قال الحسن البصري ﴿وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً﴾ يعني الحسد مِمَّا أُوتُوا قال قتادة: يعني فيما أعطى إخوانهم، وكذا قال ابن زيد:
ومما يستدل به على هذا المعنى ما رواه أحمد بسنده إلى أنس قال: كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته (أي تقطر) من وضوئه، قد علق نعليه بيده الشمال، فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان في اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى.
فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو ابن العاص فقال: إني لاحيت أبي (أي خاصمته) فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت، قال: نعم، قال أنس: فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي، فلم يره يقوم من الليل شيئا، غير أنه إذا تعار (أي استيقظ) تقلب على فراشه، ذكر الله وكبر، حتى يقوم لصلاة الفجر. قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا، فلما مضت الثلاث الليالي، وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله، لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرات: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث مرات، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كبير عمل. فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما هو إلا ما رأيت، فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لم أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا، ولا أحسد أحد على خير أعطاه الله إياه، قال عبد الله: فهذه التي بلغت بك، وهي التي لا تطاق. اهـ
استفدنا من الآية والحديث الذي رواه عبد الله ابن عمرو عن الرجل الأنصاري أن العمل القليل مع سلامة الصدر من الحسد والغل والغش خير من العمل الكثير الذي ليس معه تلك السلامة، ولكن عندنا هنا إشكال في ادعاء عبد الله بن عمرو أنه خاصم أباه فغضب عليه، واتخذ ذلك وسيلة إلى أن يكون ضيفا عند الأنصاري ليراقب عمله بالليل من صلاة، وقراءة قرءان ودعاء، فهل كان ذلك جائزا أن يتذرع المرء بالكذب البحت ليتوصل إلى خير، وهو ما يسمونه في لغة أهل هذا الزمان المأخوذة من اللغات الأجنبية: الغاية تسوغ الواسطة.
والذي نفهمه من أدلة الكتاب والسنة أن الكذب في مثل هذا لا يجوز، فهي هفوة ارتكبها هذا الصحابي الناشئ حرصا منه على الخير، واكتشاف الأسرار ليعرف ما يقوم به الأنصاري من العبادة بالليل حتى شهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة ثلاث مرات في ثلاثة أيام متوالية.
ثم قال ابن كثير: وقوله تعالى: وَ﴿ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ يعنى حاجة، أي يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدأون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:(أفضل الصدقة جهد المقل)، وهذا المقال أعلى من حال الذين وصف الله بقوله تعالى:(س 8: 76) ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ﴾ وقوله:(2: 177) ﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾ فإن هؤلاء تصدقوا وهم يحبون ما تصدقوا به، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه.
ومن هذا المقام تصدق الصديق رضي الله عنه بجميع ماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أبقيت لأهلك؟”، فقال: أبقيت لهم الله ورسوله. وهكذا الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك، فكل منهم أمر بدفعه إلى صاحبه، وهو جريح مثقل أحوج ما يكون إلى الماء، فرده الآخر إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم، ولم يشربه أحد منهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
وقال البخاري بسنده إلى أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا رجل يضيف هذا الليلة، رحمه الله، فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله فقال لامرأته: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئا، فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فاطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لقد عجب الله عز وجل، أو ضحك من فلان وفلانة، وأنزل الله تعالى: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة.
وقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ أي من سلم من الشح، فقد أفلح وأنجح. روى أحمد ومسلم بالسند إلى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(إياكم والظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم).
وقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء، وهم المهاجرون ثم الأنصار، ثم التابعون لهم بإحسان، كما قال في سورة التوبة (100) ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ فالتابعون لهم بإحسان هم المتبعون لآثارهم الحسنة، وأوصافهم الجميلة، الداعون لهم في السر والعلانية، ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ أي قائلين رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا ﴾ أي بغضا وحسدا ﴿ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾.
وما أحسن ما استنبط الإمام مالك، رحمه الله، من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾.
وقال ابن أبي حاتم بسنده إلى عائشة إنها قالت: أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم، ثم قرأت هذه الآية: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ﴾ الآية.
وروى البَغَوي بسنده إلى عائشة أيضا قالت، أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد، صلى الله عليه وسلم، فسببتموهم، سمعت نبيكم، صلى الله عليه وسلم، يقول:لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها اهـ.
