1- قاتل ضد:
هذه العبارة، وما أشبهها من المصائب الاستعمارية اللغوية التي نكبت بها اللغة العربية. والأصل في ذلك أن قاتل في اللغة الإنكليزية والألمانية من الأفعال اللازمة التي لا يتعدى فعلها إلى المفعول به إلا بحرف، وهو في الإنكليزية (against) وفي كل من الألمانية والفرنسية لفظ يقابله يتعدى به الفعل إلى مفعوله. والمترجم الجاهل الذي يضع مقابل كل كلمة من اللغة التي يترجمها كلمة تقابلها من اللغة التي ينقل إليها المعنى، ولم يدر أن (قاتل) في اللغة العربية فعل متعد بنفسه لا يحتاج إلى حرف. قال تعالى ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا﴾ [البقرة: 190].
وقد شاع ذلك التعبير الفاسد كقولهم مثلا: (أمريكا تقاتل ضد فيتنام الشمالية) وإذا نظرنا في هذه الجملة بعين الناقد البصير الذي يدري ما يقول، نجدها تدل على ضد ما يريده قائلها وتعكس مراده، لأن الضد هو العدو.
قال صاحب اللسان: الضد كل شيء ضاد شيئا ليغلبه. اهـ
وقال عكرمة في قوله تعالى في سورة مريم 81-82: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾ أي أعداء.
فإذا قلنا: إن أمريكا تقاتل ضد فيتنام الشمالية، كان معناه: أن أمريكا تقاتل عدو (فيتنام الشمالية) أي تقاتل نفسها، وهذا مسخ للغة العربية، يدمي قلب كل من يحبها، ويغار عليها، ويريد لها الانتعاش، فالحياةَ فالازدهارَ، وأن يعاد لها مجدها فتساير ركب الحضارة الإنسانية، وتكتسي حلة التقدم في مجال المدنية، وتنال الحظ الأوفر اللائق بمكانتها من التعبير عن العلوم والآداب، حتى يستغنى الناطقون بها عن تكفف اللغات الأجنبية.
2- جمع الرومي على الرومان:
مما هو شائع على ألسنة الكتاب والخطباء والمعلمين والأساتذة التعبير بلفظ (الرومان)، فإذا سألناهم عن مفرده -وقف حمار الشيخ في العقبة-، أو أجابوا بأنه جمع رومي، وهذا جواب غير صحيح.
والحقيقة أن هذا التعبير مأخوذ من اللغات الأوربية كالإنجليزية مثلا. والألف والنون يقابلان الياء في العربية (فرومان) في هذه اللغة نسبة إلى رومة. يقال للواحد، والجمع بزيادة سين ساكنة فيه، فاستعمله جهلة المترجمين بلفظه، ولم يعلموا أن ترجمته الصحيحة في المفرد (رومي) وفي الجمع (روم). قال الله تعالى ﴿الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾.
والعرب تطلق لفظ الروم على الاغريقيين والإيطاليين، ومن إليهم. قال ابن منظور في لسان العرب: والروم جيل معروف، وأحدهم رومي، ينتمون إلى عيصو بن إسحاق النبي عليه السلام. ورومان بالضم، اسم رجل.
قال الفارسي: روم ورومي، من باب زنجي وزنج: قال ابن سيدة: ومثله عندي فارسي، وفرس، قال: وليس بين الواحد والجمع إلا الياء المشددة كما قالوا: تمرة وتمر، ولم يكن بين الواحد والجمع إلا الهاء. اهـ
فرومان في اللغة العربية لا يدل على جيل من الناس، وإنما هو علم يسمى به الرجال، ورومان أبو قبيلة.
قال “الفيروز آبادي” في القاموس: ورومان بالضم (موضع) ورومان الرومي، وابن نعجة صحابيان، وأم رومان، أم عائشة الصديقية، والروماني (موضع) باليمامة، ورومية (بلد) بالمدائن خرب، و(بلد) بالروم سوق الدجاج، فيه فرسخ، وسوق البر ثلاثة فراسخ، وتقف المراكب فيه على دكاكين التجار في خليج معمول من النحاس، ارتفاع سوره ثمانون ذراعا في عرض عشرين، فيما نقله ابن خرداذبه، فإن يك كاذبا فعليه كذبه. اهـ
وقد تبين بما ذكرنا أن لفظ (رومان) لا وجود له في العربية، وإنما يوجد للمفرد رومي وللجمع روم: وقد توسع الكتاب في هذا الزمان فقالوا: يوناني ويونان، فكأنهم قاسوه على رومي وروم، وزنجي وزنج: والذي في القاموس هو: واليونانيون جيل انقرضوا. اهـ
وقول “الفيروز آبادي”: انقرضوا، له في ذلك عذر، لأن بلاد اليونانيين في زمانه كانت ولاية من ولايات الدولة العثمانية ووجود الشعوب مرتبط باستقلال دولها، وما بالعهد من قدم.
