9- في أية مناسبة:
من الأخطاء التي شاعت وذاعت في هذا الزمان تأنيث (أي) إذا أضيفت إلى مؤنث كقولهم: يمكن أن يجيء في أية لحظة، ولم ترد أية أنباء، وهذا الاستعمال كثير يسمع في كل وقت من الإذاعات، ويقرأ في الصحف، وهو فاسد، فإن (أياً) إذا أضيفت إلى مؤنث أو مذكر أو جمع، كيفما كان، تبقى على حالها. قال الله تعالى في سورة الانفطار ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾.
وقال تعالى في سورة المؤمن ﴿فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ؟﴾ وقال تعالى في سورة الرحمن ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.
قال الخضري في حاشيته على ابن عقيل في الكلام على الحكاية بعد تقرير حكم (أي) المحكي بها، وبيان أنها تتبع اللفظ الذي حكي بها في الإعراب والتذكير والتأنيث والإفراد والتثنية والجمع ما نصه: خرج المسؤول بها ابتداء فلا يحكى بها شيء، بل تكون بحسب العوامل، ومفردة مذكرة لا غير مثل من، وشذ قوله:
بأي كتاب أم بأية سنة
ترى حبهم عاراً عليّ وتحسب؟
وقال الصبان في حاشيته على الأشموني مثل ذلك.
وقول الخضري: ابتداء، احترز بذلك من المسؤول بها حكاية، فإنها تذكر وتؤنث، فإذا قال لك قائل: جاءني رجل تقول: أي. وإذا قال لك: جاءتني امرأة تقول: أية. فأي مسؤول بها في الحالين، إلا أنك إذا سألت بها ابتداء تلزم الإفراد والتذكير. وإذا سألت بها حكاية تجيء على حسب المحكي.
10- نسيت أنا الآخر:
هذا خطأ شائع في البلاد العربية، يقول شخص مثلاً: نسي صديقي وعده ونسيت أنا الآخر، أو نسي هو الآخر. فاستعمال الآخر هنا خطأ محض. والصواب: ونسيت أنا أيضا.
وهذا الاستعمال موجود في اللغة العامية المصرية بإبدال الهمزة راء، يقولون مثلا: نسيت أنا (راخر) والظاهر أن أول من ارتكب هذا الخطأ عامة الكتاب المصريين، لأنه موجود في لغتهم العامية فاستعملوه في الفصحى، وتبعهم غيرهم من عامة كتاب البلاد العربية والمتكلمين بها من غير العرب.
11- اعتناق الدين:
قال صاحب اللسان: وعانقه معانقة وعناقا: التزمه، فأدنى عنقه من عنقه. وقيل المعانقة في المودة، والاعتناق في الحرب. قال:
يطعنهم ما ارتموا، حتى إذا أطعنوا
ضارب، حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا
وقد يجوز الافتعال في موضع المفاعلة، فإذا خصصت بالفعل واحدا دون الآخر لم تقل إلا عانقه في الحالين. قال الأزهري: وقد يجوز الاعتناق في المودة كالتعانق، وكلٌّ في كلٍّ جائز. اهـ.
فظهر أن المعانقة والاعتناق كلاهما مأخوذ من إدناء العنق من العنق، والدين ليس له عنق. ولا يعانق من دخل فيه. فالفعل هنا من جانب واحد.
والعرب لا تقول أبدا: اعتنق الإسلام، أو اعتنق النصرانية، أو اعتنق الفكرة، وإنما تقول: أسلم، وتنصّر، واعتقد كذا وكذا قال تعالى في سورة آل عمران (20) ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ، وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَإِنْ تَوَلَّوْا، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾.
ومثل هذه العبارات في الكتاب والسنة كثيرة جدا. ولا يوجد التعبير باعتناق الإسلام في أي موضع. لا يقال: إن اعتناق الإسلام استعارة، لأنا نقول: ليس كل استعارة مستحسنة، ولو كان التعبير بالاعتناق مستحسنا لعبر به القرآن أو السنة أو فصحاء العرب.
وقال الفيروز أبادي في القاموس: وأسلم: انقاد وصار مسلما. اهـ.
