(5)
“إن فساد ترتيب كتب الأدب ناشئ عن عدم فهم للأدب”
كبرت كلمة تخرج من فيه إن يقول إلا كذبا. أليس من الجنون المطبق أن يقول قائل: “إن العرب من أول عهدهم بالأدب إلى الأزمنة المتأخرة لم يفهم أحد منهم معنى الأدب؟”. هذا يقتضي أنه لم يكن فيهم أديب أصلا، إذ يستحيل عند من يعلم ما يقول أن يوجد أديب لا يعرف معنى الأدب. إذن كل ما جمعه ياقوت في كتابه معجم الأدباء كان ضلا بتضلال، كل ما جمعه المقري في نفح الطيب كان باطلا ولغوا، وكل ما جمعه ابن قتيبة في مؤلفاته من قبل كان عبثا، وهذه الدواوين العربية التي ملأت الدنيا وقد طبع منها في أوربة فقط ما يعز على أكثر الأمم أن تبرز مثله، وترجم إلى لغات أوربية منها شيء كثير جدا، وصدر بمقدمات مفعمة بالثناء والإعجاب من أساطين الأدب ونقاده، ولو أردنا أن نسرد جزءا من ذلك باختصار لصار هذا المقال تأليفا. ولعل هذا الغر المسكين لم ير شيئا من ذلك ولم يسمع به. فالكلام مع الخفافيش أمثاله ومحاولة إقناعهم بوجود الشمس ضرب في حديد بارد
وكيف يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل؟
وأما تهجمه على الإمام ابن خلدون وزعمه أنه عرف الأدب تعريفا فاسدا فإنه يجعله مسخرة لجميع العلماء والطلبة كلها، بل يكون سبة على البلاد التي يكون مثل هذا معلما للأدب في مدرسة متوسطة من مدارسها وأحد الأدباء النقاد من أهلها
(6)
نقله تعريف الأدب عن صاحب كشف الظنون في معرض انتقاد تعريف الأدب عند الأدب القدماء، مع أنه عالم تركي من المتأخرين، وهو كاتب جلبي حاجي خليفة مؤلف كتاب كشف الظنون[1] ونسبة ذلك التعريف إلى جميع العرب ثم مؤاخذتهم عليه، كل ذلك خبط وخبال يوجب على من يراه أن يحمد الله على العافية ويشكره على سلامة عقله قائلا: “الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيرا من خلقه”. ولا يفهمن أحد أننا ننسب ما جاء في هذا المقال السيء إلى أحد من أدباء العراق الحقيقيين، ولا إلى نجباء تلامذتهم، فمعاذ الله من ذلك.
في أشعار العرب السخف الكثير
كذلك قال الكاتب الناقد في مقاله عند اعتراضه على تعريف الإمام بن خلدون وحضه المتأدب على حفظ أشعار العرب ومعرفة أيامها. لم يرق ذلك الناقد البصير فقال: “وكيف ينبغي للأديب أن يحفظ أشعار العرب وفيها من السخف الشيء الكثير؟” وهذا من أسطع البراهين على أنه لم يشم رائحة الأدب عربيا كان أم عجميا، وإلا فكيف يعقل أن يكون أحد أديبا في لغة وهو معرض عن أشعارها لا يحفظ ولم يحفظ منها شيئا؟. ثم انظر في التعليل الذي علل به كلامه تجده عليلا غير معقول أجنبيا عن هذه المباحث. وماذا يعني بالسخف؟ لا أدري، إذ لم يبينه ولا أشار إليه. فإن كان يريد أن جميع أشعار العرب سخيفة من جهة البلاغة، فأمة هذه حالها لا أدب لها أصلا، لأن السخافة من هذه الوجهة تنافي البلاغة وهي الأدب. وإن كان يريد من جهة الأخلاق أو المدنية فقد شهد على نفسه بالحرمان من الأدب، لأن الأديب لا يعنيه البحث عن المعنى أهو حسن من حيث الأخلاق أو قبيح فإذا نظر في قول امرئ القيس مثلا:
فأصبحت معشوقا وأصبح بعلها
عليها قتام سيء الظن والبال
الأبيات، فهو إنما ينظر القوالب اللفظية التي أفرغ فيها الشاعر المعاني وفي نظم الكلام وسبكه وخلابته، وعلى حسب ذلك يحكم.
ولا يهمه فجور امرئ القيس فما هو بواعظ ولا حسيب. وكذا إذ نظر إلى قول امرئ القيس:
نَمُشُّ بِأَعْرَافِ الْجِيَادِ أَكُفَّنَا *** إِذَا نَحْنُ قُمْنَا عَنْ شِوَاءٍ مُضَهَّبِ
لا يبالي بكون شظف العيش بلغ بامرئ القيس وهو ابن ملك أن لا يكون عنده منديل يسمح فيه يده بعد الطعام فيتخذ عرف جواده منديلا.
وأختم هذا المقال بالاعتذار إلى القراء من عبارات خشنة صدرت مني أثناء المناقشة لأن الكاتب طعن في شرف أمة أنا منها وأقدسها غير أني لا أقول بعصمتها ولا أقول فيها مقالة بني إسرائيل في شعبهم ولا مقال البراهمة في أمتهم، فمن انتقدها بحق وأدب كنت نصيره. ولأن الكاتب وجه تهكمات وألفاظا جارحة بوقاحة لأعلام أمة مجيدة لم يكونوا أهلا لذلك {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل}.
البصرة
محمد تقي الدين الهلالي
الهوامش:
[1] واسمه مصطفى بن عبد الله (1071-1067هـ) عن دائرة المعارف الإسلامية
مجلة الفتح، العام العاشر، عدد 459، الخميس 23 جمادى الأولى 1354 ص: 16-17.