ففي الأمس القريب، كنت أنا بنفسي، كلما سألني سائل في أوربا أو في آسيا، وحتى في إفريقية، كلما سألني سائل، من أين أنت أقول: من المغرب فيبادر بسؤال آخر، أنت من المغرب الإسباني أو من المغرب الفرنسي، أو من طنجة الدولية؟
فأقول: المغرب بلد واحد، وهو للمغاربة، فلا يريد أن يصدقني أحد، كأن المغرب خلقه الله، يوم خلق السموات والأرض مجزأ ثلاثة أجزاء، مع أن تقسيمه نشأ منذ زمان قريب، ولم يستمر إلا ثلاثا وأربعين سنة.
وأغرب من ذلك أني لما أردت التجنس بالجنسية العراقية سنة 1934 قدمت طلباً إلى الدوائر المختصة في البصرة فبقيت الأوراق تنتقل من دائرة إلى دائرة مدة شهرين، ثم بعثت إلى بغداد العاصمة، فسافرت لأتعقبها إلى بغداد، وبقيت شهرين أستنجد وأتشفع حتى وصلت الأوراق إلى يد مدير وزارة الداخلية، فأخذ جواز سفري يتأمله وأنا واقف أمامه، وإلى جانبي الأستاذ كمال الدين الطائي من كبار علماء بغداد تفضل بمرافقتي ليعينني ويشفع لي، فقال المدير: بفظاظة، ما هي جنسيتك؟ فقلت: مغربي فاستشاط غضباً وقال: (جنسية هتشي ماكو) يعني لا توجد جنسية هكذا، قل: فرنسي، فقلت بل هي موجودة، فانظر ما هو مكتوب على الجواز باللغة الفرنسية (أمبير شريفيان) أي الدولة الشريفية، فلم يقتنع بذلك، فقلت له: هل كنت أنت إنكليزيا قبل سنتين؟ أي قبل المعاهدة الأخيرة، فقال لي: (حنا كنا عثمانيين، ومن بعد صرنا عراقيين) فقلت له أنا: (ونحن دولة مغربية منذ ما يزيد على ألف سنة، منذ أسس الإمام إدريس بن عبد الله الدولة المغربية واستقلت عن الدولة العباسية) فجذبني الأستاذ كمال الدين من ثيابي وقال لي: دع هذه القضية، فسأتعقبها أنا، لأنه رأى أن القضية قد دخلت في طور خطير بالجدال مع مدير الداخلية.
فكتب ذلك المدير على أوراقي: (الطلب مرفوض)، وبذلك أحبط لي عمل أربعة أشهر، ولكن الله سبحانه وتعالى رحم ضعفي وغربتي، فسقطت تلك الوزارة، وكانت إحدى وزارات جميل المدفعي، ولم تلبث في الحكم إلا اثني عشر يوما، ولا توجد فيما أعلم وزارة عراقية تماثلها في قصر العمر.
وجاءت بعدها وزارة علي جودة الأيوبي فأعدت الطلب وحصلت على الجنسية في ثلاثة أيام بمساعدة النبيل الشهم عارف قفطان العاني، وكان صديقاً حميماً لعلي جودة الأيوبي.
وفي سنة 1341هـ حججت الحجة الأولى، ووقع خصام بيني وبين صاحب حانوت بمكة فعيَّرني، وزعم أني فرنسي، فقلت له: أنت إنكليزي، فنحن في البلية سواء، وكان في زمان الشريف حسين بن علي إذن فلا غرابة في قول صاحب القاموس: إن اليونانيين انقرضوا.
والذي يهمنا هنا هو أنه لا يقال: يوناني ويونان، وإنما يقال: يوناني ويونانيون.
ومن ذلك قولهم: ألماني وألمان والصواب: جرماني وجرمانيون، لأن البلاد التي تسمى في هذا الزمان ألمانية، كانت العرب تسميها (جرمانية) هكذا سماها ابن الفقيه البغدادي المتوفى في أواخر المائة الثالثة للهجرة في كتابه الذي سماه (كتاب البلدان) وذكر فيه جغرافية العالم: وقد ترجمته مع الأستاذ (باول كالي) باللغة الجرمانية ولفظ «ألمانية» فرنسي، فإذا أردنا أن نتساهل ونترك اللفظ العربي، ونستعير اللفظ الفرنسي وجب علينا أن نقول (ألماني وألمانيون) والأفضل لنا أن نستعمل اللفظ العربي ونحييه ونستغني به.