أقول: أسلم في اللغة إذ كان لازما، معناه: انقاد واستسلم. وأما في اصطلاح الشريعة فمعناه: انقاد إلى ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبله كله في الظاهر، فإن كان قبوله له ظاهراً وباطناً فهو مسلم حقا ومؤمن، وإن كان قد قبل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وانقاد له في الظاهر فقط فهو منافق، تجري عليه أحكام الإسلام، وهو في الحقيقة كافر. قال تعالى في سورة الحجرات (14) ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا، قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا، وَلَكِنْ قُولُوا: أَسْلَمْنَا، وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وإن كان هذا الفعل متعديا فمن معانيه: إخلاص التوجه إلى الله تعالى.
قال تعالى في سورة النساء (125) ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ، وَهُوَ مُحْسِنٌ، وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾.
ومن معانيه: الإلقاء في الهلكة قال صاحب اللسان: قال ابن الأثير: يقال: أسلم فلان فلانا إذا ألقاه في الهلكة ولم يَحْمِه من عدوه، وهو عام في كل من أسلم إلى شيء، لكن دخله التخصيص، وغلب عليه الإلقاء في الهلكة.
ومنه الحديث: إني وهبت لخالتي غلاما فقلت لها: لا تسلميه حجاما ولا صائغا ولا قصابا، أي لا تعطيه لمن يعلمه إحدى هذه الصنائع. اهـ
أقول: والعجب من ابن منظور، كيف وقع في خطأ عامي، وهو تعديته (أعطى) إلى المفعول الثاني باللام، وهو متعد بنفسه إلى مفعولين يقال: أعطاه الله علما. قال تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ ولكن لكل سيف نبوة، ولكل جواد كبوة، والكمال لله.
ومن أسلم المتعدي قول النبي صلى الله عليه وسلم: المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، أي لا يخذله بل يحميه ويدافع عنه. والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر.
وهذا التعبير أيضا من استعمار لغة الأجانب واستعبادها للغة العربية فهو في الإنكليزية (Embrace) وقال تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا﴾، ولم يقل: يعتنقون دين الله.
12- البساطة:
يقال: هذا شيء بسيط، وتكلم ببساطة، وهذا لا يعتقده إلا البسطاء، وذلك كله خطأ قال صاحب اللسان: ورجل بسيط: منبسط بلسانه، وقد بسط بساطة. الليث: البسيط المنبسط اللسان، والمرأة بسيط. ورجل بسيط اليدين: منبسط بالمعروف، وبسيط الوجه متهلل، وجمعها: بسط. اهـ.
أقول: فقد رأيت أن البسيط والبساطة لا يدلان على ما يريد الكتاب بهما، فإنهم يريدون بالبسيط من الناس الغر والمغفل، ويريدون بالبسيط من الأمور، السهل الهين، وذلك كله بعيد عن استعمال العرب، بل هو ضده، لأن البسيط في اللغة العربية، هو الواسع، ومن أجل ذلك سميت الأرض البسيطة لسعتها.
والبساطة كما تقدم في كلام العرب طلاقة الوجه. وأصل هذا الخطأ آت من اصطلاح الأطباء في تسميتهم الدواء الذي هو من مادة واحدة بسيطا، ويقابله: المركب الذي يتألف من أجزاء، كل جزء من مادة.
وقد استعمله الفلاسفة أيضا فقسموا الجهل إلى قسمين: جهل بسيط، وجهل مركب، فالجهل البسيط هو أن يكون الشخص جاهلا، ويعلم أنه جاهل، والجهل المركب أن يكون الشخص جاهلا، ويجهل أنه جاهل، فجهله مركب من جهلين. قال بعض الشعراء على لسان حمار الطبيب توما:
قال حمار الحكيم توما
لو أنصفوني ما كنت أُركب
لأن جهلي غدا بسيطا
وراكبي جهله مركب
ومما يحكي من أخبار هذا الطبيب أنه قرأ في كتاب (الحبة السوداء شفاء من كل داء) فقرأها خطأ (الحية السوداء شفاء من كل داء) فأخذ حية سوداء وصار يعالج بها المرضى، فكانوا يموتون من سمها.
وليس بالكاتب حاجة إلى أن يترك اللغة الفصحى ويستعمل اصطلاحا طبيا ليعبر به عما يريده إلا إذا كان باقليا من أهل العي والحصر.
