فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا
فاذهب فما بك والأيام من عجب
نعم! هذه حقيقة مرة يجب أن لا نغالط أنفسنا في وقوعها، ولاشك أنها ثمرات غرس أعدائنا، ومن موجعات القلب التي لم نكن ندري ما هي حتى هلك استقلالنا، وتولت عزتنا، ولعبت يد الأجنبي في تدبير شؤوننا.
وإن كنت في شك من ذلك فاقرأ المقال التالي وهو قلّ من كثر، ونقطة من بحر هذا المكر، تتحقق أن آية الدمار قد حقت علينا وصرنا ممن يخربون بيوتهم بأيديهم بعد أيدي أعدائهم، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
ويزيدك غرابة أن تعلم أن كاتبه من أبناء جلدتنا، وأغرب منه أن توسل به إلى نيل طلبة مما في يد حكومتنا العربية، وأنه نشر في صحيفة سيارة يومية ومضى عليه حين من الدهر ولم نر ردا عليه ولا إشارة لعجره وبجره. أما ما فيه من الخطل والتهجم المشفوع بالتجهم، فتراه إن شاء الله فيما بعد. ودونك المقال ملخصا:
قال الكاتب الناقد:
(الأدب) روى الجاحظ عن محمد بن علي بن عباس أنه قال: (كفاك من علم الدين أن تعلم ما لا يسع جهله، وكفاك من علم الأدب أن تروي الشاهد والمثل).
هكذا كان ينظر القدماء أوجلهم إلى الأدب: تحفظ الشاهد لترويه، وتقرأ المثل لتحكيه. أما أن الأدب فن يمثل ألوان الحياة من خير وشر، وحسن وقبح، ويكشف عن خوالج النفس ولواعج القلب فذلك شيء لا يكاد يعرفه أدباء العرب الأقدمين (كذا) ولهذا ترى كتبهم الأدبية مشحونة بالأخبار المتنوعة والطرف الأدبية المختلفة بالمعاني (كذا) والقطع الفنية، ولكنهم جمعوها بعضا لبعض وألفوها كتبا أدبية. وقل ( كذا ) سموها كتبا أدبية… وكلها مضطربة سيئة الترتيب والانسجام (كذا) لا يعرف لها بداية ولا نهاية، ولا أثر في ترتيب الخواطر والأفكار… وسبب كل هذا الاضطراب هو فهمهم الأدب على نحو يخالف النحو الذي نفهمه الآن، فنحن الآن نفهم الأدب كضرورة (كذا) من ضرورات الحياة، وكثيرا ما ندرسه؛ لكي نزداد شعورا وجمالا (كذا) بهذه الحياة. أما العرب القدماء فلم يكونوا يذهبون في فهم الأدب هذا المذهب. وإنما يحسبون الأدب مجموعة أخبار منوعة (كذا) النواحي والغايات. وحسبك أن تعلم أن ابن خلدون حينما أراد أن يذكر تعريف العرب للأدب لم يزد على قوله : “ثم إنهم حين أرادوا حد هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها، والأخذ من كل علم بطرف”. وهو تعريف ظاهر الفساد في كل كلمة من كلماته. فليس الأديب هو الذي يحفظ أشعار العرب وحدها؟ فرب أديب قرأ الكثير من أشعار العرب، ولم يحتج إلى حفظها ليكون أديبا، ورب امرئ حفظا الكثير من أشعار العرب، ومع ذلك ليس بذي حق أن يسمى أديبا لأنه لا يستطيع الإجادة بهذا (كذا) الفن إجادة تستهوي القارئ، وتجلب (كذا) لبه. وقل مثل هذا عن أخبار العرب التي ذكرها ابن خلدون في تعريف الأدب، فليس من وظائف الأديب أن يلم بأخبار العرب، وفيها من السخف الشيء الكثير ليدعى الأديب ؟؟؟…. وأما قوله: (والأخذ من كل فن بطرف) فيفهمنا أنه يطلق الأدب على جميع العلوم، وليس الأدب كذلك، فكثير من العلوم ليس بينها وبين الأدب قرابة ولا نسب.
إذن فتعريف العرب للأدب كما ذكره ابن خلدون فاسد المعنى.