استطراد:
كل من يقرأ مقالاتي يعلم أن الاستطراد محبب إلى فيما أقرؤه وفيما أكتبه، لأن الاستطراد كالطعام المؤلف من ألوان متعددة، ولذلك رأيت أن أذكر تفسير أول سورة الروم تتميماً للفائدة وتلويناً للغذاء.
قال البيضاوي في تفسيره: ﴿آلم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾ أرض العرب منهم، لأنها الأرض المعهودة عندهم، أو في أدنى أرضهم من العرب، واللام بدل من الإضافة ﴿وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ﴾ أي من إضافة المصدر إلى المفعول. وقرئ غَلْبِهِم، وهو لغة: كالجلب والجلب ﴿سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾.
روي أن فارس غزوا الروم فوافوهم بأذرعات وبصرى، وقيل بالجزيرة، وهي أدنى أرض الروم من الفرس، فغلبوا عليهم، وبلغ الخبر مكة ففرح المشركون وشمتوا بالمسلمين وقالوا: أنتم والنصارى أهل كتاب، ونحن وفارس أميون، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم، ولنظهرهن عليكم، فنزلت.
فقال لهم أبوبكر: لا يُقِرَّنَّ الله أعينكم، فو الله لتظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين. فقال له أبي بن خلف: كذبت، اجعل بيننا أجلا أُنَاحِبُكَ عليه، فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما، وجعلا الأجل ثلاث سنين، فأخبر أبوبكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايده في الخِطْرِ وماده في الأجل، فجعلاه مائة قلوص إلى تسع سنين. ومات أُبَي من جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قفوله من أحد.
وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية، فأخذ أبو بكر الخِطْر من ورثة أُبَي، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تصدق به. واستدلت به الحنفية على جواز العقود الفاسدة في دار الحرب، وأجيب بأنه كان قبل تحريم القمار.
والآية من دلائل النبوة، لأنها إخبار عن الغيب: وقرئ غَلَبَت (بالفتح)، وسيغلبون (بالضم)، ومعناه: أن الروم غلبوا على ريف الشام، والمسلمون سيغلبونهم. وفي السنة التاسعة من نزولها غزاهم المسلمون، وفتحوا بعض بلادهم، وعلى هذا تكون إضافة الغلب إلى الفاعل.
توضيحات لكلام البيضاوي:
1- قوله (واللام بدل من الإضافة) يعني أن أداة التعريف في (الأرض) بدل من الضمير المضاف إليه. والتقدير: غلبت الروم في أقرب أرضهم وهي أرض العرب التي كانوا مستولين عليها، لأن أذرعات وبصرى هما من بلاد الشام، وبلاد الشام ليست ملكا للروم، وإنما استولوا عليها بالتسلط والقهر، هذا على القول بأن المراد بالأرض (بصرى وأذرعات) وأما على القول بأنها الجزيرة، فهي كذلك ليست للروم، بل هي من بلاد العرب، لأنها واقعة بين دجلة والفرات.
2- قوله (من إضافة المصدر إلى المفعول) يعني، وهم من بعد غلبة الفرس لهم سيغلبون الفرس في مدة لا تتجاوز البضع، وهو مابين ثلاث إلى تسع.
3- قوله (روي أن فارس غزوا الروم) من المعلوم أن البيضاوي، مع علمه بالنحو والصرف واللغة والفقه الشافعي والأصول، وعلم الكلام مزجي البضاعة في علم الحديث. ففي تفسيره أحاديث موضوعة يذكرها في فضائل السور. وروي بصيغة الفعل المبني للنائب لا يستعملها أهل الحديث إلا إذا كان المروي ضعيفا، فلذلك أردت أن ألم بتخريج هذا الحديث وبيان رتبته.
أما تخريجه فقد رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن جرير بطرق تختلف ألفاظها، ويتفق معناها في الجملة، ورواه كذلك سنيد بن داوود في تفسيره.
وروايته أقرب إلى ما ذكره البيضاوي.
وأما رتبته فقد قال الترمذي في بعض طرقه: حسن غريب، وفي بعضها حسن صحيح.
4- قوله (أناحبك عليه) أي أراهنك وأخاطرك. والقلوص الشابة من النوق.
5- قوله (ومات أُبي بن خلف من جرح رسول الله) صلى الله عليه وسلم. قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد ج2ص 93: أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أُبي بن خلف (يعني في غزوة أحد) على جواد له، يقال له العود، زعم عدو الله أنه يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما اقترب منه، تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة فطعنه بها، فجاءت في ترقوته، فَكَرَّ عدو الله منهزما. فقال له المشركون: والله ما بك من بأس، فقال: والله، لو كان ما بي بذي المجاز لماتوا أجمعون.
