(ما معنى الأدب في اللغة الانكليزية)
نورد هنا ما في المعاجم الانكليزية من معاني الأدب (ليترتشر)، قال في المعجم الصغير لأكسفورد ما ترجمته: “الأدب الكتب والمكتوبات الإنشائية ولاسيما إن كانت بنفس عال وأسلوب نفيس. ومملكة الحروف. وكتابات عصر معين أو بلاد معينة، وثمرة تلك الكتابات أو مؤلفيها. واشتقاق هذا اللفظ من (ليتر) وهو حرف” اهـ. وقال صاحب المعجم الموسوم (هوم ديكشنري): “الأدب لفظ أخذته اللغة الانكليزية من الفرنسية والفرنسية من اللاتينية وأصله فيها (ليتريتورا) معناه: العلم، ومعرفة الحروف أو الكتب، والكتابات التي أنتجتها أمة بعينها أو عصر خاص، ولاسيما المنشآت الكتابية المؤثرة بأسلوبها، والمقالات الانتقادية والشعر، والإنشاء البديع، وما يقابل المنتوجات العلمية” اهـ.
وسألت أنا غير واحد من أدباء الانكليز والأمريكيين عن معنى لفظ “الأدب” عندهم فكان جوابهم واحدا وهو “الإنشاء النفيس العالي نظما ونثرا” وآخر من سألته منهم الأديبة المؤلفة (هاوارد كليتي Howard Clitty) النيويوركية بمنزل الأديب القانوني النبيل خان بهادر ميرزا محمد خان حفظه الله وبحضوره، فكان جوابها كما تقدم. فذكرت لها ما في المَعْلَمة البريطانية (أنسايكلوبيديا بريطانيكا) وتقدم ذكره فوافقت عليه وقالت: “هذا أحسن ما يقال في الأدب”. وكذلك وافق على ذلك الأديب الكبير صاحب المنزل.
وقد بان لك أن تعريف هذا المتهجم للأدب هو من مخترعات وهمه، يباين كل المباينة تعريف الأقدمين والمحدثين من العرب والعجم، الشرقيين والغربيين، فنهنئه بهذه العبقرية الشاذة الفاذة.
(3)
يفهم جوابه من جواب الثاني
(4)
“عاب الناقد كتب الأدب العربي أي عيب بفساد الترتيب والاضطراب وسوء الانسجام (كذا) وأنها لا تعرف لها بداية ولا نهاية”.
وهذه شكاة ظاهر عارها عن الأدباء، وهي تهمه لو صحت لكانت ألصق بالمؤلفين منها بالأدباء، لأن الأديب إذا قال قصيدة نزلت على قلبه من سماء البيان فليس بلازب أن تكون مرتبطة بما قبلها من الشعر وما سيقوله بعدها منه، وإلا لم يكن شاعرا بل ناظما، لأن الحوادث والمشاهد والبواعث التي تفجر أنهار الشعر غير معروفة عند الشاعر فضلا عن أن تكون محدودة. أما الناظم فيطلب منه حسن الترتيب والتبويب، لأنه مصنف لا لأنه أديب وليس على منظومات العرب غبار في حسن السبك والترتيب. وقد نظم الحريري أبو القاسم البصري ملحة الإعراب وهي من أوائل المنظومات الجزرية المشروطة فجاءت آية في البيان مع أداء الغرض الذي له ألفت. ومع كونها منظومة علمية فلو قاسها قايس بموشحات الأوربيين الأدبية لما قصرت عنها في مضمار البلاغة، ونظم العلماء والأدباء بعد منظومات كثيرة في فنون كثيرة، فمن مشهورها الكافية لابن مالك في ألفين وسبعمائة بيت والألفية له في ألف والتحقيق أن الأولى خمسة آلاف وأربعمائة والثانية ألفان، وألفية ابن معطي الزواوي المغربي وكلتاهما في النحو والأخيرة طبعت في أوربا، وألفية السيوطي فيه وألفيته في علوم الحديث وألفية العراقي فيها ولامية الأفعال لابن مالك طبعت مع شرحها في أوربا ونونية ابن القيم في فلسفة الإلاهيات في خمسة آلاف بيت من بحر الكامل ونونية القحطاني الأندلسي في ذلك وأبياتها مائتان ألخ ما هنالك، ونسيت أرجوزة الشيخ الرئيس ابن سينا في العلوم العقلية إلى ما يحصى.
أما دواوين شعرائهم الكثيرة التي بذَّت دواوين من قبلهم ومن بعدهم جودة وكثرة فمنها المرتب على حروف المعجم ومنها المرتب على تاريخ القصائد والمقطوعات، ولم يزل الشعراء إلى الآن يسلكون الطريقين، وقد يرتب الديوان على أبواب الشعر كالمدح والرثاء والنسيب والأدب الخ كما فعل أبو تمام في الحماسة، وهذه دواوين شعراء الافرنج أمامنا لا تخالف جملة دواوين العرب لا قديما ولا حديثا، وكل عيب راجع إلى الترتيب وجه إلى هذه فهو موجه إلى تلك فينتهي العائب حينئذ بعيب نفسه وكشف القناع عن جهله.