ولقد كان القدماء يذهبون في فهم الأدب مذهبا يخالف المذهب الذي ذكره ابن خلدون، بل يعاكسه لفظا وموضوعا، فقد روى صاحب كشف الظنون (الأدب علم يحترز به عن الخلل في كلام العرب لفظا وكتابة)، وهذا التعريف يصدق على علوم الصرف والنحو والبلاغة. أما أنه تعريف للأدب فهيهات، وهذه العلوم ليست هي علم الأدب -دون شك-، ولكنها من دعائم على الأدب. والأدب في حاجة إليها……. ولقد ذهب آخرون مذهبا آخر في فهم الأدب وجعلوه وثيق العلاقة بالدين. فقد قيل لعمرو بن عبيد ما البلاغة؟ فقال: (ما بلغ بك الجنة وعدل بك عن النار، وما بصرك مواقع رشدك وعواقب غيك) وبديهي أن هذا التعريف أضعف من أن يقف في وجه النقد والتمحيص، وبديهي أنه يعني بالبلاغة الأدب).
يتلخص هذا النقد النزيه!؟؟ المراعى فيه جانب الأدب مع الأمة العربية؟؟ فيما يلي :
(1) زعم أن ما نقله الجاحظ عن محمد بن علي هو رأي جميع أدباء العرب، أو جلهم.
(2) أن التعريف الحقيقي للأدب عند هذا الناقد البصير؟؟؟ أنه “فن يمثل ألوان الحياة من خير وشر وحسن وقبح، ويكشف عن خوالج النفس ولواعج القلب”.
(3) قال فذلك شيء لا يكاد يعرفه أدباء العرب الأقدمين (لحن).
(4) فساد ترتيب كتبهم.
(5) أن ذلك ناشئ عن سوء فهمهم للأدب الذي يفهمه الناقد، ولا معقب لفهمه.
(6) تهجمه على الإمام ابن خلدون، وزعمه أن تعريفه للأدب فاسد.
(7) نقل عن صاحب كشف الظنون أنه روى تعريفا للأدب، ولم يذكر عمن رواه، ولكنه نسبه جرأة وتهورا إلى جميع القدماء، ورد قولهم.
هذا ملخص ما جاء في ذلك المقال. أما اللحن والخطأ فقد أشرنا إليه بقولنا (كذا) ولم نر تضييع الوقت في شرحه لكثرته وكون صاحبه ممن لا يعد عليهم الخطأ.
(1- نقل الجاحظ عن محمد بن علي)
(أ) ليس مقصود محمد بن علي بذلك القول تعريف الأدب، ولا هو قصد الجاحظ، كما هو واضح في العبارة لمن كان له فهم غير سقيم، وقلب سليم، ونهج مستقيم.
(ب) كان عليه أن يذكر الكتاب والصفحة التي نقل منها كلام الجاحظ، كما هو شأن نقاد العصر، فما له سلك مسلك القدماء، وهو يذمهم، وجاء بنقل غفل، أهكذا يكون التجدد؟
(ج) لو فرضنا أن محمد بن علي أحد المؤلفين في الأدب، وأنه قصد بمقالته تلك تعريف الأدب، فبأي فهم وبأية حجة يزعم زاعم أن أدباء ذلك العصر وأدباء عصر الجاحظ أجمعوا على ذلك التعريف.
(د) أن معنى كلام محمد بن علي في واد -كما يعلمه أكثر العامة فضلا عن الأدباء- وما فهمه الناقد في واد؛ لأن قوله: “كفاك من علم الدين أن تعلم ما لا يسع جهله” ليس بتعريف للدين؛ لأن الدين غير محصور فيما لا يسع جهله، ولم يُرِد القائل حصره، وإنما أراد بذلك صرف الهمة إلى العمل، والاكتفاء بما لابد منه لعامة الناس، ضرورة أنه لا يجمل أن يكون الناس كلهم أئمة في الدين، ولو وقع ذلك لتعطلت الأعمال الحيوية. فذلك قوله: “وكفاك من علم الأدب أن تروي الشاهد والمثل” يعني إذا أردت أن تكون من المشاركين في الأدب لا من النوابغ المتخصصين فحسبك منه أن تورد الشواهد لتصحيح حديثك، والمثل لتزيين كلامك. وهذا كلام صحيح معقول في القديم والحديث والمستقبل. وبه تعمل الأمم البالغة أوج الرقي في هذا الزمان، ولولا عمى البصيرة وسوء النية وسقم الفهم وإرادة الهمز والشتم ما وجد واجد عيبا في هذا الكلام.