وقد ارتقى الكتاب من ذلك إلى خطأ آخر، وهو استعمال التبسيط فيقولون: كتاب مبسط، يعني أنه ألف بلغة سهلة غير معقدة. ويقولون: يجب تبسيط قواعد النحو، أي تسهيلها وتيسيرها، فانتقلوا من إلى خطأ، لأن التبسيط هو التوسيع، فهو بمعنى البسط، إلا أن التبسيط فيه مبالغة كالتقتيل بمعنى القتل، أي كثرته. وفعل المضاعف إذا اشترك مع الثلاثي في معنى واحد دل الرباعي على الكثرة والمبالغة في اللغة العربية، وفي أختيها العبرانية والآرامية.
13- نكران الذات:
ومن الأخطاء التي جاءت مع الاستعمار تعبيرهم بـ (نكران الذات) عن الإيثار، وهذه العبارة ترجمة فاسدة للفظ الإنكليزي (self-denial) والتعبير العربي الصحيح عن هذا المعنى هو. الإيثار قال تعالى في سورة الحشر (9) ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ وضد الإيثار هو: الاستئثار ويسميه جهال الكتاب (أنانية) نسبة فاسدة إلى لفظ (أنا) وهو أيضا من الترجمة الفاسدة للفظ الإنكليزي (selfishness) وقد يعبرون عن هذا المعنى أيضا بحب الذات، وهو تعبير فاسد، لأن كل إنسان يحب نفسه وليس ذلك بعيب، وإنما يعاب عليه أن يبالغ في حب نفسه إلى حد الاستئثار بالطيبات، وغَمْط حقوق الناس، وكذلك لا ينبغي للإنسان أن ينكر نفسه، ولا يستطيع ذلك لو حاوله.
وكيف ينكر نفسه، وهو يعلم العلم الضروري أنه موجود؟ وإذا أنكر الإنسان نفسه، فبمن يعترف؟ وهذا كله ناشئ عن الجهل باللغة العربية، وعدم تعلمها من مصادرها الصحيحة.
14- التصدير والتوريد:
ومن الأخطاء الشائعة الذائعة استعمالهم لفظ التصدير فيما تخرجه البلاد من البضائع ليباع في خارجها فيقولون مثلاً: المغرب يصدر الفوسفاط والحوامض والسردين، فدعنا نبحث في صحة هذا التعبير قال في اللسان: وصدر كتابه جعل له صدراً، وصدره في المجلس فتصدر اهـ. والصواب في هذا أن يعبر بالإصدار.
ثم قال صاحب اللسان: وقد أصدر غيره وصدره، والأول أعلى. وفي التنزيل العزيز: ﴿حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ﴾.
قال ابن سيدة: فإما أن يكون هذا على نية التعدي، كأنه قال: حتى يصدر الرعاء إبلهم، ثم حذف المفعول. وإما أن يكون يصدرها هنا غير متعد لفظا ولا معنى، لأنهم قالوا: صدرت عن الماء: فلم يعدوه. اهـ
وقال البيضاوي في قوله تعالى في سورة القصص (23) ﴿قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ﴾ تصرف الرعاة مواشيهم عن الماء حذراً عن مزاحمة الرجال، وحذف المفعول، لأن الغرض هو بيان ما يدل على عفتهما، ويدعوه إلى السقي لهما ثمة دونه.
وقرأ أبو عمرو وابن عامر (يصدر) أي ينصرف. اهـ
أقول: قول البيضاوي: (تصرف الرعاة مواشيهم) يرجح الوجه الأول من الوجهين اللذين نقلهما صاحب اللسان عن ابن سيدة، وهو أن يصدر فعل متعد حذف مفعوله، لأن البلاغة تقتضي حذفه كما أشار إليها البيضاوي، لأن الغرض لا يتعلق به، وإنما المراد الدلالة على عفاف ابنتي شعيب وكراهيتهما للاختلاط بالرعاة.
وعلى قراءة يصدر الرعاء (بفتح الياء) لا يختلف المعنى، لأن الرعاء لا بد أن تكون معهم مواش، وإلا لم يكونوا رعاة، فالمواشي مفهومة من المقام، إذا قلنا: إن الفعل الثلاثي لازم، وهو الذي رجحه ابن سيدة.