وكان يعلف فرسه بمكة ويقول: أقتل عليه محمدا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل أنا أقتله إن شاء الله تعالى، فلما طعنه، تذكر عدو الله قوله: أنا قاتله، فأيقن بأنه مقتول من ذلك الجرح، فمات منه في طريقه بسرف مرجعه إلى مكة اهـ.
6- قوله (وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية) الخ.
الحديبية بصيغة التصغير وتخفيف الياء على الصحيح عند أهل اللغة. موضع يبعد عن مكة بنحو عشرة أميال. وقع فيه الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة في ذي القعدة سنة ست للهجرة.
7- قوله (واستدلت به الحنفية على جواز العقود الفاسدة في دار الحرب) الخ. يعني أن الحنفية استدلوا بمراهنة أبي بكر الصديق مع أُبي بن خلف، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وإقراره عليه، وأمره أبا بكر أن يتصدق بما ربحه من الإبل، استدلوا بذلك على جواز القمار وغيره من العقود المحرمة، مع أعداء الإسلام في دار الحرب، ومنع ذلك الشافعية، وأجابوا عن الاحتجاج بفعل أبي بكر أن ذلك كان قبل أن يحرم القمار، وحينئذ لا حجة فيه على جواز القمار مع المحاربين ولا غيره من المحرمات كالربى، فلا يجوز التعامل بالربا، لا مع المسلمين ولا مع المسالمين، ولا مع المحاربين، وهذا هو الصحيح، لأن المراهنة على ما يظهر كانت في مكة قبل الهجرة. ويؤيد ذلك ما جاء في بعض روايات الحديث أن هزيمة الروم وقعت بعد المراهنة بسبع سنين.
ومن المعلوم أن آية تحريم القمار، وهي قوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90] نزلت بالمدينة. والخمر التي حرمت مع القمار في الآية كانت حلالا عند ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وكانت تشرب ويتجر فيها، ثم حرمت بعد ذلك أولا في أوقات الصلاة بقوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾ [النساء: 43] ثم حرمت بتة بآية المائدة.
8- قوله (والآية من دلائل النبوة) الخ. هذه معجزة باقية خالدة يستوي في إدراكها من كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وشاهدها بنفسه، ومن يأتي بعد ذلك إلى يوم القيامة، لأن سورة الروم مكية، وكان المسلمون عند نزولها في غاية القلة والضعف يسخر منهم أعداؤهم ولا يأبه بهم أحد.
وقد أخبر الله سبحانه في أول هذه السورة أن الروم البيزنطيين هزمهم الفرس شر هزيمة، وكان الروم أعظم دولة في الغرب، والفرس أعظم دولة في الشرق الأدنى على الأقل، ولم تجر العادة أن دولة عظيمة تمنى بهزيمة منكرة تلم شعثها وتجمع شملها، وتعيد الكرة في بضع سنين فتهجم على الدولة التي هزمتها وتكيل لها صاعاً بصاع.
فلو قال قائل بعد هزيمة جرمانية (ألمانيا): «إن الدولة الجرمانية ستعيد الكرة على أعدائها وتهزمهم في بضع سنين»، ثم وقع الأمر طبق ما قال ذلك القائل لصدقه جميع الناس في كل ما يقول وآمنوا به، فماذا يقول المنكرون لمعجزات القرآن من غلاة أعدائه الأجانب، وأذنابهم من الأغمار، من سكان البلاد العربية والإسلامية، في هذه المعجزة الخالدة؟؟ وكم وكم من أمثالها في القرآن لمن تدبر القرآن، وسلمت عين بصيرته من غشاوة التعصب الممقوت والجهل والتهور والطيش.
9- قوله (وقرئ: غلبت (بالفتح)، وسيغلبون (بالضم) الخ.
هذه قراءة ضعيفة خارجة عن السبع، شاذة. والمعنى على هذه القراءة: غلبت الروم فارس، وسيغلبهم العرب المسلمون. وقد غزا المسلمون الروم قصاصاً منهم في السنة التاسعة من نزولها.
والقراءة الأولى هي المعتمدة.
10- قوله (وعلى هذا تكون إضافة الغلب إلى الفاعل) يعني على القراءة الشاذة، يكون المصدر مضافاَ إلى فاعله.
والتقدير: من بعد أن غلب الروم الفرس سيغلبون – بضم الياء وفتح اللام – أي يغلبهم المسلمون. وهذا آخر المقال الثاني من تقويم اللسانين. وموعدنا الجزء التالي بحول الله وقوته.
مجلة دعوة الحق: العدد 97 (العدد 5 – السنة 10) – ذو الحجة 1386هـ – أبريل 1967م – ص: 40-41