قال محمد تقي الدين: وهذا ما قصده الإمامان سعيد بن المسيب ومالك، أذ فهمها من الآيات الثلاث أن الله قسم المسلمين ثلاثة أقسام: المهاجرين والأنصار، والذين جاءوا من بعدهم إذا كانوا يحبونهم، ويستغفرون لهم ولا يسبونهم، فمن سبهم فلا حق له في الفيء، لأنه خارج عن الأصناف الثلاثة التي استوعبت المسلمين. فالمتبعون لهم بإحسان كما في سورة التوبة لا يقولون فيهم إلا خيرا، ولا يتشيعون لبعضهم ويسبون غيرهم ويبغضونهم.
قال الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي في كتابه (ميزان الاعتدال في نقد الرجال) أبان بن جبلة الكوفي أبو عبد الرحمن، ضعفه الدارقطني وغيره. قال البخاري: منكر الحديث ونقل ابن القطان أن البخاري قال: كل من قلت فيه منكر الحديث فلا تحل الرواية عنه.
ثم قال: اعلم أن كل من أقول فيه: مجهول، ولا أسنده إلى قائل، فإن ذلك قول أبي حاتم فيه. اهـ. فقوله (أقول فيه مجهول) وقوله (فإن ذلك قول أبي حاتم فيه) مطابقان للاستعمال العربي السليم. والشواهد في هذا الكتاب وفي غيره من كتب الجرح والتعديل كتهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر، ولسان الميزان له أكثر من أن تحصى، ولم يرد في شيء منها قال عنه أو قالوا عنه.
وإذا سأل سائل ماذا يقول النصارى في عيسى ابن مريم، يكون الجواب: يقولون فيه: أنه ابن الله، وأنه ثالث ثلاثة، وأنه الأقنوم الثاني، تعالى الله عن ذلك. وقال البوصيري في الهمزية في وصف امرأة أبي لهب وعداوتها للنبي صلى الله عليه وسلم:
يوم جاءت غضبى تقول أفي مثـ
ـلي من أحمد يقال الهجاء
تعني أفيَّ يقال الهجاء الصادر من أحمد صلى الله عليه وسلم، تعني بالهجاء سورة {تبت يدا أبي لهب} فقال (في مثلي، ولم يقل ك عن مثلي) والقول يعدى بـ (في) في المسائل كذلك يقال: ما تقول في مسألة كذا وكذا. وقال عبد الله بن مسعود في مسألة سئل عنها: أقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان.
وقد أكثر من ذلك ابن بري في منظومته كقوله:
القول في التعوذ المختار
وحكمه في الجهر والإسرار
كيف تستعمل قال عنه:
فإن قلت: قد فهمنا من كلامك أن تعبير عامة الكتاب يقال عنه في موضوع قال فيه خطأ، فأي تستعمل قال عنه؟ فالجواب: يستعملها المحدثون في الرواية، وقد أكثر من ذلك البخاري رحمه الله. فمن ذلك قوله في كتاب العلم من صحيحه. وقال شقيق عن عبد الله سمعت النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو العالية عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ
فمعنى قال هنا: روى وحدث، فهذا هو الفرق بين قال فيه وقال عنه، يجب علينا أن نميز بينهما وأن نستعمل كلا منهما فيما يناسبه. والله الموفق.
38- الخلط والخبط في استعمال الغداء بالمهملة واستعمال الغذاء بالمعجمة
إذا استمعت إلى الإذاعات، أو قرأت الصحف تجد أكثر المتكلمين والكتاب لا يميزون بين الغداء والغذاء، ودونك معناهما وضبطهما. فالغداء – بفتح الغين المعجمة ودال مهملة ممدودا، هو طعام الغدوة، وهي أول النهار قال الله تعالى في سورة الكهف في قصة موسى مع الخضر:(62) ﴿ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ﴾.
قال البيضاوي: ﴿ فَلَمَّا جَاوَزَا ﴾ مجمع البحرين ﴿ قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا ﴾ ما نتغدى به ﴿ لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ﴾ قيل لم ينصب حتى جاز الموعد، فلما جاوزه وسار الليلة والغد إلى الظهر ألقى عليه الجوع والنصب اهـ.