ويؤيده قوله تعالى في سورة الزلزلة ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾ قال البيضاوي في تفسيره: (يصدر الناس) من مخارجهم من القبور إلى الموقف. اهـ
حاصله: أن الصَدَر (بفتحتين) هو الرجوع من الماء بعد وروده لشرب أو سقي ماشية أو غير ذلك. ثم استعمل في كل خارج من شيء إلى شيء آخر. وفعله ثلاثي من باب نصر، وهو فعل لازم على الأصح، فإذا دخلت عليه الهمزة صار متعدياً يقال: أورد الماشية ثم أصدرها، أي صرفها عن الماء، ثم استعمل الإصدار في كل إخراج. فالصواب أن يقال مثلا: إن المملكة المغربية تُصْدِر الفسفاط والحوامض والسردين بضم التاء وإسكان الصاد.
وأما التوريد: فقال في اللسان، قال أبو حنيفة: الورد نور كل شجرة وزهر كل نبتة، واحدته وردة. قال: والورد ببلاد العرب كثير ريفية وبرية وجبلية.
ووَرُد الشجر: نَوَّرَ، ووردت الشجرة إذا خرج نورها. ثم قال: وورد الثوب: جعله ورداً. ويقال: وردت المرأة خدها إذا عالجته بصبغ القطنة المصبوغة.
ثم قال: تقول: وردت الإبل والطير هذا الماء ورداً. ثم قال: ابن سيدة: وورد الماء وغيره ورداً ووروداً. وورد عليه: أشرف عليه، دخله أو لم يدخله قال زهير:
فلما وردن الماء زرقاً جمامة
وضعن عصي الحاضر المتخيم
معناه: لما بلغن الماء أقمن عليه. ثم قال: وكل من أتى مكاناً، منهلاً أو غيره، فقد ورده.
ثم قال الجوهري: ورد فلان وروداً: حضر، وأورده غيره واستورده أي أحضره. ثم قال: وفي حديث أبي بكر: أخذ بلسانه وقال: هذا الذي أوردني الموارد أراد الموارد المهلكة. اهـ
قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى في سورة القصص (23) ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ﴾ وصل إليه، وهو بئر كانوا يسقون منها ﴿وَجَدَ عَلَيْهِ﴾ وجد فوق شفيرها ﴿أُمَّةً مِنَ النَّاسِ﴾ جماعة كثيرة مختلفين ﴿يَسْقُونَ﴾ مواشيهم.
وقال تعالى في سورة هود (97-98) ﴿وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ. يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ، وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾.
قال البيضاوي: ﴿وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ أي مرشد، أو ذي رشد، وإنما هو غي محض، وضلال صريح ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ إلى النار كما يقدمهم في الدنيا إلى الضلال يقال: قدم: بمعنى تقدم ﴿فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ﴾ ذكره بلفظ الماضي مبالغة في تحقيقه، ونزل النار لهم منزلة الماء، فسمى إتيانها مورداً.
ثم قال ﴿وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾ أي بئس المورد الذي وردوه، فإنه يراد لتبريد الأكباد، وتسكين العطش، والنار بالضد. والآية كالدليل على قوله ﴿وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ فإن من كان هذه عاقبته لم يكن في أمره رشد. أو تفسير له، على أن المراد بالرشيد ما يكون مأمون العاقبة حميدها. اهـ
حاصله: أن التوريد معناه: أن تخرج الشجرة وردها، وأن تصبغ المرأة خدها بلون الورد. فالصواب أن يقال في جلب البضائع من خارج البلاد: الإيراد والاستيراد. وفي إخراج البضائع منها: الإصدار.
15- التعبير بالعمل الجنسي عن المباشرة:
من العبارات الأجنبية التي تزري بمن يعبر بها، وتدل على أنه مزجى البضاعة في لغة الضاد، ترك عبارات القرآن، وهي أجمل وأبلغ، وأوجز لفظاً، وأوضح معنى، وأبعد عن التصريح بما لا يستحسن التصريح به، والتعبير بعبارة أجنبية ثقيلة مبهمة، طويلة اللفظ أعجمية، لا جرم أنه لا يعبر بها إلا من لا يعرف القرآن وبلاغته، وأسرار إعجازه، ومن لا يعرف القرآن لا يمكن أن يعرف اللغة العربية معرفة تمكنه من ناصيتها، سواء أكان مسلماً أم غير مسلم، فإن الأدباء من نصارى العرب يحرصون كل الحرص على قراءة القرآن لا ليدينوا بالإسلام بل ليتمكنوا من الفصاحة إذا تكلموا أو كتبوا باللغة العربية، ومن الفهم الصحيح إذا قرأوا ما كتب بها، وبعضهم لم يكتف بقراءة القرآن، بل حفظه عن ظهر قلب، كالشيخ ناصيف اليازجي والشيخ إبراهيم اليازجي، فلذلك جاءت تآليفهما في الآداب العربي لابسة حلة من البهاء والبلاغة تسحر الألباب، نظيفة من الدخيل والمولد، والتراكيب الأعجمية الثقيلة الباردة.