نعم إن أنواع الشعر عند العرب ليست هي بعينها أنواعه عند الافرنج، وقد عد الأستاذ فريد وجدي هذا نقصا في شعر العرب ! وفيه نظر ظاهر، لأن أصناف الأدب تختلف عند الأمم لاختلاف العادات والطوارئ والمعايش وغيرها من المقومات، وهذا شيء طبيعي من طمع في خلافه –وهو توحيد أنواع الأدب وطبائع الأمم المختلفة التي عنها ينشأ اختلاف آدابها- فقد دل على جهل عظيم وفكر عقيم، وقد أشارت إلى هذا دائرة المعارف الانكليزية السالفة الذكر تحت لفظ (ليتريتشر) وهو شيء متفق عليه لا يحتاج على دليل. هذه لمحة في المنظوم حسبما يتسع له صدر مقال.
وأما كتب النثر فهي على أحسن ما يرام من الترتيب، فمنها المجاميع كالأمالي والكامل والبيان والتبيين وأمالي الشريف المرتضى وما أشبهها. وهي كتب لم تؤلف في غرض بعينه حتى تبوب وتصير لها مقدمة وخاتمة. ولم يقصد ذلك مؤلفوها، بل قصدوا إلى خلافه لأن النفوس قد تسأم من البقاء على طعام واحد وتريد أن ترى أمامها موائد أدبية مختلفة الألوان والطعوم ليس بينها رابطة إلا الإبداع والجمال وسحر البيان، فتنتقل النفس من طرفة إلى طرفة ومن ملحة إلى ملحة، ويلذ لها تنقلها كما قال الشاعر العربي:
تنقل فلذات الهوى في التنقل
ورِدْ كل صاف لا تقف عنه منهل
ولا تعتبر قول امرئ القيس إنه
ضليل ومن ذا يهتدي بمضلل
وليس مقصود الأئمة من هذه الكتب الوجهة الأدبية وحدها بل الوجهة العلمية الآلية كالنحو والصرف والاشتقاق والعروض واللغة فهي أشبه شيء بكتب القراءة أو المطالعة التي يستعملها الأوروبيون في المدارس في هذا العهد. لا يقال إنها تختلف عنها من وجوه: منها أن هذه منقسمة إلى دروس كل منها قد ينقسم إلى عدة أقسام وأنها درجات، فالكتاب الأول أقرب تناولا من الثاني والثاني أقرب من الثالث ثم كذلك لأنا نقول أن هذا الاختلاف لا يمس جوهر ما نحن فيه –وهو التبويب والترتيب وحسن التصنيف- وإنما يختلف باختلاف هيأة التدريس اليوم عنها بالأمس وباختلاف الطلبة في الإدراك في العصرين. أما كون تلك الطرف الأدبية دررا منثورة كنجوم السماء يصح –كما قال المعترض- أن يجعل أولها آخرها أو وسطها وبالعكس فهو موجود في كتب المجاميع الأدبية وفي كتب القراءة اليوم جميعا وكما أنه لم يضر هذه اليوم ولم يشنها فلا يشين تلك بالأمس.
بل عندنا أوضح من ذلك وهو كتب القراءة في درس الأدب الانكليزي كسلسلة “هاي رودز أف ليتريتشر” لا تختلف عن المجاميع الأدبية التي يسميها هذا المتطفل (كتب القدماء) قاصدا عيبها بالقدم ولم يدر أن الأدب –من حيث هو أدب- لا يقدم ولا يؤثر فيه مرور الزمن بل لا يزال غضا طريا حافظا لقيمته وشرفه. ومن اطلع على كتب الأدب لأساطين البيان وفرسانه في هذا العصر من الأوربيين يراهم يعدون من الأدب أول شيء عثر عليه الباحثون من الكتابات والنقوش ويجعلون الكتب المقدسة عند أهل الأديان من أهم كتب الأدب مع أنه قد مضى على بعض ذلك آلاف من السنين ولم ينقص ذلك من قيمتها الأدبية.
وقد ترجمتُ مقالا من مجلة (ذي مسلم ريفيو) التي تصدر في لكناو-الهند جمع فيه كاتبه ما قاله علماء أوربة المتقدمون والمعاصرون في القرآن من جهة بلاغته وأدبه من الثناء والإعجاب ما يندر أن يقولوه في نتاج أي نابغة من نوابغ الأدب في الأعصار الأخيرة. وكذا عندي كتب انكليزية من أعلى الكتب وأجلها قدرا وفيها الثناء العاطر على القرآن من الوجهة الأدبية مع أن القرآن ليس مبوبا ولا مرتبا ترتيب القصص الأوربي ولا ترتيب المصنفين وقد مضى على نزوله زهاء أربعة عشر عصرا ولا يزال جديدا غضا عند أساطين العلم في أوربة وأمريكا. وأما ثناء علماء الغرب على أدب العرب القدماء فنظرة عجلى في دائرة المعارف الإسلامية تريك منه أكثر مما تريد.
فظهر لك مما تقدم أن عيبه لأدب العرب وكتبه بالقدم ناشئ عن غلظ طبع وسوء نية وفهم. وأحسب أن ترك أدباء العراق الرد على هذا الكويتب إنما كان احتقارا لهذيانه وهو بذلك جدير. وإنما تصدينا لإعلان سخافته وبيان شيء من فساد كلامه ليعتبر الناس وينظروا إلى أي حد بلغت الوقاحة والفوضى في هذه البلاد.
(يتبع)
محمد تقي الدين الهلالي
مجلة الفتح، العام العاشر، عدد 485، الخميس 16 جمادى الأولى 1354 ص: 10-11.