وقال الراغب في غريب القرءان: (غدا) الغدوة والغداة من أول النهار، والغداء طعام يتناول في ذلك الوقت. اهـ
وقال صاحب اللسان: والغَداء: الطعام بعينه، وهو خلاف العشاء. ابن سيده: الغَداء طعام الغدوة. والجمع أغدية، عن ابن الأعرابي. أبو حنيفة: الغداء رعي الإبل في أول النهار، وقد تغدت وتغدى الرجل وغديته. ورجل غديان وامرأة غديا، على فعلى، وأصلها الواو، ولكنها قلبت استحسانا، لا عن قوة علة، وغديته فتغدى. اهـ
إذا فهمت هذا علمت أن تسمية الناس اليوم للطعام الذي يؤكل بعد الظهر غداء مخالف لاستعمال العرب، لأن العرب لم يكونوا يأكلون في وقت الظهر، وليس في لغتهم اسم لطعام يؤكل وقت الظهر، ولم يكونوا يأكلون بالليل، ولذلك لا يوجد في لغتهم اسم لطعام يؤكل بالليل، وإنما كان عندهم غداء وعشاء، فالغداء تقدم بيانه، والعشاء طعام العشي.
قال صاحب القاموس: والعشي بالكسر، والعشاء كسماء طعام العشي، الجمع أعشية، وعشى وتعشى أكله، وهو عشيان ومتعش، وعشاه عشوا، أطعمه إياه كعشاه وأعشاه. اهـ
وفيما سوى هذين الطعامين لا يتقيد الأكل بوقت معتاد متى جاع الإنسان أكل. ومن أمثال العرب: خير النهار بواكره، وخير العشاء سوافره، والبواكر هي ساعات الإبكار، الساعات الأولى من الصبح. والسوافر ساعات العشي التي لا يزال فيها ضوء النهار موجودا قبل أن يجيء الظلام، ومرادهم بذلك التبكير للأشغال والأعمال، وتعجيل العشاء قبل أن يأتي الظلام.
ولا يزال كثير من العرب عاملين بذلك إلى يومنا هذا، فإني كنت أسكن بقرية الزبير بقرب البصرة، وسكانها من أهل نجد، وهم محافظون على العادات العربية، فكنت إذا خرجت إلى المسجد لصلاة المغرب، ووقفت في الصف أشم رائحة الدسم تنبعث عن يميني وشمالي، وذلك دليل على أنهم تعشوا قبل غروب الشمس، ولكنهم لم يحافظوا على الغداء في وقته الذي كانت عليه العرب، فإنهم يفطرون في الصبح بما تيسر، ويؤخرون الغداء إلى أن يصلوا الظهر.
ولما كنت ساكنا بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم سنة ألف وثلاثمائة وست وأربعين وسبع وأربعين رأيت سكان المدينة كلهم يتغدون في الضحى، ويتعشون بين العصر والمغرب كما كان العرب الأولون يفعلون. أما في هذه السنة فقد أقمت في المدينة ستة عشر يوما ودعاني كثير من الإخوان إلى الطعام، فرأيت تلك العادة قد تبدلت، وصار سكان المدينة يأخذون بعادة أهل المدن وهي ثلاث أكلات في النهار حين يصبحون، وحين يظهرون، وحين يمسون.
وقد تجنبت ذكر الوجبة التي اعتاد الكتاب التعبير بها عن كل واحدة من الأكلات الثلاث المعتادة، لأنهم يستعملونها خطأ.
قال صاحب اللسان: الوجبة: الأكلة في اليوم والليلة. قال ثعلب: الوجبة أكلة في اليوم إلى مثلها من الغد. اهـ
والأوربيون أيضا يعملون بشطر المثل العربي، وهو خير العشاء سوافره، فإنهم يأكلون عادة أعشيتهم بين الساعة السادسة والسابعة، وتكون الشمس في الصيف لا تزال مرتفعة. ويقول علماء الصحة: أن ذلك خير من تأخير الطعام إلى أن يكون قبيل النوم، فإن النوم على امتلاء المعدة تنشأ عنه أمراض، ولا يكون النوم معه هنيئا. أما إذا تعشى الإنسان مبكرا، فإنه يتحرك بعد العشاء، فلا يأتي وقت النوم حتى يتم الهضم الأول للطعام.
مكناس: تقي الدين الهلالي
مجلة دعوة الحق: العدد 111 و 112 (العدد 9 و 10 – السنة 11) – جمادى الأولى 1388هـ – ماي 1968م – ص: 43-37