وقد كان الشيخ إبراهيم اليازجي حريصاً على التعبير بعبارة القرآن كل الحرص، ولما دعاه النصارى ليرشدهم في ترجمة الأناجيل كان يختار لهم العبارات البليغة فيرفضونها تعصباً، زاعمين أنها تشبه عبارات القرآن. انظر كتابه كشف المخبا في الرحلة إلى أوربا، ومجلة الضياء ثمانية مجلدات، ومجلة البيان مجلد واحد، ولغة الجرائد جزء، والواسطة في أخبار مالطة جزء.
وقد عبر القرآن عن هذا المعنى بعبارات من أبلغ الكنايات وأجملها، وأدلها على المعنى، ولم يصرح قط باللفظ المخصص لهذا الحدث. قال تعالى في سورة البقرة (187) ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ، وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾.
وقال تعالى في سورة البقرة أيضاً (237) ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً، فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾.
وقال تعالى في سورة النساء (43) ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ، فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾.
فهذه ثلاثة ألفاظ، المباشرة، والمسيس، والملامسة كلها كنايات. وفي اللغة العربية كنايات أخرى لأداء هذا المعنى لا تعد ولا تحصى، فما حاجتنا إلى جلب تلك العبارة الأجنبية الركيكة الغامضة التي تمسخ الإنشاء العربي، وتخدش وجهه، وتسجل العجز عن لغة الضاد، وتصمها بما هي منه براء.
على أن لفظ الجماع الذي يعبر به الفقهاء في كتب الفقه وفي الوثائق هو أيضا كناية.
قال في القاموس: وجماع الشيء جمعه، يقال: جماع الخباء الأخبية، أي جمعها لأن الجماع ما جمع عدداً. ثم قال: والمجامعة المباضعة، وجامعه على أمر كذا اجتمع معه. اهـ
على أن التشدد في أمر الألفاظ ينافي طباع العرب ويسيء إلى أدب اللغة العربية بل وإلى اللغة نفسها، فإن العرب تتساهل في التعبير والتلفظ، وإنما تتورع في الأقوال والأفعال التي تعد محرمة شرعاً، ولا ترى العرب أن تتأدب بأدب الكنيسة النصرانية وأتباعها الذين يقول لسان حالهم ومقالهم: افعل كل شيء، ولا تقل شيئا والعكس عند العرب هو الصواب.
فالحريري في مقاماته كان عفيف النفس، ولكنه لم يتحرج من التعبير عن المعاني والأشياء الواقعة التي لا ينفك الناس عنها. ومن يريد أن يقلد الكنيسة وأتباعها، ويستهجن مخالفتها يلزمه أن يحذف أربعة أخماس المقامات الحريرية، ويحذف قسماً كبيراً من الأدب العربي شعره ونثره، وذلك هو الخسران المبين.
وقد كان ابن عباس سائراً محرماً في طريقه إلى الحج، فأخذ ينشد بيتاً وهو:
وهن يهمسن بنا هميسا
أن تصدق الطير ننك لميساً
فقال له رجل: كيف تقول هذا، وأنت محرم بالحج، وقد قال الله تعالى ﴿فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج﴾ فقال له ابن عباس: إنما الرفث ما كان بحضرة النساء.
أكتفي بهذا القدر وموعدنا المقال التالي بحول الله وقوته.
مكناس: الدكتور تقي الدين الهلالي
مجلة دعوة الحق: العددان 98 و 99 (العددان 6و7 – السنة 10) – محرم 1387هـ – أبريل-ماي 1967م – ص:26-30