وكـم من عائب قـولا صحيحا
وآفـتـه مـن الفــهـم السـقـيم
ومـن يـك ذا فـم مر مريـض
يجــد مــرا بــه المــاء الــزلالا
(هـ) أن كَنَّاس محمد بن علي، بَلهَ سائر خدمه أبلغ في القول وأعلم بالأدب من هذا الكاتب الذي شحن مقاله بالأخطاء واللحون، وأتى منها بفنون. فأين هو وأين طلبة الأدب في هذا العصر؟ فكيف بأهل ذلك العصر الأموي والعباسي الذي أجمع النقاد الشرقيون والغربيون أنه هو العصر الذهبي للغة الضاد؟؟ وقد خلف أهله ثروة أدبية عظيمة أغرق منها في دجلة في نكبة التتار ما أغرق، وأحرق منها في الأندلس ما أحرق، ودرس منها بانحطاط العرب ما درس، ومد علماء أوربة ودولها أيديهم على البقية الباقية فاختطفوها وأودعوها خزائنهم، وعلى ذلك لا يزال في أيدي العامة ما أدهش أدباء العالم حتى أعملوا أقلامهم في الإشادة بفضل أدباء العرب ولاسيما أدباء العصر الذي ذمه الناقد.
أليس من المساخر أن يقوم تلميذ أعجمي القلم واللسان، ويناقش الحساب أساطين الأدب في أزهى عصوره؟ أليس هذا من نتائج الفوضى في هذه البلاد؟ لو أن تلميذا إنكليزيا في دركته أخد ينتقد شكسبير، أو ميلتون، أو جونسون، أو جونثان سويفت وأمثالهم في الأدب، ماذا كان يكون نصيبه؟ لو أن تلميذا مثله فعل ذلك في بلاد كبلاد الإنكليز لزلزلت الأرض زلزالها، فكان يعقد له مجمع علمي فإما أن يكون نابغة النوابغ وآية الآيات، وصاحب معجزات، فبعد الاختبار والتحقيق تستغل البلاد نبوغه ويجدد عهد العلم والأدب، ويستدرك على العلماء فتنسخ شمسه آيات نجومهم، ويلبس حلة قشيبة من عبقريته ويقال: كم ترك الأول للآخر! وإما أن يكون به مس من جنة فيقاد إلى مستشفى المبرسمين، ويعالج، وإما أن يكون مجرما دسه أعداء الأمة ليغض من كرامتها ويتخون من شرفها بالنيل من أساطين أدبائها المقدسين عندها، فينال جزاء جرمه، ويدفع ثمن تهجمه غاليا.
(و) سلمنا جدلا أن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أراد بقوله: “وكفاك من الأدب أن تروي الشاهد والمثل” حصر على علم في رواية المثل والشاهد فهو معقول عند من له معقول، وهو يقول ما يعرف، ويعرف ما يقول ويعنيه، ويذهب إليه؛ لأن الرجل الذي يروي الشاهد إما أن يرويه ويستشهد به على لا شيء وهو باطل لأنه لا يسمى شاهدا إلا إذا شهد لحكم من الأحكام أو أمر من الأمور بالصحة. وإما أن يرويه ليبرهن به على صحة مدعاه وجعله مقبولا عند السامع والقارئ. ولا يتيسر ذلك إلا للأديب، فهو الذي يدعم حديثه بالشواهد التي تذعن لها النفوس، وتستولي عل الألباب، وتدخل الآذان بغير استئذان.
ثم إن قوله وتروي المثل، إما أن يتمثل به بعد روايته في لا شيء وهو فاسد غير معقول أو يتمثل به في موضعه الذي ينبغي أن يورد فيه، ويرصع به إنشاءه ويضربه ليخلب به قلب القارئ ويأسر به لبه ويطربه، وهذا من اخص أوصاف الأديب مطلقا في كل زمان ومكان وبأي لسان، وفيه يتنافس المتنافسون ولا يظفر به إلا نوابغ الأدباء. والتمثيل يفعل بالنفوس ما تفعله الخمر والسحر. فمتى كان الكلام مدعما بالشواهد مزينا بالأمثال، كل منها قد حل محله اللائق به، فذلك هو الأدب بعينه. فكلام محمد بن علي وإن لم يقصد به تعريف الأدب فإنه اشتمل على خاصيتين عظيمتين من خواص الأديب. وأنا على يقين أن أدباء العصر الذين يريد كاتب المقال أن يحشر نفسه ويدسها فيهم يرون أن ما رواه الجاحظ عن محمد بن علي من درر الأدب الثمينة التي لا تبلى لملاءمتها لكل زمان ومكان ولغة كما مر، ولكن يرحم الله القائل :
سأكتم علمي عن ذوي الجهل طاقتي *** ولا أنثـر الـدر النفيس إلى الغنـم
(يتبع)
محمد تقي الدين الهلالي
صحيفة الفتح، العدد 456 العام العاشر – 2 جمادى الأولى 1354 – ص 18-19 و 21